لايزال قرار استقالة حمادي الجبالي من الامانة العامة لحركة النهضة محلّ تحاليل وقراءات متعدّدة الاوجه والخلاصات بالنظر إلى قيمة الرجل صلب الحزب الاكثر تمثيلية داخل المجلس الوطني التأسيسي ، والذي ترشحه نتائج عمليات سبر الاراء للحصول على موقع طلائعي في الخارطة السياسية وحرب التموقع والتوازنات التي ستفرزها الانتخابات المقبلة. ولئن بات من الواضح أنّ الجبالي ماض في الانفصال بشكل أو بآخر عن الحركة الامّ التي ساهم في تأسيسها وجعلها رقما صعبا في المعادلة السياسية التونسية ،فإن خبايا وخلفيات هذا القرار وتداعياته على المستقبل السياسي لحمادي الجبالي وخاصة حركة النهضة التي تستعدّ لاجراء استفتاء داخلي لاستشارة قواعدها حول مقترح تأجيل مؤتمرها الاستثنائي المزمع تنظيمه خلال هذه الصائفة، تبقى محلّ اختلافات ورؤى متضادة يتداخل فيها السياسي بالتاريخي لتصبّ جلّها في سياق محاولة فهم الحدث وتفكيك أبعاده. في هذا الحوار المقتضب،يقدّم لنا الدكتور عبد الواحد المكني المحلّل السياسي و المؤرخ الجامعي المختص في التاريخ المعاصر والراهن وجهة نظره حول ما وراء قرار استقالة الجبالي واستتباعاته السياسية والتنظيمية على حركة النهضة. كيف تقرؤون قرار استقالة حمادي الجبالي من الامانة العامة لحركة النهضة ؟ أولا، هذه الاستقالة أصبحت يقينا اليوم بعد أن وضّحها و أكّدها السيد حمادي الجبالي في بيان توضيحي لأنصار النهضة وللرأي العام. و في مقام ثان ،أعتقد أن هذا التوضيح له عدة مغازي خصوصا أن عدة أطراف من النهضة و منها مدير مكتب راشد الغنوشي ظلّ ينفي ذلك. هذه الاستقالة منطقيّا كان يجب أن تكون بعد أزمة فيفري 2012 و عرقلة مجلس الشورى لمبادرة الجبالي، وهي جاءت متأخرة و تؤشر لعدة احتمالات. ماهي هذه الاحتمالات؟ وهل يمكن أن تؤشر على تفجّر زلزال من التصدّعات والاستقالات صلب الحركة؟ بداية ينبغي أن نشير إلى وجود خلاف حقيقي داخل حركة النهضة بين شق المهجر ( الغنوشي، زيتون و عامر العريض) و جماعة الداخل ورمزهم حمادي الجبالي. وأعتقد ان النقطة الثانية في بيان الجبالي التوضيحي تلمّح الى ذلك. هذا الخلاف ظلّ خامدا و لكنه متشعّب خصوصا خلاف حمادي الجبالي مع لطفي زيتون. لا ننسى أيضا أن النهضة شقّتها و تشقّها ، رغم محاولات المداراة، خلافات ذات بعد جهوي بين جماعة الجنوب الذين أمسكوا بكل دواليب الحركة بعد استقالة حكومة الجبالي و بين البقية و خاصة جماعة الساحل الذين يمثلهم حمادي الجبالي و نجل حامد القروي. و لكن رغم هذا أظنّ أنّ الخلاف عادي في حركة وصلت الحكم وهو منتظر بالنسبة لي كمؤرخ رغم أن النهضة هي حركة منتظمة بطريقة مذهبية كباقي حركات الاخوان المسلمين و يصعب على اعضائها الخروج عن الخط التنظيمي. كان هذا في زمن المعارضة و المنافي. اليوم الحركة أصبحت في الحكم و البعض منها صار يتدرب على خدمة الدولة أكثر من الحزب فمن الطبيعي ان تنشأ التناقضات والصراعات. الحزب الحرّ الدستوري الجديد عندما اقترب من السلطة حدثت له انشقاقات عديدة أبرزها الصراع البورقيبي- اليوسفي ثم الخلاف بين بورقيببة و بن صالح و خروج جماعة المستيري. المهم أن الخلاف داخل حزب كبير وصل إلى السلطة هو أمر عادي. وهو أحيانا علامة حياة و ليس علامة موت. ولكنّ توقيت الاستقالة يطرح نقاط استفهام عديدة لاسيما ان الحركة مقبلة على استفتاء داخلي؟ في اعتقادي الرسالة الثانية في استقالة الجبالي من الأمانة العامة تكمن في أنّها جاءت في فترة سبقت ما يسمى بالاستفتاء الداخلي لحركة النهضة. وهنا لا بد من التفكير في أمرين.إما ان الأمر مرتّب مع الجبالي او أنه استبق الاستفتاء و المؤتمر.و أنا أميل إلى أن الجبالي وضع الجميع أمام الأمر الواقع و ثأر لنفسه من حالة الضبابية التنظيمية عكس عبد الفتاح مورو، وقد تفادى بذلك التهميش. النقطة الرابعة من البيان التوضيحي تبيّن أنه أقرب و أميل الى الترشح للرئاسية و سيكون على الارجح غانما لمساندة النهضة و القوى التي تدور في فلكها.بيد أنّ أمر الترويكا السابقة بعد هذه الاستقالة سيزداد ضبابية باعتبار السباق الخفي بن المرزوقي و بن جعفر للحصول على التزكية الضمنية من النهضة. في المحصّلة،هذا السيناريو الجديد سيقلب عدّة معادلات سياسية. إلى أيّ حدّ يمكن أن تؤثر هذه الاستقالة على موازين القوى صلب حركة النهضة ولاسيما موقعها في المشهد السياسي؟ لا لن تكون مؤثرة كثيرا لأن الحركة مازالت لم تصبح حزبا بقدر ماهي تنظيم مذهبي يقوم على المرشد كبقية جماعات الاخوان المسلمين. حركة النهضة لن يقع لها أي تصدّع طالما أنّ الغنوشي هو مرشدها لأنه لا يجد أي منافسة داخلية و أحسن مثال هو ما وقع للسيد عبد الفتاح مورو و الذي عاد في الاخير للانضباط و لبيت الطاعة رغم ما حصل له من اهانات رمزية باعلانه وزيرا في تشكيلة الجبالي ثم التراجع عن ذلك. لو كانت حركة النهضة قابلة للتصدع لكان ذلك مع ما وقع لصهر الغنوشي السيد رفيق عبد السلام سواء في حادثة الشيراتون أو أموال الصين. هل نفهم من كلامك أن الجبالي بوصفه أحد القيادات التاريخية للنهضة قد يلاقي نفس مصير صالح كركر عندما أخرج وهُمش من الحركة؟ أعتقد أنّ المسألتين ليستا متشابهتين . حمادي الجبالي له أنصار أكثر من كركر وهو رئيس حكومة سابق و كوّن شبكة من العلاقات الداخلية و الخارجية. دعني أقول ان حمادي الجبالي أصبح يقترب من مكانة رجل الحزب العصري في حين أن الغنوشي لم يخرج من جلباب الاخوان المسلمين. لن يكون الجبالي عرضة للتهميش لأن أداء حكومة علي العريض أنقذه من صفة الفشل التام و جعله يكسب تعاطفا نسبيا حتى من خارج الحركة لكنّه كان نزيها في التعبير عن استقالته رفضا لتدهور الوضع بالبلاد. هذا فقط كاف لانقاذ مستقبله السياسي. وكيف يتراءى لكم مستقبله السياسي خاصة في ظل الحديث عن امكانية دخوله غمار الانتخابات الرئاسية؟ في الحالتين، هناك نوع من المجازفة لأن مرشح النهضة المباشر أو غير المباشر في الرئاسية حظوظه صعبة جدا للنجاح في الدور الثاني في حال ترشح الباجي قائد السبسي عكس التشريعية التي ستظل فيها حظوظ النهضة وافرة للفوز وهو الرهان الذي يشتغل عليه علي العريض و انصاره و الذي بدا جليّا يوم عيد الاستقلال.