مر يوم 13 أوت ذكرى اصدار مجلة الاحوال الشخصية في تونس، واحتفل به الكل أو بأكثر دقة ركب على صهوته الجميع. كانت كلمة السر فيه حقوق المرأة التونسية ومكاسبها. كلهم رددوا كجوقة واحدة "ضرورة المحافظة على هذه المكاسب" وتطويرها بدرجات متفاوتة. كان الغائب في خطاباتهم واحتفالاتهم صانع هذا اليوم، بل لا نبالغ في القول اذا قلنا انه "خالق" تونس الحديثة من عدم كما كان يردد. احتفل الجميع بمجلة الاحوال الشخصية وغيبوا بنية لا يعلمها الا الله والراسخون في العلم، من اقر هذه المجلة وكل القوانين الحديثة التي اسست للجمهورية: الزعيم الحبيب بورقيبة. المتابع للكلمات التي القيت بين القصرين (القصبة وقرطاج) وبين كلمات اخرى من قبيل كلمة شيخ مونبليزير يلاحظ تغيبا متعمدا وعدم اتيان على اسم بورقيبة بالحد الادنى اي بالاسم. لماذا وهو الذي صنع اليوم الذي فيه يحتفلون؟ّ لهذا التغيب المتعمد اسباب عدة: ساكن قرطاج الحقوقي، منشغل بتحقيق مجده الشخصي ومسكون بجنون العظمة ولا يتصور أن هناك زعيما في تونس وفي البلاد العربية دونه حاضرا ومستقلا!. ساكن القصبة، هذا الفتى المبتدأ في السياسة والذي جيئ به على حين غرة، مازال يرمم صورته الاعلامية مستعينا ب"الوفاق" ولا يريد ان يغضب مريديه ومن ابرزهم شيخ مونبليزير والذي جعل من يوم مجلة الاحوال الشخصية فرصة للتأكيد على تحصين فرج المرأة المسلمة وتزويج المطلقات والعوانس وشد حجاب الرأس. اذا كان لساكنا القصرين حسابات شخصية وتوافقية في تغيبهم لبورقيبة فان لشيخ مونبيلزيرعقد عقائدية ربما لن يبرأ منها الى يوم يبعثون. ربما احتفلت باليوم احزاب اخرى ومنظمات اخرى اعطت للزعيم بورقيبة مكانته التي يستحقها، غير ما يهنا في هذا المقام هو التغييب الرسمي بين القصرين لذكر اسم الزعيم واعطائه المكانة التي يستحقها بسبب حسابات وقراءات خاطئة لحاضر وتاريخ البلاد. لم يفهم هؤلاء ان هناك زعيما واحدا انجبته تونس سوف تظل تذكره الاجيال جيلا بعد جيل وهو الزعيم الحبيب بورقيبة. لكل امة ولكل دولة رمز عزتها واستقلالها ونحن لنا رمزا واحدا حتى اللحظة اسمه الزعيم الحبيب بورقيبة. للفرنسيين شارل دي غول وللاتراك مصطفى كمال وللامريكان جورج واشنطن وللالمان باسمارك وللبريطانيين تشرشل وللتونسيين الحبيب بورقيبة. لا أحد بامكانه ان ينازع الزعيم مكانته في قلوب التونسيين ولا أحد يمكن ان يغيبه لان الذين القوا كلماتهم الرسمية التي صاغها لهم مستشارون اعلاميون فاشلون لم يفهموا انهم عابرون في كلام عابر. ليس فيما نقول لبورقيبة تأليها وليس في الامر اخراجا من انسنته التي جبل عليها ولكن هو انصاف لمقامات ولقامات صنعت وصهرت عقلية التونسيين لاجيال عدة. هناك في تونس وفي العالم العربي بشكل عام، الزعيم الحبيب بورقيبة.. ثم هناك كل الاخرين. هذا الرجل زرع بذرة الحداثة والحرية في تونس التي نجني ثمارها اليوم وهو الذي وضع حجر الاساس لمؤسسات النظام الجمهوري التي تحتاج حتما الى اصلاح، وبفضله فقط وصل الشعب التونسي الى تحقيق ثورته، ثورة الوعي بقيمة الحرية يوم 14 جانفي. ليس من الشوفينية في شيء القول بان التونسيين، بانفتاحهم وقدرتهم على الاندماج وبنظامهم التعليمي الذي ركزه الزعيم بورقيبة، هم الاستثناء العربي بكل ما للكمة من معاني. نحن الذين صدرنا الثورات العربية الى اهل الشرق ونحن الذين علمناهم انه لا يستقيم طلب الخبز بلا حرية ونحن الذين علمناهم انه "اذا الشعب اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر". نحن الذين علمناهم شعارات انتفاضتهم المنتكسة التي تحولت الى دمار ودماء. ليس من الصدفة مع الردة الثورية التي وقعت في العالم العربي وتحولها الى خريف اسلامي مسلح ان تظل تونس حتى الان هي الاستثناء الوحيد والديمقراطية الوحيدة بشهادة ديمقراطيات عريقة ومنظمات حقوقية ومراكز بحث عالمية محترمة. المشارقة ذاتهم الذين كثيرا ما صبوا جام نقدهم "لتغريبية بورقيبة" وحداثته بات الكثير منهم اليوم مقتنع ان الله وهب لنا زعيم من الجدير الاقتداء بسياساته ومنهاجه. يغرقون هم اليوم في دواعشهم وصراعتهم الطائفية والدينية نتيجة ما يعتبرونه تمسكا بدينهم وشريعتهم الغراء ونتمتع نحن بالحد الادنى من نظام مستقر بدون صراعات مسلحة اصبحت فيه المواطنة هي المقياس بدستور يضمن حرية الضمير ويؤسس للدولة المدنية ولحقوق والحريات دون تفريق على اساس الدين او اللون. كل الذي نعيشه اليوم مفتاحه التاريخي هو رئيس حكمنا اسمه الحبيب بورقيبة. بالتأكيد نحن في تونس لسنا في جنة الخلد ولن نكون، لنا مشاكلنا ولنا عثراتنا ولنا دواعشنا الذين صدروا لنا في الحقائب الدبلوماسية المشرقية والقادمين الينا من ثغرات سياسة تعليمية حداثية لم تكن جذرية بالقدر المطلوب وهي محتاجة حتما الى اعادة اصلاح من اجل قراءة اكثر راديكالية للتراث الذي انجب الدواعش واخوانهم في العقيدة والايمان. احتفالنا بمجلة الاحوال الشخصية والتي يسميها اهل الشرق بمجلة الاسرة، هو احتفالا جديدا بمبدع هذه المجلة الرائدة في العالم الاسلامي والتي الغت بشكل جزئي الرؤية المهينة للمرأة في التراث الاسلامي والتي تلحقها وتجعلها مكملة واداة جنسية للرجل. الغت المجلة نظام الرق المتمثل في الزوجات او الجواري الاربعة وطورت في السنوات اللاحقة لبروقيبة بفضل السياسية التعليمية لبورقيبة نفسه ولنخبة مثقفة معلمنة من اشرس النخب العربية. لهذا السبب فان تغييب الزعيم، او تهميشه لحسابات سياسوية لا معنى له من قبل الفئة الوقتية الحاكمة. لانه الزعيم بالزاد المفخمة وهم الوقتيون كالورق بالواو الخافتة المخففة. واما الزبد فيذهب جفاءا واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض.