القارب الذي أقلنا الى جزيرة "أوسان" من ميناء مدينة برست الفرنسية لم يحملنا لسياحة هذه الجزيرة الصغيرة العائمة على اطراف الساحل الشمالي الفرنسي للمحيط الاطلسي ، القارب قادنا الى منفي تونسي وضع تحت الاقامة الجبرية اسمه "صالح كركر" .. كان ذلك يقول احد رفاق كركر في شتاء 1993 حينما بدأت رحلة صالح كركر الطويلة مع الايقاف والمنافي داخل المهجر الفرنسي ووصولا الى شلله النصفي وفصله نهائيا من حركة النهضة التي كان أحد مؤسسيها الثمانية. في منفى كركر واقامته الجبرية بالذات وفي سياق قطعية مع حركته الام صدرت دعوته المدوية للاسلاميين في العالم العربي الى الذوبان في الاحزاب السياسية العلمانية والى الفصل بين الديني و السياسي ! كيف وصل كركر الى مثل هذه الخلاصة الفكرية وسط محنة شخصية وعائلية لم تندمل اثارها الى اليوم..هذا بورتريه يبحث في لغز اسمه صالح كركر . لا أحد يريد ان يتحدث تقريبا في امر صالح كركر من رفاق الامس .بعد معانات طويلة مع المرض في ضاحية مدينة "أوبان" في ضواحي باريس غادرنا بشكل نهائي حيث دفن في احد قرى ولاية المنستير حيث ولد. قبل موته بعدة اشهر هاتفت زوجته ورفيقة دربه للقائه في شهر نوفمير الماضي ردت انه "متعب ولا يستطيع الحديث الا بالكاد" .. اعتذرت زوجته و لكنها اكدت انه بصدد اتمام بعض الاجراءات الادارية التي تحول بينه وبين التنقل بعد 18 سنة قضاها تحت الاقامة الجبرية وانه سيعود قريبا في زيارة قصيرة الى تونس التي غادرها خفية في صيف سنة 1988 الى لندن في مرحلة اولى ثم الى باريس أين طلب اللجوء السياسي ، سنتها كان بن علي في بداية عهده الجديد في قصر قرطاج. من تحدثوا الينا عن السيرة "شبه المحرمة" لصالح كركر فضلوا في غالب الاحيان التستر على أسمائهم ، فهذا ملف "ليس من المصلحة فتحه" بالنسبة للبعض و "ليس وقته" بالنسبة للبعض الاخر هو "ملف حساس وفيه الكثير من الاسرار والطلاسم" بالنسبة لفريق ثالث خاصة ان معظم الذين عرفهم كركر ويعرفونه أصبحوا اليوم على سدة الحكم فيما كان اخرون يتابعون السياسية من بعيد حينما ظهر هو في مساجد الساحل والعاصمة كأحد قيادات الجماعة الاسلامية متسلحا بشهادة جامعية في الاحصاء ومبشرا بامكانياته في تأصيل ما أطلق عليه فيما بعد بالاقتصاد الاسلامي. هناك اسئلة في ملف صالح كركر لا يسطتيع صاحب الشان نفسه ربما الاجابة عنها فكل المنظمات الحقوقية الفرنسية لا تعرف الاسباب الحقيقة التي ادت الى وضع كركر رهن الاقامة الجبرية في أكتوبر من سنة 1993 ! ففي ذلك التاريخ تقريبا أوشك بن علي ان ينهي حملته الامنية الواسعة على الاسلاميين فيما باتت الجزائرتعيش كابوس الحرب الاهلية على وقع تغول الجماعة الاسلامية المسلحة وسط الاغتيالات و التفجيرات اليومية التي وصلت بعض اثارها فيما بعد الى قلب العاصمة الفرنسية باريس فيما عرف بتفجيرات سانت ميشال. وسط هذه المخاوف التي عاشتها فرنسا ألقي القبض على كركر ونفي الى اكثر من مكان داخل فرنسا من شمالها الى أعماق ريفها ووضع في الغالب في اقامات صغيرة محاطة بعدد من رجال الامن الفرنسيين يراقبونه يوميا ويخضع كل زائريه الى وجوب الاستظهار بترخيص من وزارة الداخلية الفرنسية لمقابلته. بررت السلطات الفرنسية هذا الاجراء وقتها بان كركر بات يمثل "خطرا على الامن القومي الفرنسي" دون تقديم هذه السلط اي دليل مادي لماهية هذا الخطر هذا في الوقت الذي استبعد مطلب ترحيله عن فرنسا بسبب حكم الاعدام الصادر ضده بتونس منذ سنة 1987. تقول شهادة أحد المقربين منه "ان جهات عدة استفادت من وضع كركر تحت الاقامة الجبرية ففضلا عن السلطات الفرنسية التي صنفت كركر ضمن الاشخاص الخطرين استفاد نظام بن علي نفسه الذي كان يعتبر كركر ممثلا للخط المتشدد للنهضة في الخارج ويعتقد البعض ان السلطات الامنية التونسية قدمت لشارل باسكوا وزير داخلية فرنسا في تلك الفترة ما يثبت علاقة ما بين كركر واستعمال العنف فيما يلخص صاحب الشأن ما حصل له "بصفقة التقت فيها مصلحة أطراف عدة" . مما لا شك فيه بالنسبة للمقربين من كركر ان النظام التونسي ارتكز على تفجيرات نزل سوسة في صيف سنة 1987 للمضي في اتهاماته و توريط الرجل وهي اتهامات زادها تعقيدا أن كركر اشار في اكثر من مقال في تلك الفترة الى ضرورة مراجعة الحركة الاسلامية لاساليب عملها العنيفة بما اعتبر اقرارا ضمنيا باخطاء سابقة قع فيها الاسلاميين. غير ان البعض من المقربين من حركة النهضة يذهبون الى تفسير اخر لوضعه تحت الاقامة الجبرية مؤكدين ان قرار اخضاع كركر لهذا الاجراء الامني بني على ملف اخر غير الملف التونسي ويقولون ان هناك تسريب ما حصل من وزير الداخلية شارل باسكوا لخبر علاقة خفية بين صالح كركر وعناصر من الجماعة الاسلامية المسلحة بالجزائر مقيمة بفرنسا وكان هذا التسريب دافعا من اجل تأكيد الاتهامات ضد الرجل لكن وللمفارقة أن السلطات الفرنسية لم تقم بتقديم كركر للمحاكمته بما يثبت بالنسبة للبعض غرابة هذا الاجراء وتهافته ودوافعه السياسية والامنية المجهولة. على كل فان حرج النهضة من ملف كركر دفعها في مرحلة أولى الى تجميد عضويته لكونه لامحالة غير قادر على ممارسة اي نشاط سياسي في صلبها غير ان هذا الاتجاه تدعم فيما بعد بسبب اكثر معقولية بالنسبة لبعض أنصار النهضة. ففي فترة كانت فيها الحركة تخوض حربا اعلامية غير مسبوقة مع نظام بن علي من أجل التأكيد على طابعها السلمي والمدني كانت بعض كتابات كركر تقول العكس وتقدم التعلات لنظام 7 نوفمبر من أجل الترويج في المحافل والتظاهرات في الخارج ان النهضة حركة ارهابية واستعان النظام في ذلك ببعض من مراجعات كركر ونقده لقيادة الحركة. لهذا السبب مثل كركر بحسب أحد مصادر النهضة "مشكلا لا يتناسب مع تأكيد الحركة على طابعها السلمي في فترة كانت فيها تخوض صراعا مريرا طيلة سنوات التسعينات مع نظام بن علي من أجل التأكيد على ان سجنائها في الداخل هم سجناء رأي ولا علاقة لهم بالعنف كما يروج اعلام بن علي أجهزته الامنية وهي الحجة التي كان النظام يستعملها في تبرير بقائهم في السجون ونفي صفة المساجين السياسيين عنهم ". غير أن النهضة التي جمدت نشاط كركر في مرحلة اولى ورغم الحرج الامني الذي لازمها لم تتخذ قرار فصل كركر من صفوفها الا بعد حوالي تسعة سنوات من حضوعه للاقامة الجبرية أي يوم 24 أكتوبر 2002 ، لماذا هذا التاريخ بالذات ؟. لا توجد اجابة دقيقة حول "صبر" الحركة كل هذه المدة قبل الطرد النهائي لكركر من الحركة ولكن الترجيح الاقرب هو بحسب كركر وهو امر تقر به بعض قيادات الحركة ذاتها هو الدراسة التي كتبها كركر ونشرها من اقامته الجبرية والتي دعا فيها صراحة للفصل بين ما هو سياسي و ديني"! هذه الدراسة التي نشرها كركر في عدة مواقع الكتورنية في ذلك الوقت طالبت الاسلاميين بالذوبان في الاحزاب السياسية الموجودة في البلاد و التخلي عن فكرة اقامة الدولة الاسلامية وهي مواقف مثلت انقلابا مدويا لمن اعتبر طويلا ممثلا للخط المتشدد داخل الحركة الاسلامية التونسية. اعتبر كركر هذه الافكار خلاصة تأملاته و تفكره في عزلته تحت الاقامة الجبرية وهي افكار انتهى فيها الى ضرورة " تغيير خط الحركة التغييري للحركة" فيما يشبه التوبة عن استعمال القوة ودخول السياسية على حد السواء كشرط لبقاء الاسلاميين ومضى كركر الى "دعوة انصار الحركة الاسلامية الى الانظمام الى احزاب عقلانية تحترم الدساتير ومؤسسات العمل السياسي" و هي الدعوة التي وجد تجسيمها العملي فيما بعد في انظمام بعض الاسلاميين لحزب المؤتمر من اجل الجمهورية مفردا مقالا يمدح فيه رجاحة توجهه الجديد. يرجح ان يكون هذا التوجه الجديد في فكر كركر هو السبب الرئيسي لفصله من حركة النهضة التي كان أحد مؤسسيها وهو قرار أدخله في مرحلة قطيعة مع الحركة الى غاية جانفي2005 تاريخ اصابته في محبسه بجلطة دماغية اقعدته ثلاثة اشهر تحت العناية المركزة في أحد المستشفيات الفرنسية والتي دفعت حركة النهضة الى ارسال وفد الى عيادته والتواصل معه من جديد. بالتوازي مع الزلزال السياسي الذي احدثته دراسته حول الفصل بين الديني و السياسي عاش كركر محن اخرى عائلية أكدت الانطباع السائد ان أحد مؤسسي النهضة حلق بعيدا عن السرب الذي كان احد منظمي صفوفه في بدايات الحركة و سنوات الصدام التي عاشتها في سنوات الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ثم من بعده سنوات حكم زين العابدين. لا يعرف اليوم تحديدا موقف صالح كركر من قضية الاسلاميين و السياسية بعد ان اوصلت الثورة وما افرزته من انتخابات في تونس النهضة الى الحكم ، هل حافظ كركر بنفس اراءه التي انتهى اليها اثناء اقامته الجبرية قبل وفاته ؟ أم هل تخلى عنها عند عودته الى تونس قبل وفاته حيث ضمته الحركة من جديد كأحد اعضاء مجلس الشورى الذي انتخب في المؤتمر التاسع؟ هل كانت اعادة كركر الى احضان الحركة قبل وفاته بمثابة اعتراف بالجميل له قبل وفاته ؟ في كل الاحوال رحل كركر الى العالم الاخر وحمل معه الكثير من الخفايا والالغاز التي ستظل معه في ظلمة قبره. لم يعش كركر طوال حوالي ستين سنة حياة طبيعية فقد كانت حياته مليئة بالمحن والهزات والتقلبات الفكرية التي قلبت عليه اخوان الامس. ربما أفضل ما عاشه كركر في حياته هو اللحظات التي شاهد فيها سقوط جلاديه طوال ثلاثين سنة من المطاردة ليعود بعدها وليدفن في القرية التي ولد فيها.