تركيا ستنضم لجنوب إفريقيا في القضية ضد إسرائيل في لاهاي    أمطار غزيرة بالسعودية والإمارات ترفع مستوى التأهب    الشرطة تحتشد قرب محتجين مؤيدين للفلسطينيين بجامعة كاليفورنيا    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    بعد اتفاق اتحاد جدة مع ريال مدريد.. بنزيما يسافر إلى إسبانيا    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    حالة الطقس يوم الخميس 2 ماي 2024    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    أخبار الاتحاد المنستيري...رهان على «الدربي» وفريق كرة السلة يرفع التحدي    في خطإ على الوطنية الأولى: دكتور وكاتب يتحول إلى خبير اقتصادي    صفاقس...حالة استنفار بسبب سقوط جزء من عمارة بقلب المدينة ... غلق الشارع الرئيسي... وإخلاء «أكشاك» في انتظار التعويضات!    مدرب بيارن : أهدرنا الفوز والريال «عَاقبنا»    وفاة الفنانة الجزائرية حسنة البشارية    سعيد يعود احد مصابي وعائلة احد ضحايا حادثة انفجار ميناء رادس ويسند لهما الصنف الأول من وسام الشغل    بنزرت ..أسفر عن وفاة امرأة ... حادث اصطدام بين 3سيارات بالطريق السيارة    تونس تعرب عن أسفها العميق لعدم قبول عضوية فلسطين في المنظمة الأممية    اتفاقية تمويل    وزارة الشباب والرياضة تصدر بلاغ هام..    غدا الخميس: وزارة التربية والجامعة العامة للتعليم الأساسي يوقعان اتفاقا ينهي توتر العلاقة بينهما..    جندوبة: فلاحون يعتبرون أن مديونية مياه الري لا تتناسب مع حجم استهلاكهم ويطالبون بالتدقيق فيها    عقوبات مكتب الرابطة - ايقاف سيف غزال بمقابلتين وخطايا مالية ضد النجم الساحلي والملعب التونسي ونجم المتلوي    النادي الافريقي- جلسة عامة عادية واخرى انتخابية يوم 7 جوان القادم    روبليف يقصي ألكاراز ويتقدم لقبل نهائي بطولة مدريد المفتوحة للتنس    وزارة السياحة تقرّر احداث فريق عمل مشترك لمعاينة اسطول النقل السياحي    المؤتمر الإفريقي الأول حول "آفاق تنمية الدواجن بإفريقيا" على هامش الدورة 20 للصالون المتوسطي للتغذية الحيوانية وتربية الماشية    الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه من اجل الانتماء الى تنظيم ارهابي    المجلس الوطني للجهات والاقاليم ...لجنة صياغة النظام الداخلي تنطلق الخميس في النظر في الاحكام العامة والعضوية والحصانة (الناطق باسم اللجنة)    الاحتفاظ بتلميذ تهجم على استاذته بكرسي في احد معاهد جبل جلود    القصرين: وفاة معتمد القصرين الشمالية عصام خذر متأثرا بإصاباته البليغة على اثر تعرضه لحادث مرور الشهر الفارط    عيد العمال العالمي: تجمع نقابي لاتحاد عمال تونس وسط استمرار احتجاج الباعة المتجولين    عيد العمال العالمي: تدشين المقر التاريخي للمنظمة الشغيلة بعد أشغال ترميم دامت ثلاث سنوات    الكاف: اليوم انطلاق فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان سيكا جاز    ندوات ومعارض وبرامج تنشيطية حول الموروث التراثي الغزير بولاية بنزرت    بعد تتويجه بعديد الجوائز العالمية : الفيلم السوداني "وداعا جوليا " في القاعات التونسية    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    اعتراف "أسترازينيكا" بأن لقاحها المضاد لفيروس كورونا قد يسبب آثارا جانبية خطيرة.. ما القصة؟    الفنانة درصاف الحمداني تطلق أغنيتها الجديدة "طمني عليك"    تفاصيل الاطاحة بمروجي مخدرات..    التشكيلة الاساسية للنادي الصفاقسي والترجي التونسي    تحذير من برمجية ''خبيثة'' تستهدف الحسابات المصرفية لمستخدمي هواتف ''أندرويد''..#خبر_عاجل    هام/ وزارة التربية تدعو إلى تشكيل لجان بيداغوجية دعما لتلاميذ البكالوريا..    هام/ إصدار 42 ملحقا تعديليا من جملة 54 ملحقا لاتفاقيات مشتركة قطاعية للزيادة في أجور العاملين في القطاع الخاص    وزارة التجارة: لن نُورّد أضاحي العيد هذه السنة    تونس تشارك في معرض ليبيا للإنشاء    غرفة القصابين: معدّل علّوش العيد مليون ونص    مهرجان سيكا جاز: تغيير في برنامج يوم الافتتاح    اليوم: تونس تحيي عيد الشغل    اليوم.. تونس تحتفل بعيد الشغل    وزارة الفلاحة تضبط قيمة الكيلوغرام من التن الأحمر    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    خبراء من منظمة الصحة العالمية يزورونا تونس...التفاصيل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل نتجه الى أخونة المجتمع التونسي ؟!

كانت شعارات ثورة 14 جانفي 2011 في تونس متعلقة بالحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، لكن بعد هروب الرئيس بن علي برزت على الساحة التونسية تناقضات جانبية شوهت المشهد وساهمت في غم الشعارات الحقيقية لثورة الكرامة. وتمثل التجاذبات العقائدية السبب الرئيسي في تحويل وجهة الحراك الشعبي من مطالب الحرية والكرامة الإجتماعية نحو انقسامات جانبية تقوم على أساس ديني في مجتمع متجذر بطبعه في العروبة والإسلام، ولعل "الإسلام السياسي" هو المحرك الرئيسي لهذه التناقضات والإنقسامات الإجتماعية والسياسية. وتمثل حركة النهضة ذات المرجعية الإخوانية الذراع التنظيمي للإسلام السياسي في تونس.
سنحاول في هذه الدراسة تحليل تبعات الإسلام السياسي على تونس بعد الثورة، كما سنحاول استشراف تأثيره في إرساء التبلورات الاجتماعية والأمنية على المدى المتوسط والبعيد. وسنتطرق في هذه الدراسة إلى بعض التفاصيل حول نشأة هذه الظاهرة باعتبارها تتميز عن باقي التيارات السياسية بمرجعيتها العقائدية وارتباطها التاريخي بتنظيمات عالمية عابرة للأوطان،. كما سنتطرق إلى بعض المسائل المتعلقة بالأنشطة الدينية والسياسة والاقتصادية، باعتبار أن هذه المجالات مرتبطة بكل ما هو اجتماعي وأمني ارتباطا يختلف عن الارتباطات التي تخص التنظيمات السياسية العادية.
مقدمة
جاءت الثورة التونسية خارج كل التوقعات، فلقد فاجأت الفاعلين السياسيين والإجتماعيين داخليا، وأربكت القوى الإقليمية والعالمية التي لها مصالح اقتصادية واستراتيجية في تونس ومحيطها الإقليمي والعربي، ومما زاد هذه الثورة عمقا وتأثيرا أنها كانت ملهمة لعديد الشعوب العربية الرازحة تحت وطأة أنظمة تقليدية تسلطية تقوم على القمع وتبليد النظم الثقافية والسياسية. ولعل أبرز المكاسب الفورية التي حققتها الثورة التونسية هي الحرية والتخلص من الخوف الذي حكم به الرئيس السابق بن علي تونس طيلة 23 سنة بعد أن حوّلها إلى ثكنة أمنية. ونظرا لمناخ الحرية السياسية والفكرية الذي ساد في تونس بعد الثورة، برز على الساحة التونسية عامل مهم سيكون له دور رئيسي في توجيه التبلورات الإجتماعية والأمنية على المستوى المتوسط والبعيد، إنه عامل الرأي العام الشعبي الذي سيكون فاعلا باعتبار توفر مجالات واسعة من الحريات السياسية والفكرية والإجتماعية. وفي هذا الإطار يُعتبر الإسلام السياسي جديرا بالدراسة والتحليل باعتبار قوته التنظيمية وعمقه التاريخي والاجتماعي، وطابعه العقائدي، إضافة لارتباطه تاريخيا وإيديولوجيا بعديد التنظيمات التي كانت مصدر دعمه وإلهامه، على غرار النظام الإيراني بعد ثورة الإيرانية سنة 1979، والتنظيم العالمي للتيار الإخواني الذي يتميز بالقوة والتماسك وعلاقاته مع عديد الدول والدوائر العالمية. ولا يمكن دراسة التبعات الامنية والمجتمعية للإسلام السياسي في تونس دون الرجوع إلى بعض التفاصيل في عمقه التاريخي ونشأته وتطوره وعلاقاته بمختلف الدوائر الفاعلة على المستوى الوطني والقومي والعالمي. كما لا يمكن الفصل بين الأمني والإجتماعي في جهة، والسياسي والإقتصادي والديني في جهة ثانية، باعتبار أن تيار "الإسلام السياسي" الإخواني أحاط نفسه بهالة من القداسة، وصعد إلى السلطة في تونس مباشرة بعد ثورة كانت شعاراتها واضحة ومتعلقة بالشغل والحرية والعدالة الاجتماعية، بعيدا عن مثل هذه الإيديولوجيات التي تقوم على افتعال التناقضات.
1- الإسلام السياسي نشأ في رحم الأنظمة الاستبدادية السابقة
تعود جذور الإسلام السياسي في تونس إلى حركة الإتجاه الإسلامي التي تأسست سريا سنة 1972 بقيادة راشد الغنوشي وثلة من القيادات. في البداية لقيت الحركة قبولا ضمنيا من طرف الحزب الإشتراكي الدستوري (الحزب الحاكم آنذاك) لتكون سندا للنظام في التصدي لليسار المهيمن على المعارضة في تلك الفترة. وفي سنة 1974 أصدرت الحركة مجلة المعرفة لتعبّر من خلالها عن أفكارها واتجاهاتها. ومنذ الإعلان عن نفسها رسميا سنة 1981 دخلت الحركة في صدامات مع السلطة التي ألقت القبض على قياداتها وحاكمتهم بتهم الانتماء إلى جمعية غير مرخص لها ونشر بيانات معادية للنظام. وبداية من سنة 1983 عاد الوئام بين الحركة ونظام بورقيبة بعد إطلاق سراح قياداتها، فالنظام في تلك الفترة كان في حاجة إلى حركة الاتجاه الإسلامي من أجل المساندة والتصدي لليسار، لما للدين من تأثير عميق في المجتمع التونسي. وفي سنة 1986 توترت العلاقة من جديد بين نظام بورقيبة والحركة التي بانت أطماعها في السلطة إثر جنوحها نحو الإرهاب والنزعات الانقلابية. وبعد انقلاب الجنرال بن علي على الرئيس الراحل حبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر 1987 دخلت الحركة في علاقة ودّ مع نظام بن علي، إلا أن نفس السيناريو أعاد نفسه بداية من سنة 1989 بعد أن توترت العلاقة مع النظام إثر عودة الحركة للإرهاب والنزعات الانقلابية.
لقد نشأ الإسلام السياسي في تونس من رحم الأنظمة الإستبدادية السابقة، كما أن صراعه مع الأنظمة السابقة لم يكن على أساس برامج ورؤى جديدة، بل كان صراعا من أجل افتكاك السلطة، فكانت أفكاره وشعاراته هلامية وعامة تهدف إلى الاستقطاب عبر خلق التناقضات الاجتماعية واللعب على الوجدان الديني والربط الديماغوجي لكل الإنهيارات الاجتماعية والاقتصادية بغياب "الإسلام في السياسة" دون استعمال للأساليب العلمية ودون غوص في الأسباب العميقة والموضوعية المرتبطة بالسياسات المتبعة من طرف الأنظمة القائمة.
2- الإسلام السياسي والمجتمع التونسي منذ النشأة إلى اعتلاء السلطة
أ‌- الإسلام السياسي والمجتمع التونسي قبل الثورة
تكونت النواة الأولى للإسلام السياسي في بداية الستينيات انطلاقا من حلقات توجيه وتفقيه كانت تعقد للناس في المساجد، وتزامن ذلك مع دخول تونس في مرحلة تحديث مجتمعي قادها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، مما أدى إلى بروز نمط مجتمعي جديد لقي رفضا من طرف شريحة متدينة واسعة من التونسيين، وتزامن ذلك أيضا مع بداية تغيير في التركيبة الديمغرافية بتسارع عدد السكان وارتفاع نسبة الشباب. ومن الناحية الاقتصادية بدأت تونس تشهد عملية تحديث اقتصادي أدت إلى تغيير في نمط الحياة وبروز طبقات اجتماعية متفاوتة، فساد الفقر، وتفاقمت البطالة. وساهمت هذه العوامل في التجاء شريحة واسعة من الشباب إلى الخطاب الديني المنمّق والمشحون والديماغوجي، فوقعت قولبة أفكار وأذهان هؤلاء الشباب بحيث ارتبطت لديهم قناعة بأن ما يصيب المجتمع من انهيارات اجتماعية وفقر وبطالة وانحطاط أخلاقي، مرتبط بجود نظام "كافر" ودولة "كافرة" . فنشأت لديهم عقيدة تقوم على ضرب الدولة والنظام والمجتمع، والسعي إلى إقامة الدولة "الإخوانية" التي ستحل كل المشاكل وتقضي على جميع المصائب والانهيارات، حسب عقيدتهم.
بعد تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي سنة 1972، اتخذ التنظيم طابع السرية، وسادت لدى منتسبيه عقيدة السيد قطب التي أتى بها راشد الغنوشي بعد عودته من المشرق، والتي تقوم على تكفير الأنظمة "الغير إسلامية" والمجتمعات الرازحة تحتها. فكانت مجلة المعرفة التي صدرت سنة 1974 المنبر الرئيسي لنشر هذه العقيدة الإخوانية. وفي تلك الفترة كانت "أدبيات" راشد الغنوشي التي ينشرها في تلك مجلة مشحونة بأفكار حسن البنا والسيد قطب والمودودي. وبذلك نشأ مجتمع داخل المجتمع، يقوم على النزعة الانقلابية و الولاء للجماعة ورفض كل التصورات والقراءات الأخرى للإسلام، فكل من لا ينتسب للجماعة يعتبر كافرا. وفي أواخر السبعينيات ساهمت الانهيارات الاجتماعية وانتشار الفقر والبطالة في تغوّل التنظيم، خاصة أثناء انتفاضة العمال سنة 1978 واقتران ذلك مع حيثيات الثورة الإيرانية التي أصبحت بعد انتصارها مصدر إلهام للتنظيم يضاف إلى العقيدة الإخوانية – القطبية. وفي بداية الثمانينيات ومع الخروج إلى العلنية عمقت الحركة توغلها في المجتمع بداية من العائلة والأصدقاء، والمحيط التربوي والجامعي، وصولا إلى الجمعيات والأنشطة النقابية والرياضة والشبابية، فكان الهدف من ذلك خلق تناقضات مجتمعية مفتعلة لتعميق النفوذ والاستقطاب الممنهج. ولم يتردد التنظيم في استعمال العنف لمواصلة العمل والتوغل في مفاصل المجتمع، فكانت إستراتيجيته تقوم على مهادنة الأنظمة حينا والتصعيد معها حينا آخر. وفي سنة 1989 وبعد أن غيرت الحركة تسميتها لتصبح "حركة النهضة" تقيدا بقانون الأحزاب الذي يمنع تأسيس أحزاب على أساس ديني، عادت لممراسة العنف ضد المجتمع، ورجعت لخطّها الانقلابي، وبذلك وجد نظام بن علي بداية من التسعينيات ذريعة لاجتثاثها.
ما يمكن استنتاجه أن تيار الإسلام السياسي في تونس قبل الثورة كان يميل نحو النزعة التعبوية عبر إثارة التناقضات في مفاصل الدولة والمجتمع، ومن ثمة إحداث انقسام مجتمعي لخدمة غايات سياسية لا علاقة لها بالإسلام ومقاصده، فكان الهدف تحقيق أهداف دنيوية باسم الإسلام ولو كان ذلك على حساب وحدة المجتمع وأمنه.
ب‌- الإسلام السياسي والمجتمع التونسي بعد الثورة
بعد هروب بن علي يوم 14 جانفي 2011 تكسرت القيود وساد مناخ من الحرية السياسية والاجتماعية والفكرية، وعاد راشد الغنوشي (زعيم النهضة حاليا) بعد سنوات قضاها في المهجر محملا ب "أدبيات" جديدة طوّر من خلالها أفكاره واستراتيجياته ونظرياته، فادعى أنه قد تطوّر وراجع حساباته، بحيث انتقل من الرفض الكلي للديمقراطية إلى القبول الكلي للديمقراطية، وادعى أيضا أنه انتقل من المراهنة على العنف والانقلاب إلى المراهنة على الأساليب المدنية والديمقراطية.
بعد 23 سنة من الديكتاتورية التي كانت نتاجا طبيعيا لأساليب الحركة العنيفة والانقلابية، كانت نفس العوامل الاجتماعية والاقتصادية مناسبة لالتجاء الناس إلى الخطاب الديني المنمق. ورأت حركة النهضة في هذه الثورة فرصة مناسبة لتمرير المشروع الإخواني، لكن بأساليب متطورة تتناسب مع مناخ الحرية والظروف الاجتماعية السائدة.
في استقطابها الاجتماعي اعتمدت الحركة على تعدد الخطابات، فهي من جهة تسوّق شعارات الاعتدال والديمقراطية والحرية لطمأنة أنصارها المعتدلين والشرائح الاجتماعية التي ليس لها ميولات إخوانية، ومن جهة ثانية تلمح ضمنيا لأنصارها المتشددين الذين يطالبون بأخونة المجتمع وإقامة حكم "إخواني" بأن هذه المرحلة ظرفية وبأن الحركة تعتمد على إستراتيجية التدرج باعتماد "إسلام المرحلة" في انتظار الوصول إلى التمكين الذي يسمح بأخذ مواقف صارمة ضد الخصوم، ومن ثمة تأسيس المجتمع "الإخواني" والدولة "الإخوانية".
لم تتخل الحركة عن تقاليدها في اختراق المجتمع بإثارة التناقضات والتوغل في المؤسسات، فانتهجت تكتيكا يقوم على حث أنصارها على الانخراط في الجمعيات ومكونات المجتمع المدني من أجل التجسس والسيطرة باعتماد السياسات الناعمة. كما لم تتخل عن سياسة ضرب الدوائر الاجتماعية والسياسية التي لا تخدم مشروعها، ولعل عملية الالتفاف على "رابطات حماية الثورة" التي تأسست بطريقة عفوية إثر هروب بن علي ، تعتبر خير مثال على ذلك، فهذه الرابطات التي تأسست كرد فعل شعبي عفوي، وقعت أدلجتها لتتحول إلى ميليشيات إخوانية تضايق الأطراف السياسية والاجتماعية التي تعارض مشروع حركة النهضة. وساهمت هذه الرابطات في الاعتداء بالعنف على اجتماعات الأحزاب، كما ساهمت في الاعتداء الشهير على اتحاد الشغل يوم الاحتفال بذكرى اغتيال مؤسسه الزعيم فرحات حشاد . فمن جهة، يساهم هذا العنف في بث الخوف في المجتمع وتنفير الشرائح الاجتماعية التي تناهض المشروع الإخواني من العمل السياسي والمدني، ومن جهة ثانية يساهم هذا العنف أيضا في خلق تناقضات داخل الدوائر السياسية والمدنية والاجتماعية وذلك ببث شعارات التكفير والتخوين من أجل تغذية استقطاب اجتماعي يخدم الحركة. ومن بين التنظيمات الموازية التي أحدثتها حركة النهضة "جبهة تصحيح المسار النقابي" التي تعمل من أجل إحداث انشقاق في اتحاد الشغل الذي بقي عصيا. وتعقد هذه "الجبهة" اجتماعات شعبية موازية مشحونة بالخطابات العنيفة التي يختلط فيها ماهو ديني بما هو سياسي واجتماعي من أجل إحداث تقسيم نقابي-مجتمعي يخدم الحركة، وقد كانت هذه "الجبهة" شريكا في الاعتداء الذي سبقت الاشارة اليه بمناسبة ذكرى 5 ديسمبر .
ولتعميق استقطابها المجتمعي لا تتوان الحركة عن جلب "الشيوخ" أو "الوعاظ " الذين يحملون أفكارا وخطابات تحريضية شاذة وغريبة، وهذا ما ساهم في تفاقم ظاهرة العنف والممارسات الشاذة التي لا علاقة لها بالإسلام، فساد انقسام مجتمعي خطير، ووصلت الأمور حد الإغتيالات السياسية التي استهدفت عديد الشخصيات السياسية على غرار لطفي نقض وشكري بلعيد، المعارضيْن للمشروع الإخواني.
مراهنة الحركة على الزج بمسألة الدين والهوية في المزايدات الحزبية والسياسية بتحويلها إلى صفقة تعقد من هنا وهناك مع هذا الطرف أو ذاك، والإصرار على إدارة المجتمع انطلاقا من الإيديولوجيا الإخوانية، وانتشار ظاهرة التكفير والإرهاب والشعارات المعادية لليهود التونسيين، كلها أسباب ساهمت في ظهور نزعات جديدة من "السلفية القومية" تستمد جذورها من الأمازيغية، فسادت خطابات تقوم على خلق تناقضات شعبوية بين العروبة والأمازيغية أحيانا ،وبين الإسلام والأمازيغية أحيانا أخرى. وتعود الأسباب السيكو-سوسيولوجية لهذه الظاهرة إلى المشهد السياسي القائم والتجاذبات السياسية-الإجتماعية السائدة، مما جعل شريحة واسعة من التونسيين تمارس تطرفا مضادا، وذلك كرد فعل طبيعي على الهويات المتطرفة التي برزت على الساحة، فالتطرّف يولّد التطرّف المضاد، وهذا ما قد يساهم في ضرب الهوية الوطنية على المستوى المتوسط والبعيد. فالمجتمع التونسي لا يمكن إدارته بمثل هذه الإيديولوجيات السلفية-الإخوانية المتطرفة والمستوردة التي تقوم على سلعنة مفهوم الهويّة، فاستنهاض مركبات الهوية لا يكون سليما إلا في ظل نظام مدني ديمقراطي لا يتاجر بالتنوع الهوياتي المشترك.
ما يمكن استنتاجه أن حركة النهضة التي تعتبر امتدادا للمشروع الإخواني في تونس، لم تتخل عن سياساتها داخل المجتمع التونسي بعد الثورة، بل أعادت إنتاج نفس الأساليب بتسميات مختلفة عبر افتعال التناقضات المجتمعية، وبعث تنظيمات موازية تنشط بالوكالة. والأدهى من ذلك أن الحركة حاولت دسترة هذه الأساليب بتمرير عبارة "التدافع الاجتماعي" في الدستور، فهذه العبارة الغامضة قد تشرّع على المدى المتوسط والبعيد للعنف الاجتماعي الذي قد يؤدي بدوره إلى حرب أهلية في صورة خروجه عن السيطرة. والأخطر من ذلك أن تواصل هذه الأساليب الممنهجة لتقسيم المجتمع لغايات سياسية، قد يؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى بروز تنظيمات اجتماعية تمارس عنفا مضادا، وهذا ما يهدد وحدة المجتمع والسلم الاجتماعي.
3- الإسلام السياسي والتبعات الأمنية
أ‌- الإسلام السياسي وتبعاته الامنية في تونس قبل الثورة
لم يكن الإسلام السياسي في تونس خارج إطار العقيدة الإخوانية القائمة على افتعال التناقضات وتقسيم المجتمع والتوغل في مفاصل الدولة والدوائر الإجتماعية والسياسية باستعمال أساليب المخاتلة أحيانا، والعنف والإرهاب أحيانا أخرى. فمنذ أواسط السبعينيات بدأت الحركة في اختراق المؤسسة العسكرية بتكوين شباب عبر حلقات مسجدية كان يديرها راشد الغنوشي (زعيم النهضة حاليا)، فمن خلال هذه الحلقات تتلقى مجموعات من الشباب تكوينا "إخوانيا" يقوم على النزعات الإنقلابية وتكفير الدولة والمجتمع، ومن ثمة يتم تسريبها في المؤسسة العسكرية. كما لم تسلم المؤسسة الأمنية من الإختراق الإخواني باستعمال نفس الأساليب. فهذه الاختراقات كانت تهدف إلى تمهيد الطريق وتوفير سبل النجاح للإنقلابات قد تقع برمجتها في الوقت المناسب. وأبرز المحاولات الانقلابية التي قامت بها الحركة، المحاولة الإنقلابية على نظام بورقيبة في صائفة 1987 ومحاولتي الإنقلاب على نظام بن علي سنة 1991. وحسب التقارير الأمنية التي وقع الكشف عنها فإن هذه المحاولات الانقلابية كانت ترتكز على نشر الفوضى والإرهاب، ومن ثمة إرباك الدولة والنظام، والشروع في عمليات إغتيال ممنهجة تسمح للحركة بافتكاك السلطة.
ب‌-الإسلام السياسي وتبعاته الأمنية في تونس بعد الثورة
بعد الثورة التونسية صعد التيار الإخواني المتمثل في حركة النهضة إلى السلطة إثر انتخابات 23 أكتوبر 2011. وفي البداية سوقت الحركة شعارات الديمقراطية والتعايش، وادعت أنها تطورت من الرفض الكلي للديمقراطية إلى القبول الكلي بالديمقراطية، كما ادعت تنازلها عن سياسة التوغل في مفاصل الدولة، والنزعات الإنقلابية والإرهاب. لكن هذه الشعارات كانت مجرد خطابات وقع تسويقها أثناء الحملة الإنتخابية من أجل الصعود إلى السلطة والمرور إلى مرحلة من "التربص السياسي" حتى تتمكن الحركة من تفكيك شفرات الدولة العميقة التي خلفها بن علي بعد فراره إلى المملكة العربية السعودية. وسرعان ما بدأت نفس الأساليب تعيد إنتاج نفسها، فطموحات التنظيم الإخواني في اختراق مفاصل الدولة والأجهزة الامنية ما زالت متواصلة، لكن الوضع لا يسمح بالتغلغل المباشر، باعتبار حداثة العهد بالسلطة، ونقاوة المنظومات الأمنية والعسكرية التي خلفها بن علي من كل نفس إخواني، وهذا يعود لمرحلة الاجتثاث التي تعرضت لها الحركة من طرف نظام بن علي إثر ثبوت تورّطها في الأعمال الإرهابية والمحاولات الانقلابية في بداية التسعينيات.
إذن، بعد الصعود إلى السلطة، بدأت الحركة في إعادة إنتاج نفس الأساليب الإخوانية التي تقوم على الاختراقات وافتعال التناقضات داخل المجتمع من أجل تعميق الاستقطاب الجماهيري، فمنذ الحملات الانتخابية بدأت بتسويق خطابات ساهمت في تقسيم المجتمع بين "إخوانيين" و "غير ‘إخوانيين"، ووقع الربط الممنهج بين "الإخوانية" و "الإسلام والهوية" ، بحيث من يخرج عن الأولى يعتبر خارجا عن الثانية، فكل من يساند الإخوان فهو مسلم أما من يعارضهم فهو خارج عن الجماعة وبالتالي خارج عن الإسلام والهويّة. وقد ساهم هذا التقسيم في غم الشعارات الحقيقية للثورة، كما ساهم في انتشار العنف والإغتيالات، فانتشرت ظاهرة الاعتداء على دور الثقافة والفنانين والإعلاميين، كما انتشر الاغتيال السياسي الذي ساهمت فيه "رابطات حماية الثورة" التي وقع اختراقها من طرف حركة الإخوانية بعد أن كانت في بدايتها شعبية وعفوية حيث أنشأها المواطنون لحماية السلم الإجتماعي من الإنفلاتات التي سادت بعد هروب بن علي يوم 14 جانفي 2011.
ولا يخلو المشهد من تناقض في صفوف التيارات الإسلاموية في حد ذاتها، فمن خلال ما نراه اليوم من ردود أفعال متباينة بين "الحركات الإسلامية" بمختلف تياراتها و أشكالها يمكن ملاحظة التباين الواضح و الشاسع في المواقف و الخطابات و الطموحات ووصلت الأمور حدّ الاتهام بالخيانة و العمالة و "التكفير" ، و هنا نصل إلى مرحلة الخطر باعتبار أن "التخوين" و "التكفير" ينبئان بتطوّرات خطيرة لا يمكن توقّع نتائجها باعتبار التاريخ الدموي لمثل هذه الوضعيات و المواقف التي تختلط فيها السياسة بالعقيدة والعنف، فأبشع الفتن وأكثرها دموية كانت بين "مسلمين" و"مسلمين" وليس بين "مسلمين" و"كفار". ... هذا مع التحفظ حول استعمال مصطلح "مسلمين" لأن الإسلام بريء من هؤلاء وأفعالهم.
إنّ الصراعات والصدامات بين "الحركات الإسلامية" هي حتميّة لا مفرّ منها و سيكون المجتمع التونسي مسرحا لهذه المواجهات الّتي يصعب توقّع شكلها و طبيعتها و الّتي سيكون تأثيرها كبير على البلاد سواء أمنيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا و ربما سياسيا. و رغم ما سمعناه عن "علاقات متميزة" بين "النهضة" و "الجماعات الإرهابية" على مستوى القيادات و بعض القواعد فهذا لن يكون حلا مناسبا لاجتناب الصراعات أو الإنفلاتات باعتبار أن "النهضة" حركة "مدنية و ديمقراطية" أكثر من اللازم في نظر "الإسلاميين المتشددين". و تقارب التيارين (النهضة – تنظيمات جهادية) على مستوى القيادات سيؤدي إلى عديد الانقسامات و الانشقاقات في قواعد "التنظيمات الجهادية" و ربما هذا ما سيفرز "حركات منشقة" تكون أكثر خطورة و متميّزة بالتسيّب و سوء التقدير.
___________________________________________
**يوسف بلحاج رحومة (باحث تونسي)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.