في الذكري السبعين لإنتصارهم على ألمانيا النازيّة لم يفوّت الرّوس الفرصة لإبهار خصومهم الأوروبيين والأمريكيين ليس فحسب بإستعراض آخر ما أنتجت صناعتهم العسكريّة من آليات متطوّرة بل كذلك بإبراز تقدّمهم العلمي في مجالات أخرى. قبل بداية الإستعراض العسكري بالساحة الحمراء قام سرب من طائرات سلاح الجوّ الروسي بتمشيط سماء موسكو الملبّدة بالغيوم عبر رشّها بمادّة "يودير" الفضّة Iodure d'argent للحيلولة دون نزول الأمطار أثناء الكرنفال العسكري المهيب الّذي يتابعه أصدقاء روسيا عن كثب وخصومها عن بعد، الدبّ الروسي يكشّر على أسلحته الفتّاكة ويعلن للعالم أنّه أصبح سيّدا ومالكا للطبيعة، يحجب الأمطار ويصنع الطقس الجميل. الخبراء العسكريون يؤكّدون أن الجيش الروسي يملك هذه التقنية منذ ثمانينات القرن الماضي وقام بإستخدامها إثر إنفجار المفاعل النووي بشرنوبيل سنة 1986 للتخلّص من السحب المحمّلة بإشعاعات نوويّة قبل وصولها إلى موسكو والمناطق الشرقيّة من الإتّحاد السوفياتي السابق. قد يتساءل البعض لماذا يحتفل الروس بعيد النّصر على النازيّة يوم التاسع من شهر ماي في حين يحتفل حلفائهم خلال الحرب العالميّة الثانية؛ الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا بنفس الحدث المعروف ب"يوم النصر في أوروبا" Vee-Day-Europe في اليوم الثامن من شهر ماي؟ هل التاريخ خضع فقط لإحداثيات خطوط الطول والعرض وفارق التوقيت الزمني بين موسكووبرلين؟ أم أنّنا أمام روايتين مختلفتين للتاريخ بإعتبار أنّ لهذه الحرب أكثر من منتصر؟ في السابع من شهر ماي من سنة 1945 وعلى الساعة الثانية وواحد وأربعين دقيقة صباحا وبمقرّ هيئة أركان قوّات الحلفاء بمدينة "رانس" Reims الفرنسيّة وبحضور الجنرال الأمريكي "أيزنهاور" والجنرال السوفياتي "سوسلوباروف" والجنرال الفرنسي "فرانسوا سيفاز" كملاحظ فقط، قام رئيس هيئة القوات المسلّحة الألمانيّة "ألفريد يودل" بإمضاء وثيقة إستسلام الجيش النازي لقوّات الحلفاء دون قيد أو شرط، وما إن بلغ الخبر مسامع جوزيف ستالين حتّى إستشاط غضبا وإعتبر أنّ هذه الوثيقة لا تلزم الجيش الأحمر السوفياتي وأنّ قيادة الجيش الألماني عليها أن تمضي على وثيقة إستسلامها في العاصمة الألمانيّة برلين وتحت إشراف الجنرال "جوكوف" الّذي إحتلّ الجزء الشرقي من برلين. السوفيات عملوا وقتئذ على تحقيق إنتصار سياسيّ في حجم نجاحاتهم العسكريّة والتضحيات الّتي قدّموها حيث تجاوز عدد ضحاياهم في الحرب العالميّة الثانية الخمسة وعشرين مليون قتيل وكان لهم ما أرادوا حيث إنتضمت بمقرّ هيئة أركان قيادة الجيش الأحمر في إحدى الضواحي الشرقيّة لبرلين وتحت إشراف الجنرال "جوكوف" مراسم توقيع وثيقة إستسلام الجيش الألماني دون قيد أو شرط وإعلان هزيمة الرايخ الثالث نهائيّا، وقّع الوثيقة عن الجانب الألماني الماريشال "فيلهلم كايتل" بحضور قيادات عسكريّة أمريكيّة وبريطانيّة وفرنسيّة يوم الثامن من شهر ماي على الساعة الثالثة والعشرين ودقيقة مساءا بتوقيت برلين الموافق للتّاسع من شهر ماي على الساعة الواحدة ودقيقة صباحا بتوقيت موسكو. سوف تكون ذاكرة الحرب العالميّة الثانية على جميع الأصعدة من سياسة وأدب وفنّ وسينما وحتّى رياضة محور صراع إيديولوجي في فترة الحرب الباردة وبعدها بين الشرق السوفياتي بقيادة روسيا والغرب الأطلسي بقيادة أمريكا، كلّ طرف يحاول أن ينسب لنفسه الدور الرئيس في هزيمة النازيّة، الرّوس إنتصروا ولكنّهم تكبّدوا خسائرا بشريّة وماديّة كبيرة جدّا لذلك فإنّهم إثر انتهاء الحرب كانوا يقولون إنتصرنا بفضل ستالين أمّا الآن فإنّهم باتوا مقتنعين أنّهم إنتصروا رغم ستالين نظرا للأخطاء العسكريّة والسياسيّة الفادحة الّتي إرتكبها في إدارة الحرب. الأمريكان يحاولون تبرير سياسة الحياد الّتي إنتهجوها عند بداية الحرب وإعلانهم الحرب على دول المحور فقط في ديسمبر1941بعد هجوم الجيش اليباني على قاعدة "بيرل هاربر"، كذلك إستفادوا من أنّ الحرب لم تكن على أرضهم وغنموا الخبرات النازيّة في مجال الفيزياء والذرّة حيث أصبح العلماء الألمان بعد سقوط الرايخ الثالث النواة الرئيسيّة للمشروع النوري العسكري الأمريكي. يحاول "فلادمير بوتين" منذ صعوده للسلطة، بعد عشريّة إنهيار وتفكّك الإتّحاد السوفياتي في عهد غوربتشاف ويلتسين، أن ينحت كيان روسيا الدولة الوطنيّة القويّة حول تاريخ 9 ماي 1945 ليعيد لها مجدها وإشعاعها الإمبراطوري في ظلّ نظام مركزي شمولي سلطوي على نقيض النموذج الغربي الليبرالي لذلك فهو لا يتوان لحظة واحدة في توظيف كلّ رموز الثقافة الروسيّة لخدمة "مشروعه البونابرتي" من القيصر إلى ستالين ومن تولستوي إلى دوستوفسكي ومن مشروب الفودكا إلى سلاح الكلاشنكوف.