من المهم اليوم القول إنّ ما آلت اليه المشاورات الحكومية من التقاء بين خطين كانا يوصفان بالأمس القريب بالمتوازيين لا يمكن فهمه إلاّ في سياق بوادر مصالحة تاريخية جمعت مكونين أساسيين في المشهد السياسي و الاجتماعي في تونس طوال الفترة المعاصرة. لقد كان هذا التقارب الذي اكتسى بُعدا جديدا ارتسمت ملامحه في حكومة الصيد تتويجا لمسار عسير ومُضنٍ من التسويات والتفاهمات والتنازلات انطلق منذ لقاء باريس "الأغرّ" بين زعيمي النهضة ونداء تونس. مثلّ ذلك اللقاء لحظة فارقة في التاريخ السياسي المعاصر الذي شابته قطيعة تكاد تكون شاملة بين نموذجين، ليبيرالي مٌعلمن و اخواني محافظ، روّج كلّ واحد منهما لنفسه صورة مناوئة للآخر استنادا لمرجعيات و طروحات متنافرة فكانت الحصيلة عقودا من الشروخات المجتمعية والمآسي السياسية التي أوشكت أن تودي بالبلاد في أُتون حرب أهلية غير معلومة العواقب والخواتيم. لا مراء في أنّ تغليب منطق الحوار على حساب عقلية الغلبة والمكابرة التي طبعت آليات ادارة الصراع السياسي خلال عهدي بورقيبة وبن علي وحتّى خلال حكم الترويكا قد ساهم في انقاذ تونس من الخراب والدمار الذي حلّ بدول أخرى عربية تمّ فيها الزيغ عن مسالك الانتقال الديمقراطي إلى مستنقعات الفوضى والتوحّش تحت شعارات وذرائع لا تمتّ بصلة لمطالب شعوب توّاقة إلى الانعتاق من ربقة الاستبداد و كلاكل التخلّف و الفساد. بيد أنّه من الضروري الوقوف عند الأرضية التي وُضعت لتركيز أسس هذه المصالحة الملحّة التي لا مناص منها للمضي في المستقبل إلى تحقيق الأهداف التي نادى بها الشعب أيام انتفاضه على نظام وثقافة تسلطية ولدت من رحم صراع مرير تجاهل المشاركون فيه أدوات عقلنته بشكل يسمح بالوصول إلى حالة التعايش الديمقراطي الذي فرض نفسه في نهاية المطاف. إنّه لمن السابق لأوانه الحديث اليوم عن مصالحة مكتملة وناضجة في ظلّ غياب أو تغييب محطّة ضرورية في رحلة لملمة جراح الماضي المثخن بذاكرة حبلى بالأخطاء والهفوات الفادحة التي لم تعقبها مراجعات وتقييمات صارمة وموضوعية تكون بالمحصّلة مشفوعة بمصارحة ملؤها الجرأة والشجاعة في الاصداح بنقد ذاتي يبدو أنّه مازال لم يدخل بعدُ قاموس الفعل السياسي سواء من هذا الفريق أو ذاك. في الحقيقة،لا يمكن الجزم بأنّ انتهاج كلا الطرفين لهذا الخيار نابع عن قناعات رصينة وليس نتيجة لاكراهات وضغوطات الأمر الواقع طالما كانت هناك نزعة نحو التنصّل من مسؤولية المكاشفة عبر جرد نتائج حقب أمسكا فيها بدواليب السلطة في ماض قريب أو بعيد. إنّ هذه الخطوة ستبقى حسب اعتقادنا مجرد لبنة من لبنات المصالحة الحتمية بين جميع الفرقاء السياسيين في تونس بما فيهم الطرف اليساري ممثلا في الجبهة الشعبية التي تحتاج بدورها إلى تقييم جدّي متحرّر من بوتقة الأيديولوجيا المحنّطة لحصيلة ما حقّقته في مسار التأسيس لقطب ثالث قوّي وجماهيري من شأنه المساهمة بشكل أكثر فاعلية في مخاض ولادة استثاء نادر الوجود في زمن الدواعش ومشتقاتهم.