صفاقس: تفاصيل اعتداء تلميذة على أستاذها ب''شفرة حلاقة''    مصر تكشف حقيقة إغلاق معبر رفح..    أنس جابر تتقدم في التصنيف الجديد لللاعبات المحترفات    الحماية المدنية:15حالة وفاة و361إصابة خلال 24ساعة.    العاصمة: القبض على قاصرتين استدرجتا سائق "تاكسي" وسلبتاه أمواله    6 جرحى في حادث اصطدام بين سيارتين..    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة الثانية إيابا لمرحلة التتويج    حركة الشعب معنية بالإنتخابات الرئاسية    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    البرلمان: النظر في تنقيح قانون يتعلق بمراكز الاصطياف وترفيه الاطفال    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    اليوم: الأساتذة يحتجّون رفضا للتدخل في الشأن التربوي    اليوم: طقس بمواصفات صيفية    ثورة الحركة الطلابية الأممية في مواجهة الحكومة العالمية ..من معاناة شعب ينفجر الغضب (1/ 2)    إسرائيل وموعظة «بيلار»    «فكر أرحب من السماء» بقلم كتّاب ((شينخوا)) ني سي يي، شي شياو منغ، شانغ جيون «شي» والثقافة الفرنسية    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    الموت يغيب الفنّان بلقاسم بوقنّة..وزارة الشؤون الثقافية تنعى..    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    مصادقة على تمويل 100 مشروع فلاحي ببنزرت    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    طولة ايطاليا : جوفنتوس يتعادل مع روما ويهدر فرصة تقليص الفارق مع المركز الثاني    جندوبة .. لتفادي النقص في مياه الري ..اتحاد الفلاحين يطالب بمنح تراخيص لحفر آبار عميقة دون تعطيلات    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    «الشروق» في حي السيدة المنوبية كابوس... الفقر والعنف والزطلة!    القصرين .. بحضور وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية ..يوم دراسي حول مشروع مضاعفة الطريق الوطنية عدد 13    طقس اليوم: ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    تقلبات جوية منتظرة وأمطار رعدية غدا..#خبر_عاجل    عمر كمال يكشف أسرارا عن إنهاء علاقته بطليقة الفيشاوي    تونسي المولد و النشأة... ترك تراثا عالميا مشتركا .. مقدمة ابن خلدون على لائحة اليونسكو؟    اليوم: لجنة الحقوق والحرّيات تستمع لممثلي وزارة المالية    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    اجتماع أمني تونسي ليبي بمعبر راس جدير    بصورة نادرة من طفولته.. رونالدو يهنئ والدته بعيد الأم    صفاقس: إحباط 22 عملية حَرْقة والقبض على 10 منظّمين ووسطاء    سوسة: منفّذ عملية براكاج باستعمال آلة حادة في قبضة الأمن    تونس تتحفظ على قرارات قمة منظمة التعاون الإسلامي حول القضية الفلسطينية    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    فص ثوم واحد كل ليلة يكسبك 5 فوائد صحية    الاثنين : انطلاق الإكتتاب في القسط الثاني من القرض الرقاعي الوطني    حقيقة الترفيع في تعريفات الكهرباء و الغاز    مختصّة في أمراض الشيخوخة تنصح باستشارة أطباء الاختصاص بشأن أدوية علاجات كبار السن    للمرة ال36 : ريال مدريد بطلا للدوري الإسباني    ظهرت بالحجاب ....شيرين عبد الوهاب تثير الجدل في الكويت    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجوسسة قديمًا.. من أرض الميعاد إلى آشور
نشر في حقائق أون لاين يوم 11 - 01 - 2021

يحسب المرء التجسّسَ، كنشاط منظَّم تابع لأجهزة سياسية وأمنيّة، ظاهرةً حديثةً رافقت أوضاع العالم الراهن، سيما بعدما شهده التاريخ المعاصر من تدافع حادّ بين الكتلة الاشتراكية والكتلة الرأسمالية، وما خلّف ذلك من تنافس محموم على الفوز بمعلومات حسّاسة عن الخصم في شتى المجالات.
وقد زاد من إلحاق الظاهرة بالتاريخ الحديث الضجيج المرافق لوقائع أنشطة التجسس في الإعلام وداخل أقبية السياسة فضلا عن ندرة الأبحاث في الموضوع في عهود سابقة.
فالتاريخ السياسي الحديث، في الشرق أمْ في الغرب، مطبوعٌ بسلسلة من الدورات المتلاحقة لأنشطة المخابرات، متنوّعة الأشكال والتداعيات، تبلغ أحيانا حدّ العصف بعلاقات الصداقة والوئام بين الشعوب لأثرها البالغ في تعكير صفو العلاقات بين الدول.
ولعلّ أشهر أجهزة المخابرات والجوسسة في التاريخ المعاصر: "السي آي ايه" في أمريكا، و"الدُّوزيام بيرو" (المكتب الثاني) في فرنسا، و"السيم" في إيطاليا، و"الكا جي بي" في روسيا، و"الموساد" في إسرائيل، و"السافاك" في إيران البهلوية، وإن غلبت على مرادف أنشطة تلك الأجهزة في بلدان أخرى من عالمنا تسمية "البوليس السياسي".
الكتاب الحالي الذي نتولّى عرضه هو مؤلَّفٌ من إعداد باحثيْن إيطالييْن في التاريخ القديم، الباحثة آليسيا فاسونيه المختصّة بعلم المصريات التي سبق لها أن أعدّت أبحاثا أثرية لفائدة جامعة تورينو؛ وناثان موريلو وهو أيضا باحثٌ يدرّس في جامعة لودفيغ ماكسيميليان في موناكو، سبق أن أنجز جملة من الأبحاث الأثرية عن فلسطين. والطريف في هذا الكتاب هو نقلُ ظاهرة يحسبها المرء حديثةً إلى مجريات التاريخ القديم، وإعطائها سندا علميا وتاريخيا يكشف للمرء عُمق تجذّر الظاهرة في المجتمعات قديما وحديثا. يركّز الكتاب الحالي على جانبين في التاريخ، ما تعلّق بموضوع الجوسسة كما لاحت عبر أسفار التوراة وما أفصحت عنه الرُّقُم العائدة للحضارة الآشورية. فما يبدو عبْر الكتاب أن مهنةَ التجسّس هي مهنةٌ موغلة في القدم قِدم الصراعات السياسية (ص: 42).
فعملُ التجسّس والتلصّص والتخابر هو بالأساس هو عملٌ للاستعلام، هدفَ للاطلاع الخفيّ على الخصم المنافس ليبقى غرض التجسّس الرئيس مباغتة الخصم والإطاحة باستراتيجيته، بقصد ضرب النقاط الحساسة لديه ومحاصرة فاعليتها.
فقد نشأ التجسّس لصيقًا بالصراع السياسي وحروب التوسع ومعارك النفوذ، وما كان عملا للترف، بل عملا متقَنا وهادفا لغرض استراتيجي، ولذلك نشط التجسس قديما في ظروف السلم والحرب على حد سواء إذ ثمة يقين لدى الموجِّه السياسي بجدوى المعلومات والأخبار الواردة عن الخصم.
حاول الباحثان البقاء في حيز الفضاءين التوراتي والعراقي (الآشوري منه تحديدا)، مع مقارنات بفضاءات تاريخية قديمة، سابقة أو لاحقة. فالظاهرة عامة وشاملة في التاريخ شغلت المصريين القدماء والقرطاجيين والرومان والصينيين على حدّ سواء.
يقول الفيلسوف الصيني سون زو (548-496 ق.م) في حديثه عن مهام الجواسيس في العصور القديمة: "إن ما نطلق عليه 'قدرة التنبؤ' لا يمكن أن يكون نتاج عطية الآلهة، ولا نتاج حسابات دقيقة، ولا نتاج مقارنة أحداث سابقة، ينبغي أن يُكتَسَب بوساطة رجال يعرفون واقعَ العدوّ جيّدا".
في القسم الأول من الكتاب المعنون ب"التجسس التوراتي" يتراوح انشغال آليسيا فاسونيه بشكل عام بين القرن الخامس عشر والقرن الثاني قبل الميلاد، أي من تشكّل القبائل الإسرائيلية إلى الغزو الإغريقي ليهوذا.
تخترق ظاهرة الجوسسة التوراة العبرية، غير أن الباحثة تسلّط الضوء تحديدا على مملكتي يهوذا وإسرائيل. فقد أملت محاولات إرساء السلطة القبول بلعبة الخديعة السياسية والتجنيد لأعوان مختلفي المشارب للغرض.
في هذا القسم تحاول الباحثة استعادة المعارك التوراتية التي تخلّلت أحداثها أعمال تجسّسٍ مستعرضةً ما اقتضته تلك المعارك من تخابر وتجسس. تمثِّل أحداث التوراة المتعلّقة بالغزو والحروب والصراع المحورَ الرئيس لبحث فاسونيه، فلا شك أن التوراة كتاب تعاليم دينية بالأساس، فاللفظة لغويا تعني التعليم، وسمّيت التوراة بالعهد القديم تمييزا لها عن العهد الجديد، كما سمّيت التوراة ب"تنك"، وهي الأحرف الأولى لمسمّيات الأقسام الرئيسة لهذا السفر الضخم.
فالتاء من كلمة توراة، وهي نعت للأسفار الخماسيّة؛ والنّون هي نعتٌ لأسفار الأنبياء؛ والكاف مستوحاة من تسمية الكتب، وهي جملة الأقسام الثلاثة التي تكوّن الكتاب المقدّس اليهودي. لكن في نهاية مطاف التدوينات باتت التوراة خزانا لذاكرة جماعية منها ما يعود لليهود ومنها ما يعود لشعوب المنطقة. فقد جرف اليهود في حلّهم وترحالهم تراث الشرق، وهو تراث سلطة وصراع ومؤامرات وجوسسة، جنب التعاليم والترانيم والوصايا (ص: 65).
أُثيرت مسألة التجسس منذ مطلع أسفار التوراة عبر مصطلح "مرجليم" (سفر التكوين42: 9) وتعني الكلمة "السائرين على الأقدام"، وقد جاءت في الترجمة العربية "فتذكر يوسف الأحلام التي حلم عنهم وقال لهم 'جواسيس' أنتم. لتروا عورة الأرض جئتم".
لكن هذه الدلالة الأوّلية ستأخذ أبعادا سياسية في ثنايا العهد القديم لتبرز وقائع التجسس المنظَّمة مع إرسال النبي موسى (ع) عقب الخروج من مصر اثني عشر عينًا للتعرّف على أرض كنعان، "الأرض الموعودة" حسب التصور التوراتي، قبل الوصول إلى الأرض المقدسة "ثم كلّم الرب موسى قائلا أرسلْ رجالا ليتجسّسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل. رجلا واحدا لكلّ سبط من آبائه ترسلون" (العدد13: 1) "فأرسلهم موسى ليتجسسوا أرض كنعان وقال لهم اصعدوا من هنا إلى الجنوب واطْلعوا إلى الجبل وانظروا الأرض ما هي. والشعب الساكن فيها أقويٌّ هو أم ضعيفٌ. قليل أم كثير. وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها أجيّدة أم رديئة. وما في المدن التي هو ساكن فيها أمخيمات أم حصون. وكيف هي الأرض أسمينة أمْ هزيلة. أفيها شجر أم لا. وتشدّدوا فخُذوا من ثمر الأرض. وأما الأيام فكانت أيام باكورات العنب" (العدد13: 17-20).
تحاول الباحثة آليسيا فاسونيه الإحاطة بروايات التجسس التوراتية من خلال تنزيلها ضمن إطار عام يتعلّق بغزو "أرض الميعاد". فقد كانت عودة العيون المرسَلة من قِبل موسى (ع) بعد أربعين يوما، رووا إثرها حصيلة المَهمّة المنوطة بهم أمام عموم الشعب، متلخصة في ردّ خبر عن القوة الهائلة التي يتمتّع بها الخصم الكنعاني، وهو ما أثار رعبا داخل الجموع الخارجة التي أبت التقدّم، وانتفضت في وجه النبي موسى (ع)، ما أوجب تدخل الرب وإنزاله عقابه ببني إسرائيل تيهًا أربعين سنة في الصحراء.
تبقى عملية التجسس الأولى الواردة في التوراة مجرّد استطلاع لا غير، لتطوّر لاحقا وتأخذ منزلقا مغايرا مع النبي يوشع بإرسال جاسوسيْن مدرّبين ليطّلعا على الأوضاع في أريحا "فأرسل يشوع بن نون بن شطيم رجلين جاسوسين سرّا قائلا: اذهبا انظرا الأرض وأريحا. فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب واضطجعا هناك" (سفر يشوع2: 1). بما سيغيّر الخطاب الخُلقي التوراتي بشأن التجسس برمّته (ص: 101).
يتملّص فعل التجسس من النواهي والموانع الدينية، ويعلو بلوغ الهدف أي مقصد، دون أي رادع في ذلك، وهو ما سيتطور مع دليلة وشمشون (سفر القضاة16)، ومع أستير وخشايارشا الأول الملك الفارسي (سفر أستير8: 13).
تحاول الباحثة استعراض كافة الأساليب المستعملة في التخابر، النفسية منها والعملية، فضلا عن كافة العناصر الموظّفة للغرض مثل الخمرة والإغراء الجنسي بغرض الفوز بالمعلومة.
في القسم الثاني من الكتاب المعنون ب"التجسس في الإمبراطورية الآشورية" يسلّط الباحث ناثان موريلو الضوء على أهمّ مؤسسة تجسّس عرفها التاريخ القديم، وإن تفادى الباحث المقارنة بين نموذجيْ التجسس التوراتي والآشوري وحرص على استعراض التجربة الآشورية وسابقاتها في الفضاء العراقي.
كان هدف الكتاب بناء كيفية اشتغال العملية الاستخباراتية وتوظيفها. فمع الآشوريين انتقل التجسس من عمل فردي طارئ إلى عمل جماعيّ منظَّم. يعود هذا التطور في العمل إلى طبيعة النظام السياسي الآشوري.
فقد شكّلت آشور إمبريالية حقيقية في المشرق امتدّ نفوذها إلى أطراف العالم بالشكل المعروف في ذلك العصر. وقد أملى هذا التمدّد الاستعانة بقوة معلوماتية انتظمت داخل مؤسسة تجميع الأخبار وصياغة الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية. كانت المعلومة والخبر من جملة الركائز التي اعتمدت عليها القوة الآشورية في بسط هيمنتها.
وما كانت البيرقراطية الكثيفة تعوز السلطة في تحقيق أغراضها البعيدة المتطلّعة لإرساء "السلم الآشورية" حتى يستتبّ الأمن على البسيطة بمفهوم ذلك العصر، حيث كانت عناصر الجوسسة والرقابة والاستخبار والتوثيق والتخطيط حاضرة بقوة في العملية. كان اعتماد الحاكم الآشوري على شبكة واسعة من المتعاونين والمخبِرين، يتابعون أمر الداخل ويتولون بالمثل الاستعلام عن الخارج (ص: 139).
واعتمادا على وثائق واردة في مجملها من العاصمة الآشورية نينوى (القرن الثامن- القرن السابع ق. م)، يذكر الباحث ناثان موريلو "أملتِ الحاجة العسكرية الآشورية الاستعانة بجهاز معلوماتي يستخبر عن أوضاع الخصم، ولم تكن قوة الجند ووفرة العتاد وحدهما كافيتين لخوض أية مغامرة أو مجازفة، بل تطلّبَ الاستعداد إحاطةً بالخصم لتجنّب المفاجآت ولتيسير العمل العسكري" (ص: 175).
وبناء على ما يخلص إليه الباحث، ما كان الاجتياح السريع للمدن والحواضر، في الحروب القديمة، نابعًا من قوة عسكرية قاهرة، بل يعود أيضا إلى دقة المعلومة المتاحة أمام القوة الغازية، مما ييسّر عملية الاجتياح. والثابت أن آشور كانت امتدادا لقوى سياسية سابقة في المنطقة، وهو ما يسّرَ تراكم كمٍّ من المعلومات عن مفهوم العالم السياسي حينئذ بالإضافة إلى تصحيحه. فمنذ الألف الرابع قبل الميلاد كان بحوزة السومريين جهاز مخابرات في الدولة المدينة.
وأول إمبراطورية على وجه البسيطة من تأسيس سرجون الأكدي (2334 -2279 ق.م) كانت بحوزتها شبكة واسعة من الجواسيس بقصد مراقبة الحدود. فأرشفة المعلومة تقليدٌ عراقي بدَا جليّا من خلال استخدام ألواح التدوين، وقد كان الأرشيف الملكي الكهنوتي أغناها، ليس عسكريا فحسب بل غطّى مجالات عدة مثَّلَ فيها القسم السياسي العسكري أهمّ تلك الأقسام.
من جانب آخر يبرز ناثان موريلو أن جيوش الإمبراطوريات القديمة، كما كانت تتكون من جندٍ مرتزقة كانت تتكون من جواسيس مرتزقة أيضا، يعملون لصالح جهة معينة بمقابل. وكانت مهمة الجوسسة في العصور القديمة تقتضي قدرة عالية في الاندماج في الجماعة المستهدَفة، وبراعة في الإلمام بالمعلومات الضرورية. وعلى وصف الفيلسوف الصيني سون تزو في مؤلف "فنّ الحرب": "الجوسسة هي فنّ عسير، وفعلا عسير، ليس هناك مجال بمنأى عن التجسّس".
فغالبا ما كان الجواسيس في العهود القديمة على دراية بلغات الجماعات المستهدَفة ولهجاتها. لكن ما يلاحظه موريلو أن أسماء هؤلاء الجواسيس بالنسبة إلى المؤرخ المعاصر تبقى في معظمها خافية لِما اقتضته العمليات حينها من سرّية (ص: 203). في هذا النشاط الاستخباري لعب سكّان البوادي والرُّحّل دورًا مهمّا في الجوسسة في التاريخ القديم. فعنصر الهوية الغائمة الطاغي على الرّحّل، إلى جانب التمرّس بمعايشة تنوعات بشرية ولغوية يسَّر توظيفهم في عمل الجوسسة منذ القدم.
يُعَدّ التجسس من المكونات المهمة والضرورية في الحياة السياسية والعسكرية للدول قديما. فمن الضروري معرفة الخصم قبل الإقدام على إلحاق أي ضرر به: من معرفة الوحدات إلى الاطلاع على خاصيات المجال الجغرافي. تحاول المخابرات رسم خطتها ووضع معلوماتها رهن استخدام العسكري وقبل الشروع والبدء في أي مناورة.
لقد كان الآشوريون والبابليون من أوائل من بنوا مؤسسات جوسسة منتظمة، فالإمبريالية الآشورية خصوصا، كما وصفها المؤرخ ماريو ليفيراني في مؤلفه "آشور.. إمبريالية ما قبل التاريخ"، كانت تملي الاستعانة بمؤسسة تجسس لتفادي المفاجآت والمغامرات وهدر الطاقات. ومؤسسة الاستعلام في تجميعها للأخبار السياسية والعسكرية، وإتقانها لعملية نقل المعلومة عبر وسائل التكتم والترميز هي قوة فاعلة في عملية الغزو والتوسع.
ضمن سياق خطورة هذا الفعل يذهب المؤرخ هيرودوت إلى أن الحرب الفارسية الثانية (481 ق.م)، على سبيل المثال، قد فشلت بسبب مخبِر إغريقي، المسمى ديماراتوس، اندسّ في بلاط فارس في عهد خشايار الأول، وعلم بمخطط الهجوم الفارسي فأرسل إلى الإغريق عبدًا يحمل لوحة عليها كتابة سرّية تفصّل خطّة الهجوم المرتقَب.
لقد بات التجسس منذ مطلع العصر الحديث منتظمًا داخل مؤسسات نشيطة في عديد الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا. ويعتبر الألماني ويلهلم ستيبر (1818-1882) باعث التجسس الحديث. هذا النشاط الضار كان للفيلسوف إيمانويل كانط حكمًا قاطعًا بشأنه في "مشروع السلام الدائم": "الجواسيس جزاؤهم القتل لأنهم ينتجون الزيف ويزرعون الفتنة بين الشعوب وينسفون الثقة المتبادلة".
*هوامش:
الكتاب: الجوسسة التوراتية والآشورية
تأليف: آليسيا فاسونيه و ناثان موريلو.
الناشر: منشورات نوفا أرغوس (روما-إيطاليا) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 238ص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.