انطلاقا من تعريف مالينوفسكي للتغير الثقافي ''أنه عملية بواسطتها يتغير النظام القائم في المجتمع تغيرا يشمل الجوانب الاجتماعية والروحية والمادية من الحضارة وهذا التغير يكون من نمط إلى نمط آخر مغاير، فإن التغير الثقافي لهذا يشمل عمليات التعديل أو التحوير ليس فقط بالنسبة للنظم العائلية أو التوزيع الإقليمي للسكان في المجتمع أو المعتقدات أو انساق المعرفة والتعليم والقانون فحسب، بل أيضا الأدوات أو الوسائل المادية وطرق استخدامها كما يشمل الاستهلاك السلعي، والتغير الثقافي بالمعنى الواسع لهذا المصطلح يعتبر عاملا مستمرا في الحضارة الإنسانية وهو يحدث في كل زمان ومكان[1]". ومن هذا المنطلق فإن التغير الثقافي الشامل لا يحدث إلا بتغيير النظام القائم وإنهاء جميع مؤسساته ومراكزه التي كان من خلالها يؤثر في فرض أحكام أو حركية تسيطر على أسلوب العمل، وكذلك بوضع قوانين وخطط ومشاريع ثقافية قادرة على التكيف والتناغم مع المجتمعات تراعي حاجياتهم الفعلية لتصبح ثورة ثقافية نستطيع من خلالها تغيير المفاهيم السابقة ووضع مفاهيم جديدة قادرة على نهج ممارسة مستحدثة ضمن التقدم الحضاري وتغيير مراكز القوى الحيوية التقليدية بمراكز حضارية تطبق النظم الديمقراطية في اطار توزيع عادل للوظائف ليصبح كل فرد إنسانا منتجا متعايشا مع المفاهيم المتطورة. كما يشمل التغير حسب العلامة مالينوفسكي أيضا الأدوات التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية حيث تشكلت ابتكارات تقنية مستحدثة وضعت كبديل لحاجيات الإنسان، وكذلك النظم التي تقرها العائلة الواحدة في المجتمع الذي تنتمي إليه من معتقدات وخرافات بالية أو طقوس لاهوتية وجب التصدي لها من خلال التوعية الاجتماعية والتربوية لترسيخ المفاهيم الحضارية في عقولهم. ومن هنا يمكن أن نتحدث عن ثنائية التأثير والتأثر الحضاري لإحداث التغيير في النظم والظواهر الاجتماعية التي استطاعت أن تدفع البلاد المتخلفة نحو التحليق إلى الحضارة المتطورة ، والمثال الذي يقدمه لنا الكاتب إبراهيم صقر أبو عمشة هو خير دليل على ما تقدم من طرح "فكثير من الشعوب المتخلفة استطاعت السيطرة على مفاتيح البلاد وتوجيه المراكز والمؤسسات والهيئات والجمعيات نحو التحرك والتفاعل مع مؤسسات أجنبية في التعليم ، للوصول إلى فهم التطورات الحضارية ، في فهم الحضارات المتقدمة فأصبح الفرد في المجتمعات المتخلفة قادرا على إحداث التغيير في كثير من النظم والظواهر الاجتماعية وسماتها المتشبعة بالأفكار والمعتقدات التي كان لها جدول عذب في مظاهر وشخصية الشعوب المتخلفة"[2]. ففي المجتمع التونسي ظهرت الثورة على البنى الذهنية العتيقة والمتهرئة في مختلف مستوياتها مع مجموعة من النخب تداولت على إصلاح أوضاع البلاد سياسيا و ثقافية واجتماعيا، فظهر الجيل الأول من المصلحين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تجلت الاصلاحتهم واضحة منذ صدور عهد الأمان ودستور 1860 وصدور جريدة الرائد التونسي وما لحق ذلك من إصلاحات رائدة روادها كثر، أهمهم خير الدين باشا وابن أبي الضياف ومن عاصرهما وناصرهما فكريا وسياسيا مثل محمود قبادو (18151871) والجنرال حسين (18201887) ومحمد السنوسي (18501900) ومحمد بيرم الخامس (18401889) وغيرهم أسسوا لمقاربة نظرية أساسها الملائمة بين الشريعة والمدينة، وظهر الجيل الثاني للتيار الإصلاحي بداية القرن العشرين عمل على بلورة رأي عام متفاعل مع مبادئ الإصلاح وقيمه إلى نشر أفكاره وسط النخبة والشباب قبل الخوض في العمل السياسي، إذن فنحن نعثر على أهم رموز ذلك التيار في وسط الفقهاء والشيوخ (سالم بوحاجب والشيخ محمد الطاهر بن عاشور) ورجال الأدب (أبو القاسم الشابي والطاهر الحداد) ورجال الإعلام (زين العابدين السنوسي والهادي العبيدي) وجيل حركة الشباب التونسي التي تكونت من خريجي المدرسة الصادقية الذين واصلوا تعليمهم بالخارج وفي مقدمتهم علي باش حامبة وبشير صفر وعبد الجليل الزاوش وخير الله بن مصطفى الذين أتو بأنموذج إيديولوجي جديد أكثر قربا من مبادئ الثورة الفرنسية وعصر الأنوار والفكر السياسي الأوروبي . فهم رجال كرسوا حياتهم للعمل في الجبهات التربوية والذهنية والإعلامية والثقافية والاجتماعية والسياسية... أما الجيل الثالث فتمثل في النخب السياسية لحركة التحرر الوطني بقيادة الحزب الدستوري الجديد (1934-1956) الذي يترأسه الحبيب بورقيبة وأسفرت إلى الاستقلال البلاد من الاستعمار الفرنسي في 20 مارس 1956. وأخيرا الجيل الرابع الذي قام بثورة 17 ديسمبر 2010 من الشباب ورجال أحرار عُرفوا بمبادئهم و رجولتهم ضد ظلم واستبداد حكومة بن علي يطمحون إلى التغيير والعيش بكرامة وحرية وعدالة مثل بقيّة شعوب العالم المتطوّرة. فالسؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن أن نتفاءل خير بالجيل الرابع وهل هو قادر فعلا على تغيير ثقافي واجتماعي؟ نعتقد بأن هذا الجيل أظهر لنا حرص كبيرا على التغيير حيث كان يطمح للعب دور أكبر واحداث تغيير جذري في طبيعة النشاط الثقافي التونسي من خلال مجموعات وحركات شبابية التزمت بمشاغل الشارع والمواطن ومقاومة النظام بنشاطها الثقافي من خلال المسرح كمجموعة "فني رغما عني" التي سعت إلى ترسيخ مفهوم فن ومسرح الشارع ونقد الواقع والدفاع عن المظالم، ومن خلال العروض الموسيقية فقد كان الامتياز لمجموعات الراب التي استهدفت كل من Klay bbj، phynix، kafon، Balti، حمزاوي، جنرال... وغيرهم من الشباب الذي وجد في الراب متنفس لغضبهم وتعبيرا لرأيتهم، كذلك الرسومات الحائطية "الغرافيتي" التي أصبحت من الوسائل التعبيرية الجديدة للشباب وأصبحت تحمل لمعاني ثورية حول الحرية وحق الانسان في العيش الكريم والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعي وشهداء الثورة وضد العنف، من أهم هذه المجموعات الشبابية "أهل الكهف" و"زواولة "و"حركة شباب تونس"، وفي ميدان السينما استطاع الشباب أن يجد المتنفس لمعالجة القضايا التي تعيشها البلاد وتصاعدت الرغبة من الجيل الجديد في فرض رؤاه على المشهد السينمائي الذي ظل محصورا لعقود ضمن أسماء محددة وأصبح التطرق إلى المواضيع الساخنة والتي تمكن المواطن من التغلب على الخوف الذي كان متراكم عبر سنوات وأجيال، فظهر فيلم "لا خوف بعد اليوم" للمخرج مراد بالشيخ الذي أثبت فيه رفض الشعب التونسي للخوف حيث خرج إلى الشارع رغم الآلة القامعة لبن علي فثار ضد الدكتاتورية، وعرض هذا الفيلم في مهرجان كان الدولي، وأنتجت أفلام أخرى قصيرة أو طويلة أو وثائقيّة تعالج مشاكل المجتمع وتحاول الاقتراب أكثر فأكثر من الواقع. يمكن أن نستند إلى معطى هام أكده مالينوفسكي في مستهل هذا المقال ألا وهو عامل الزمن فالتغيير لا يمكن أن يكون في فترة زمنية محدودة ولكن تتضمن عمليات التغيير فترات زمنية مستمرة يتبعها كثير من الخلافات وعدم الرضى حتى الوصول إلى تغيير في أعماق وثنايا المجتمع. فعلينا أن نتحلى بالصبر مع المثابرة بالعمل الجاد حتى نحقق النتائج التي نطمح إليها ونترك رسالة مضمونة الوصول للأجيال القادمة "العمل ثم العمل لأجل تحقيق ما لم يستطع أن يحققه الآخرون". [1] محجوب (محمد)، الاتجاه السوسيو انتروبولوجي في دراسة المجتمع، وكالة المطبوعات، الكويت، ص 99. [2] أبو عمشة (ابراهيم صقر)، الثقافة و التغير الاجتماعي، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، تونس ، 1983، ص 77-78.