لطالما كانت حكايا الاخرين هي ما ننقله من قصص للعالم ونركز فيها على بطل قصة من خلاله نروي الحكاية فننطلق فيها من الخاص الى العام وهو ما يسمى في قواميس الاعلام سردا قصصيا لكننا في زمن الكورونا اصبحنا جميعا ابطالا لقصص صغيرة وأصبحت تفاصيل معيشنا اليومي متشابهة كل يعيشها بطريقته وسط حجره الصحي. لن ابحث هذه المرة عن قصة أخرى، سأتحدث من منطلق شخصي بحكم اننا اصباحا جميعا نعيش التفاصيل نفسها وحديثي اليوم عن واقع التعليم عن بعد... "ماما لم افهم هذه الكتابة على شاشة الحاسوب، انها تختلف عما نكتبه على الكراس لا أستطيع قراءتها" قال شاهين باكيا وانا أحاول ان انسج معه وسيلة جديدة في التعليم عن بعد باستعمال لغة الحاسوب.. لم يكن يدرك وانا اجاهد لشد انتباهه الى شاشة الحاسوب انه محظوظ مقارنة بالكثير من التلاميذ الآخرين الذين مازالوا ينتظرون رحمة بهم للعودة لمقاعد الدراسة وسط بيوتهم. لم يكن يدرك وهو طفل، ان ما أرغمه عليه من مراجعة لدروس اعطتها إياه معلمته للإصلاح يوم غد انما هي نعمة يحرم منها اليوم جزء كبير من اطفالنا. لا يعجبه كثيرا ان امضي معه ساعات نراجع فرضه الدراسي ولا يعجبه كثيرا أنى أصبحت امضي معه صباحات النهار الأولى اسنده في درس لمعلميه وفرته لهم مدرستهم الخاصة لاروس للدراسة عن بعد. انه لا يدرك ان الزمن ما بعد كورونا لن يعود الى نسقه الطبيعي وان مفهوم الدرس تغير وان الدراسة عن بعد أصبحت في ظل تواصل ازمة الكورونا ضرورة وليست خيارا .. مازال طفلي بعقل الطفولة الجانحة الى اللعب يظن ان العطلة متواصلة وان البيت مكان يعيش فيه مع عالم لعبه...مازال يعتقد ان طاولة بيت الطعام لم تعد مخصصة للاكل بل تحولت الى مكتب فوقه حاسوب و من الجهة الأخرى معلمة تواصل معهم دروسا بدؤوها قبل حلول الوباء. لم يدرك عقل ابني الصغير بعد ان ما نقوم به من البيت ليس الا درسا حقيقيا كذاك الذي كان يتابعه في مدرسته، لكن الدرس اصبح يدار عبر شاشة حاسوب وتطبيقة للتواصل عن بعد.. انه يا بني زمن غير الزمن، زمن الكورونا وما تمليه علينا من حلول بديلة. لم تعد الحروف هي الحروف، تلك التي نخطها بأيدينا فيعلق في الذهن أسلوب كتابتها وتحفظها ذاكرتنا لا ذاكرة الحاسوب. هو الذي كان يسير في طريق الكتابة اليدوية وجد نفسه مرغما على كتابة من نوع آخر، انا التي كنت الى وقت قريب امنع عنه الحاسوب والأنترنت حرصا على مناعته من التأثر بها وجدت نفسي اليوم معه نمضي ساعات الصباح الأولى امام شاشة الحاسوب يتابع عن بعد درسا مع زملائه التلاميذ ومعلمته. لقد أدرك ان درس الإعلامية الذي كانت المدرسة لا تخصص له سوى جزءا صغيرا في جدولها المدرسي أصبح اليوم اهم درس وجب اتقانه لمواصلة دروسه عن بعد في وقت فرض فيه وباء كورونا على العالم أسلوب عيش جديد. منذ ان بدأ الوباء في الانتشار فكرت مدرسة لاروس من ولاية اريانة في حل بديل لتعليم الصغار عن بعد تجربة فيها الكثير من التفاصيل الإيجابية وأخرى قد ننظر لها نظرة المستنكر لكنها ضرورة. انتهت العطلة الدراسية وسارعت المشرفة على المدرسة الى ارسال جدول زمني للدراسة عن بعد. كنت أفيق معه في الثامنة صباحا لنبدأ الدرس الأول. عدت مع شاهين بفضل ذلك الى نسق حياة عادي بعد ان تعلمنا في ظل الحجر ان لا نستفيق باكرا. الإيجابي في الامر ان ابني لم يعد مضطرا لان يمضي يومه بين لعب ولعب دون علم فقد ساعدني وساعده التعليم عن بعد في ملئ الفراغ نتيجة الحجر الصحي والانغماس في دروس اثناء الدرس وبعده. والإيجابي في الامر أيضا انها فرصة أيضا لان يكون له مع العالم الخارجي علاقة حتى ان كانت افتراضية،جميل ان يبقي حبل التواصل مربوطا مع زملائه في القسم ومعلماته اللواتي يحبهن ويشتاق اليهن.
الإيجابي في التعليم عن بعد أنى أصبحت رغما عني طرفا فيه بكل تفاصيله: اتابعه وانا جالسة معه الى الحاسوب اثناء الدرس واواصله بعد الدرس لاحضر معه واجباته المدرسية لليوم الموالي.
الإيجابي أنى اكتشفت معه مواطن ضعفه ورصدت مكامن الخلل في المواد التي كان يحتاج ان ادعمه فيها. أصبحت امضي معه اليوم بين درس افتراضي ودرس بيني وبينه يحتاج مني طول نفس لإنجازه معه باللين أحيانا وبكثير من الضغط أحيانا أخرى. أشياء كثيرة قد تكون في ظل الازمة الحالية إيجابية جدا وقادرة على فك عزلة الطفل من حجر صحي مفروض عليه قد لا يتحمله عقله الصغير الذي يمكن ان يتمرد وهو لا يفقه هذا الأسلوب الجديد من العيش في عزلة عن العالم الخارجي. تجربة التعليم عن بعد فتحت عيني على ان الوقت الذي كنت امنحه له قبل عصر الكورونا قليل وأنى كنت احتاج متسعا أكثر لأراقب واتابع ما يتم القيام به في قاعة الدرس. اما وقد أصبحت قاعة الدرس اليوم بيت جلوسنا او طاولة غدائنا فقد اصبحت اعي احتياجات ابني وما يحتاجه من مراجعة يومية ليلحق بركب أصدقائه في مادة العربية. اما وقد أصبح التعليم عن بعد فقد اصبحت شريكة فيه بأدق تفاصيله فقبل زمن الكورونا كان شاهين يمضي يومه بعيدا هناك في المدرسة دون رفقتي... التعليم عن بعد، حمل ثقيل أيضا. التعليم عن بعد فيه تركيز اقل وفيه اندماج اقل من قبل الطفل سيما إذا كان سنه صغيرا و سيما اذا كان جاهلا بنواميس عصر التكنولوجيا و تقنياتها. قد تبدو المسالة في البداية مثل لعبة للتسلية لكنها مع مرور الوقت تصبح حملا على الطفل حين يكون منسوب سلطته اقوى وهو بعيد عن المتابعة المباشرة لسلطة المدرس وحضوره الجسدي الذي قد يقوي السلطة ويمتن التحكم فيه. التعليم عن بعد أيضا حمل لنا نحن الأولياء، لقد أصبحنا نكرس مجمل وقتنا لأطفالنا فماذا عن وقت أنفسنا؟ ماذا عن نصيبنا نحن من ساعات النهار؟ ماذا عن عملنا وواجباتنا؟ يفرض علي واقع الحال انا أيضا وقتا لعملي الذي اديره ميدانيا أحيانا وعن بعد اغلب الأحيان، لقد اصبحت اكرس جزءا كبيرا من يومي لتعليم طفلي و الوقوف الى جانبه لحظة بلحظة: فماذا نفعل اذا كنا مضطرين نحن أيضا للعمل خارج البيت او داخله؟ معادلة صعبة تحتاج حلا قد يأتي أحيانا وقد يغيب ... قد تكون الغلبة فيه لعلم شاهين على حساب عملي ومورد رزقي و رزقه.. وقد يكون وضعي مريحا أيضا مقارنة بأمهات اخريات لزملاء ابني في القسم بعضهن موظفات ويحتجن للخروج يوميا للعمل...وهن أيضا معلمات لهن أيضا تعليم عن بعد في الوقت نفسه الذي يدرس فيه ابناؤهن عن بعد.. لكل واحدة منا مشاغلها، وواجبها و عملها: فكيف نوفق بين هذا و ذاك، و كيف يمكن ان نكون رفقاء لأطفالنا اثناء الدرس و في رؤوسنا أيضا واجبات مهنية أخرى؟ كيف؟ قد نعجز أحيانا فننهار بكاء ويغلبنا الوقت وقد نصبح عصبيين الى درجة يقول لك فيها ابنك باكيا: “لم اعد اريد الدراسة معك لأنك تغضبين مني كثيرا.." قد نتعب ونمل ولكننا نحتاج ان لا نظهر ذلك لأبنائنا الذي ملوا هم أيضا البقاء بين جدران البيوت.. انهم يحتاجون منا في هذا الوقت العصيب علينا وعليهم، ان نرافقهم دراسيا ونفسيا أيضا وهم محبوسون بين حيطان في عزلة عن عالم خارجي ... تدرك وانت تدرس ابنك عن بعد أنك أصبحت عبدا له وان الوقت لم يعد ملكك بل ملك له وان كل شيء آخر أصبح ثانويا امام حرصك ان يواصل تعليمه وان يجد حلا لانقطاعه عن الدراسة و لو بدروس في عالم افتراضي... تجربة التعليم عن بعد تطرح عليك الكثير من الاستفهامات أيضا: هل الأطفال متساوون في الحق في التعليم؟ وماذا يفعل أطفال الأرياف الذين لا يملكون مجالا لهذا الرفاه التكنولوجي؟ اين العدالة بين أطفال نجحت مدارسهم في إيجاد الحل لهم في الدراسة عن بعد واخرون مازالوا قابعين ينتظرون ان تجود الوزارة في التعليم العمومي بحل لكيلا تتواصل محنتهم في الانقطاع عن الدراسة؟ تطرح عليك التجربة الكثير من الألم حين تفكر في أطفال آخرين يعجز اولياؤهم عن تامين مواصلة لدراستهم. و يتعمق المك و انت تواجه كل ما يحصل حولك من احداث لا تسر و حزنا يزداد يوما بعد آخر بتفشي الفيروس ...يزداد الألم و انت على شبه قناعة ان العودة لمقاعد الدرس أصبحت بعيدة المدى و ان الحل لن يأتي سريعا و ان زمن الكورونا قد يعصف بحق أطفالنا في التعليم كما عصب بالعدالة في التمتع بالبديل: التعليم عن بعد. يتعمق في داخلك الألم ولكنك تقاوم وتواصل وتسعى لان تفكر بإيجابية لعلك تهزم زمن الكورونا، لعلك تسخر من هذا الوباء الذي فرض علينا نمط عيش جديد اكتشفنا فيه سبلا جديدة للتعلم وتيقنا فيه قيمة التكنولوجيا الحديثة التي كنا نخاف على أطفالنا الصغار من تبعاتها ونحاول قدر المستطاع ابعادهم عن عالم الانترنات، بل ان بدان متقدمة تعاقب الأولياء قبل زمن الكورونا إذا ما تركت بين أيدي أطفالهم الصغار في سن مبكرة لوحات الكترونية او هواتف نقالة او حواسيب ...