" دفع من ميزانية الثقافة للفنّان اليوناني ياني هذه الصائفة مليار وثلاثمائة ألف لإحياء حفلتين فقط" (خبر منشور في الصحف التونسية) توجد طائفة من وزراء جمعة "على نيّتها"، تبدو طيّبة أحيانا إلى حدّ السذاجة، لم يصدّق بعضهم تولّيه الوزارة، وتبدو تصرّفاته غريبة بعض الشيء، كأن ينهمك في أخذ صور "السلفي" أو يشارك في تصوير ومضة إعلانية موجّهة للأجانب في حين أنه شخصية غير معروفة لديهم، بينما توجد طائفة أخرى مارست مسؤوليات من درجة أقلّ في أجهزة الدولة التونسية، ويملك بعضها تقديرات وحسابات مختلفة قائمة بالدرجة الأولى على رؤية الوزارة باعتبارها فرصة لن تتكرّر لتحقيق أكبر قدر من المغانم الشخصية في ظلّ يقينها بترهّل المؤسسّات الرقابية وانشغال المجلس الوطني التأسيسي بكلّ الأشياء التافهة والصغيرة وإهمال الوظائف الأساسية للمؤسّسة البرلمانية وفي مقدّمتها الرقابة على الوزراء ومراجعة قراراتهم المثيرة. وقع اختيار مهدي جمعة على مراد الصقلي وزيرا للثقافة، بعد أن وجد في سيرته الذاتية بلا شكّ ما يرجّحه على غيره من المنافسين، رغم أنّني شخصيا – و أزعم أنّني مطّلع نسبيا على شؤون بلادي الثقافية منذ عقدين من الزمان تقريبا- لم أعثر على شيء مميّز أو لافت في مسيرة الرجل سواء كأستاذ جامعي أو كمؤلّف موسيقي أو كمدير لدورة ناقصة لمهرجان قرطاج الدولي، ربّما كانت من أفشل الدورات وأكثرها إثارة للشبهات، تماما كما كان شأن سلفه السيد مهدي مبروك الّذي لم يكن يملك من صلة بالثقافة سوى كونه اشتغل قبل ثلاثين عاما ربّما مسؤولا ثقافيا محلّيا، وممّا أثار دهشة كلّ مهتمّ بالشأن الثقافي أن السيد الصقلي عمل طيلة الأشهر الماضية كما "الصقالبة" تماما، لم يعبأ بأي نصيحة ولم يبدو خائفا من أي محاسبة أو رقابة أو مؤسسّة عليا، وتصرّف فيما يعود إليه بالنظر وما لا يعود كذلك، كما لو أنّه حاكم بأمره. يوجد مهرجانان رسميان في تونس، لهما وضعية خاصّة ويرجعان بالنظر مباشرة إلى وزارة الثقافة، كما تعود رئاستهما عمليّا إلى وزير الثقافة، هما مهرجان قرطاج ومهرجان الحمّامات الدوليين، وإلى سنة خلت كان الوزير الحالي مراد الصقلي مديرا للمهرجان الأوّل بينما يشغل الفنّان الكبير فتحي الهدّاوي مديرا للمهرجان الثاني منذ سنة 2012، ولعلّ أي بحث بسيط مقارن يجرى من قبل جهة محايدة ومهنية بين المهرجانين المذكورين خلال السنتين الماضيتين سيصل بالضرورة إلى إعلان تفوّق مهرجان الحمّامات الدولي على مهرجان قرطاج الدولي سواء من حيث القيمة الفنّية للعروض المبرمجة أو من حيث التنظيم، على الرغم من الاختلاف الصارخ في الميزانية المرصودة من قبل الوزارة بينهما، لصالح قرطاج على حساب الحمّامات طبعا الّذي لم تكن ميزانيته تتجاوز خمسمائة ألف دينار، أي ما يزيد عن مائتي ألف يورو بقليل. وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة الّتي حقّقها الفنّان فتحي الهدّاوي في مهرجان الحمّامات الدولي وكذا المركز الثقافي الدولي، فقد فوجئت الأوساط الفنيّة والثقافية بقرار الوزير الصقلي إعفاء المدير الناجح ذي السيرة الفنيّة المتميّزة وطنيا وعربيا ودوليا، وتعويضه بأحد أصدقائه من الموسيقيين المغمورين، وهو أمر – أي تعيين الأصدقاء الموسيقيين- تكرّر مع مهرجانات ومؤسسات ثقافية أخرى، دون إبداء أي حجج أو تبريرات مقنعة، وفي خرق سافر للقوانين المرعية حيث يلزم القانون التونسي بأن يتمّ تعيين مدير مهرجان الحمّامات عن طريق أمر صادر عن رئيس الحكومة بترشيح من الوزير المكلّف بالثقافة، بينما صدر قرار تسمية خليفة الهدّاوي في منصبه بقرار مباشر من السيد الصقلي وتجاوز مفضوح لصلاحيات رئيس الحكومة، في خطوة استباقية فاحت منها رائحة مزاجية عالية واستهتار كبير بالمصلحة الوطنية. كان فتحي الهدّاوي عند توصّله بقرار الإعفاء منشغلا بتحضير دورة استثنائية للمهرجان بمناسبة خمسينيته، وكانت بلجيكا مرشّحة لتكون ضيف شرف، وقد أبدى رئيس الحكومة البلجيكية بعد أن التقاه فنّاننا الكبير في بروكسيل، استعداد بلاده التكفّل بالجزء الأكبر من مصاريف الدورة، وهو ما سيوفّر على الميزانية الوطنية عشرات الآلاف من اليوروات، وقد تسبّب القرار الوزاري غير المسؤول ليس في خسارة المهرجان لبرنامج فنّي رائع حافل بعروض استثنائية لأهمّ الفنّانين البلجيكيين فحسب، بل وفي إهدار المال العام بالنظر إلى أنّ المنحة البلجيكية قد ضاعت لضياع البرنامج الّذي أسندت من أجله. كان بمقدور فتحي الهدّاوي أن يكون مرشّحا قويّا لوزارة الثقافة في حكومة الكفاءات المستقلّة، فسيرته الذاتية حافلة بالجوائز والتكريمات والمشاركات الوطنية والعربية والدولية، وهو أحد أهمّ الممثّلين التونسيين إن لم أقل أهمّهم، ويملك إلى جانب سجلّه الفني الثريّ شبكة علاقات إقليمية وعالمية ممتازة أفاد منها الوطن كثيرا عند إدارته في زمن شديد الصعوبة والاضطراب لمهرجان الحمامات ومركزها الثقافي الدولي، وما قد لا يعرفه كثيرون أنّ هذا الفنّان شغل وظيفته الإدارية دون تلقّي ملّيم واحد كأجر أو مكافأة من وزارة الثقافة، وبدل تكريمه والاعتراف بعطائه الوطني وجد نكران الجميل والعزل الفجّ الّذي لا يمكن أن يقرأ إلاّ باعتباره إبعادا لشخصية ذات كفاءة ونزاهة قد تقوم بتعرية من لم يشهد لهم بأي كفاءة أو نزاهة. يواجه الوزير الصقلي عديد التساؤلات والشبهات فضلا عن قضيّة عزله للفنّان فتحي الهدّاوي، من أهمّها مسألة تعيين أصدقائه الموسيقيين على رأس المهرجانات، وتعيينه المتفقّد العام للوزارة الّذي كان مسؤولا عن الرقابة والتدقيق في الملفات الحارقة مديرا لديوانه، وإصراره على التعامل حصرا مع شركة على ملك أحد أقربائه في التعاقد مع الفنّانين الّذين جرى اختيارهم لمهرجان قرطاج هذا العام ضاربا باحتجاجات نقابة متعهّدي الحفلات عرض الحائط، بالإضافة إلى ملاحظات جدّية أبداها بعض العارفين بأجور الفنّانين الأجانب عن فوارق رهيبة في الأرقام بين تلك المسجّلة في العقود وتلك الّرائجة في السوق تصل إلى مئات الآلاف من الدنانير، والمعروف أن مهرجانا كقرطاج يمتدّ تنظيمه على أسابيع يشكّل صعوبة في أعماله على المراقبين الماليين كما يمثّل هامش الشبهة والفساد فيه مساحة كبيرة. يجب أن يدرك السيد الوزير أن أعراف الوزارة لا يمكن أن تظلّ على حالها الّذي عرفت به قبل الثورة، وأن واقع بعد الثورة سيقلّص لا محالة من مزاجية المسؤولين الحكوميين وسيحرمهم بالضرورة من التصرّف في الشأن العام باعتباره "عزبة" موروثة أو إقطاعية محالة، أو تعيين المدراء باعتباره عقابا للمارقين أو جزاء للأصدقاء والمقرّبين.