مع اقتراب موعد "الانتخابات" انتشرت (كالعادة) عديد الخرافات في تونس. وهذه الخرافات لا تخص طرفا ايديولوجيا معينا، بل لعلها أكثر انتشارا في صفوف الذين يدعون أنهم "تطوروا" و "تعلمنوا" وتخلصوا من الفكر الخرافي. فأغلب التونسيين ورغم التحديث الشكلاني الذي تعرضوا له ورغم استهلاكهم لقشور الحداثة ومنتجاتها المادية والأخلاقية والفكرية، إلا أنهم متأثرون (ابتسيميا وليس ايديولوجيا) بالموروث الخرافي والميثولوجية الدينية وكرامات الاولياء الصالحين وأساطير الأبطال الذين يتمتعون بقدرات يعجز العقل عن تفسيرها. سنحاول الإشارة إلى بعض النقاط أو الخرافات، رغم أنها ستزعج الكثير من "العلمانيين" و"الحداثيين" وستجعلهم يشعرون بالامتعاض وبنوع من الكره تجاهي. 1- كثيرا ما يسود الحديث عن أن المنافسة الحزبية ستكون على أساس البرامج والرؤى السياسية الاستراتيجية. والواقع أن هذا الطرح يحمل كثيرا من الشعبوية والتسطيح، فلا بنية الأحزاب، ولا البنية الاجتماعية والثقافية والذهنية، ولا تقاليد الدولة البيروقراطية تسمح بذلك. فخلال الانتخابات الفارطة قدمت جميع الأحزاب برامج كانت في مجملها جميلة ورائعة من حيث تسويق النوايا الطيبة على الأقل. لكن مع وصول أحزاب معينة إلى السلطة، رمت برامجها جانبا لأنها وجدت نفسها خارج اللعبة وفي تناقض ونشاز مع الواقع الإداري وتقاليد الدولة والبيروقراطية التي لا يمكن التخلص منها بسهولة وفي وقت قياسي، باعتبار انصهارها مع الآليات الاقتصادية والمجتمعية والثقافية السائدة، ولاعتبارات أخرى يطول شرحها. 2- البرامج بالنسبة للأحزاب هي عمل انتخابوي فوقي سطحي طوباوي لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع الداخلي والخارجي، ولا يتعامل مع المعطيات الدقيقة. وعادة ما يكون رسم البرامج نتاجا طبيعيا وضروريا لقرب موعد الانتخابات. رسم البرامج الحزبية الجدية هو عمل ديناميكي طويل المدى، يعتمد على الذكاء والمعطيات الدقيقة الشاملة على المستوى الجهوي والمركزي والإقليمي والعالمي. بنية وطبيعة الأحزاب في تونس لا تسمح بإنجاز برامج جدية وفاعلة، وهذا يعود لاعتبارات ذاتية متعلقة بالتقاليد الانتهازية التي تقوم على اللجوء إلى أسهل الطرق لكسب ود الناخب (اللعب على ورقة الدين والهوية؛ اللعب على ورقة العلمانية وادعاء الحداثة؛ ادعاء الوسطية والاعتدال مقابل إلحاق تُهم التطرف والفوضوية بالأطراف السياسية التي تدعو للتغيير والتقدم؛ تشويه الخصوم السياسيين؛ السفسطة واللعب على التجهيل؛ الوعود الزائفة؛ المال السياسي، تسويق شعارات "كسر" الاستقطاب الثنائي..). وكذلك لاعتبارات موضوعية متعلقة بطبيعة المجتمع التي تميل نحو المهادنة والحفاظ على السائد، والإسقاط على الأفراد والتعامل بمنطق الفضيلة والنوايا الحسنة. وعادة لا يطلع المواطن على البرامج ولا يعطيها اهتماما لأنها فوقية ومسقطة، وليست نتاج ديناميكية حزبية مجتمعية قائمة على الربط الفكري بين المجتمع وواقعه من جهة والدولة والإدارة والنظام والمعطيات الدقيقة الشاملة من جهة ثانية. 3- حتى ولو نجحت عديد التيارات السياسية في إثبات وقوف حركة النهضة وراء الإرهاب، فسيكون سعيها عقيما في الحد من شعبية هذه الحركة، بل لعل ذلك سيزيد من شعبية هذه الحركة والتفاف كتلة اجتماعية واسعة حولها. وذلك لأسباب سوسيولوجية وعقائدية وتنظيمية يطول شرحها، ولا داعي للدخول في بعض تفاصيلها لأنها قد تزعج الكثيرين. 4- الأطراف السياسية التي تراهن على المزايدات القائمة على أساس اللقاءات مع السفير الأمريكي وعلى أساس القضية الفلسطينية والمواقف من أحداث غزة، سيكون سعيها عقيما ولن تتمكن من تحقيق الاستقطاب الحزبي الانتخابي الذي تتصوّره ... المسألة لا علاقة لها بتخوين الشعب والاستنقاص من ذكائه ووطنيّته وشعوره القومي... المسألة أعمق من هذا بكثير ... 6- حركة النهضة ليست غبية، بل هي حزب واقعي براغماتي له قدرة كبيرة على التكيّف ومسايرة الواقع والإلتفاف على الأحداث واحتواء الأزمات من خلال تفكيكها وتمييعها وإفراغ شحنتها. النهضة أيضا، حزب يوظّف أحدث المناهج المستنبطة من علم الإجتماع وعلم نفس الإجتماع وعلم الاجتماع السياسي. 7- في ما يخص أساليب وتقنيات الإستقطاب الانتخابي، هناك هوّة عميقة بين حركة النهضة وبقية الاحزاب. فحركة النهضة وعلى عكس بقية التيارات، تتحرك بأساليب ناجعة ومتطورة تنم عن فهم ووعي بنمط المجتمع التونسي وتركيبة الشخصية التونسية. عادة ما يسود الاعتقاد بأن نجاح حركة النهضة هو نتاج استثمارها للدين والمساجد و"قلّة الوعي" لدى "الشعب". وهذا في الحقيقة جزء من المسألة، وربما جزء مهم جدا. فالعملية الانتخابية هي عملية معقّدة تتطلب دراية علمية عميقة ودقيقة بالكثير من التفاصيل الاجتماعية والنفسية. فمن غير السهل أن تجرّ ناخبا ليضع لك ورقة في صندوق الإقتراع. 8- لدى تيار واسع مما يسمّى "الطبقة السياسية" هناك خلط بين إثارة الإعجاب وجلب الإنتباه، وبين جرّ الناخب إلى صندوق الاقتراع. فقد ينجح "السياسي" في إثارة الإعجاب وكسب التعاطف، لكن هذا لا يعني أنه سيجني عددا كبيرا من الأصوات الانتخابية. المسألة معقّدة، لكن يمكن تفسيرها على أن الناخب في مجتمع كالمجتمع التونسي أو حتى في المجتمعات الأوروبية، يبحث بالأساس عن الطمأنينة بمضامينها المختلفة. فالناخب لن يصوّت لك مهما فعلت ما لم يشعر بالإطمئنان، فالطمأنينة لها مكانة في العقل الباطني للناخب تسبق التعاطف مع السياسي. فالمراهنة على "النقاء" الثوري وعلى أخذ مواقف مبدئية في ما يخص عديد القضايا الداخلية والخارجية بترويج شعارات من قبيل "امبريالية ؛ دوائر استعمارية ؛ تجريم التطبيع ؛ تعليق المديونية ؛ مقاطعة السفارات الأجنبية " كلها تكتيكات لن تحقق الاستقطاب الانتخابي الذي قد يتصوّره الكثير من السياسيين. فالتونسي "العادي" وحتى الأمّي ليس غبيا مثلما يتصوّر الكثيرون، فهو غير مستعد للدخول في عداء مع الدول الغربية وليس مستعدا للمغامرة من خلال الدخول في تدافع عنف أو شبه عنيف مع الدوائر المالية الأجنبية والولايات المتحدة وغيرها من الدوائر، حتى ولو كان ذلك بطريقة "معتدلة" وبراغماتية. التونسي حتى الأشد فقرا يُدرك أن أدق تفاصيل حياته وحاجياته مرتبطة بالخارج وبالاقتراض وبالانفتاح على الغرب. فالتونسي يدرك أنه يأكل الخبز المصنوع من الفرينة الأمريكية ويدرك أنه يستعمل الكهرباء والوقود بفضل التوريد والاقتراض، كما يدرك أن حياته وحاجياته وقوته اليومي مرهون بارتباطات خارجية معقّدة من الصعب تغييرها، كما يدرك حجم المخاطرة التي قد تنتج عن محاولة زحزحة مثل هذا الارتباطات أو حتى محاولة تغييرها. وقد يبدو أن ما قلناه هو خطاب يميني تبريري فيه الكثير من الرجعية والسفسطة. لكن هذا ما يعيه التونسي وهذا هو الموجود في العقل الباطني لكل التونسيين. والإشكال لدى التيارات اليسارية والثورية في تونس أنها تركز في عملها السياسي على الداخل، أما الارتباطات الخارجية وتبعات العولمة التي تتحكم كليا في الديناميات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداخلية، فلم تحظ بما تستحق. وفي هذه النقطة لا يجب أن نلوم المواطن التونسي إذا لم يجد دينامية سياسية ومدنية جدية وفاعلة تأخذ بعين الاعتبار متطلبات العولمة والانفتاح الكاسح الذي تعيشه تونس. 9- من المغالطات السائدة في عملية الاستقطاب الانتخابي أن المراهنة على مؤسسات المجتمع المدني والعمل الإعلامي سيكون هي البديل والقوة المضادة لما تقوم به حركة النهضة من توظيف للدين والمساجد. وهذا فيه كثير من التسطيح والاستغفال. فحركة النهضة تراهن في استقطابها الانتخابي على العائلة أولا ثم الأقرباء والأصدقاء ثم مفاصل المجتمع. 10- من المغالطات السائدة أيضا أن عملية الاستقطاب الانتخابي هي عملية تقنية تقوم على التواصل والإتصال المباشر فحسب، وهذا فيه كثير من التسطيح والاستغفال. فالمجتمع التونسي ورغم التحديث الشكلاني الذي تعرض له، ما زال في بناه الذهنية يميل إلى الإسقاط على العائلة والعشيرة وأبناء القرية والمدينة والمقربين، عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الثقة والطمأنينة والتفويض. وهذه الخاصية موجودة أيضا في المجتمعات الأوروبية العريقة في الدمقرطة والحداثة، لكنها أقل تأثيرا. ومن ناحية أخرى تجب الإشارة إلى أن عملية الاستقطاب الانتخابي وبالرغم من انها تبدو عملية تقنية بسيطة شكلا، إلا أنها تتطلب وجود عقيدة اجتماعية ضرورية لخلق دينامية انتخابية مركزة على تيار سياسي معيّن. وهذا ما تتمتع به حركة النهضة لأنها راهنت على المسجد و الدين والعائلة والتسلسل الاجتماعي لتعويض هذا النقص باعتبار أن النسيج المؤسساتي للدولة والنسيج المدني ما زال صنميا بفعل مخلفات الديكتاتورية. 11- إذا تواصل المشهد السياسي- الإجتماعي على هذا المنوال فإن حركة النهضة ستكون هي الأقدر على الحشد وجني الأصوات الانتخابية. وستكون هي المتحصلة على الأغلبية النسبية خلال الانتخابات القادمة وبفارق كبير عن أقرب منافسيها. أعرف أن ما قلته سيزعج الكثيرين لأنه سيفسد أحلامهم. لكن آن الأوان لقول الحقيقة.