لم يمت شهيدا ولا ضحية، فقط هي المعاجم شاخت وشاخت معها أجهزتها المفهومية فظلت عند حدود المستطيل الذي قبر فيه جسده بعد صعقة كهربائية أردت به قتيلا. ولكنه كان يضحك، صورته التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي أبانت بذلك، وربما يضحك أكثر هناك، فيما نسمّيه الآن عدم العدم، ولكنّ أسنان بعضنا تصطك من الغضب، وأسنان الآخرين تصطك هي الاخرى من الرعب، لا أحد فينا يقدر على الضحك مثله، لقد قرّر الانحياز إلى الآلهة، بوصفها المتهكّمة والقوية والمريعة والخارقة، تلك التي تخوض معاركها منذ الأزل دون خسارات، هو أيضا رجل لا شيء وراءه يخسره غير البؤس والبطالة والتشريد والقمع، لذلك كان في سلوكه انكشاريا، خاض معركته ضدّ الحياة وانطلق إلى الأقاصي، لم يكن خائفا، بل وزّع ضحكته في صورته الأخيرة، ساخرا ومتهكّما وعنيفا، ثم مضى إلى سلالة القدامى الذين وحدهم يمتلكون جذاذة المستقبل. كم رأسا أطاحت به العمليات الارهابية؟ كم من كبد طفل صغير رحتها رحى القتلة؟ كم من قوافل الجياع أنهكها الصقيع وشرارة السجون وطيور الكاتيوشا فانتشرت أشلاءهم كوليمة في محفل الجنون البشري لهذا العالم. رضا اليحياوي، أدرك ذلك عبر جنينية الوعي، لم يترجم ما فهمه كتابة أو نضالا سياسيا، يبدو أنّه يكره الكتب الضخام، يائس من الفعل السياسي في بلاد خانت الفعل الثوري، حاقد على الطينة البشرية التي أحرقت عشبة جلجامش كي يشعر الحمقى من ضفادع السلطة ببعض الدفء. قرر الضحك، والضحك حتما انحياز الآلهة. ثمّة إذن عزاء بالإجماع، عزاء غضبيّ وكوني أيضا، يتحرّك في صفائح بدورها ترتجّ، وتتصدّع بعد أن شربت أنهارا من الدّم، ورضعت من شحوم بشرية مكثّفة بالزيوت. ثمّة رائحة بلا لون، تكتظ بدويّ من صدى الشواء البشريّ، بدوره لم يجد مفترسه بعد أن زلزلت أضراس الربّ، وسقوطه المدوّي من حالق بعيد، غائر في الجرح القديم من تطاوح حضارة ملفّعة بغير قليل من الأكاذيب العظمى. ثمّة هذا الانحدار العنيف، تحوّلنا المفاجئ إلى حفّاري قبور، ربّما نتيجة ذعرنا العنيف، ذلك الذي أسقطنا في هاوية العداء المقدّس، مدنّس آخر ضمن حصن من سلّة الرّوح الانسانية، من طفولية العالم. ثمّة ما يفرض علينا الاعتراف، إنّه جنوننا المؤكّد: وكيف لنا أن نكون مجانين في هستيريا العالم ونحمل في نفس الوقت وعينا بهذا الجنون. ثمّة اذن ما يؤكّد سقوط القلعة، ما كنّا نخاله الدائرة والمركز، ما يجعلنا نتهّكم بعنف على ما كنّا نعتقد أنه الأسمى فينا كونيا، وهل علينا الآن فعلا ان نركن في حالة دفاع عن هذه الخردة البشرية، التي اعتقدت أنها سيّدة العالم؟ علينا بالهذيان دهرا جديدا بعد كلّ هذا الرّيب. فلتكن ثمّة حتمية لا بدائية ولا تاريخية إذن، حتى نتمكن مرّة أخرى من حصاد أجهزة مفهومية جديدة لنفسّر كلّ هذا الضياع.