لم يكن رضا اليحياوي، الشاب اليافع، ابن مدينة القصرين، يدرك أن حياته ستكون ثمنا لاندلاع هبًّة شعبية جديدة ستجتاح جهته المنكوبة ليطال مداها مدنا وأحياء أخرى لا تقل فقرا وتهميشا عن مدينته. ابن السادسة والعشرين ربيعا أراد على طريقته أن يبلِّغ صوتا أضناه الجوع والفقر فلم يعد قادرا على الوصول الَّا من على قمَّة أحد الأعمدة الكهربائية التي لم تكن أرحَمَ به من أولئك الذين خدعوه مع أبناء جيله، واختلسوا أصواتهم و«ابتاعوا» سكوتهم بأبخس الأثمان في سوق الانتخابات الرخيصة. أُزهِقت روح رضا أمام أعين أقرانه وأبناء مدينته وَوُئِد معه حلم السنين. لم يجُل بخاطر رضا، الذي لم يكن قطٌّ راض على وضعه، كغيره من آلاف المعطلين عن العمل، أنّ شبابه سيأْفل في خضِمّ الاحتفال بالذكرى الخامسة لثورة وصفت ب «ثورة حرية وكرامة». ثورة آمن بها رضا وانخرط فيها مع خلًّانه ورفاق دربه الذين دبًّ اليأس في نفوسهم وأخذ منهم الغضب والاحساس بالقهر والتهميش والنسيان مأخذا عظيما. لم يكن لرضا أحلام كبيرة لأن الحلم في تلك الربوع المنسية يبقى من قبيل التوهُّم، فالحلم هناك لا يجد له سبيلا. سقط نظام الطاغية. ولاحت بوادر الأمل مع انبلاج صبح الخامس عشر من جانفي 2011. تعاقبت الأيام والليالي ومرًّت السنون... أحلام رضا ماتزال تراوح مكانها لكنّ الأمل يبتعد قليلا قليلا. الحكومات تتساقط كتساقط أوراق الخريف وكل حكومة تَلْعَن أختها وتَعِدٌ رضا بتحقيق أحلامه. وجاء مترشحون... وغدا آخرون... وكلٌّ يمنِّي رضا ويدعوه الى المزيد من الصَّبرِ. وصَبَرَ رضا... وانتظر... وانتظر... ومرّت السنوات عجافا على ابن القصرين الذي أبَت روحُه الّا أن تلاقي خالقها خارج أسوار مدينته التي تفتقر الى التجهيزات الصحّية اللازمة. حتى الموت لم يكن رحيما مع رضا. وباتت أحلام رضا وأمثاله من أصحاب الشهائد العليا المعطلين عن العمل والطامحين في شغل يسد رمق عيشهم ويقيهم شرّ ًالانحراف والانسياق وراء اغراءات تجار الدين والأخلاق، أوهاما. وأدرك رضا أّنًّ أمله في الحياة يضاهي سخطه على من وثق فيهم واستأمنهم على صوته. لقد أيقن هذا الشاب أنه، وكغيره من أبناء جيله، لم يكن سوى رقما بسيطا في حسابات تجّار السياسة وسماسرة الانتخابات. لقد باتت مشاغله، التي تظاهر عشاق السلطة والنفوذ والكراسي والمجد والجاه بتبنِّيها أيام كانوا يجوبون الربوع الخالية بحثا عن أصوات تعلي شأنهم وترفع من قدرهم، مجرَّد شعارات غوغائية لا تسمع صداها الا تحت قبّة البرلمان او في المنابر الاعلامية. لم تكن سوى مزايدات وخطابات رنًّانة لسياسيين عصفت شهواتهم وأطماعهم اللامتناهية بأحلام رضا البسيطة والمتواضعة. لقد أدرك رضا أنه طٌعِن من الخلف وأن حلمه الذي عاش لأجله قد تم غدْره . الثورة في نظر هذا الشاب لم تكن ثورة أحزاب ولا ثورة شيوخ ولا ثورة تناحر على السلطة وتكالب عليها. لم يكن رضا منشغلا بمن يحكم... لم يكن يعنيه المتربّع على عرش السلطة ولا اتجاهه السياسي ولا مرجعيته الدينية ولا لونه الحزبي... لم يكن يبالي بمن يسكن القصور. حلمه الأوّل والأخير كان يقتصر على جني ثمار ثورة يبدوا أن وقت قطافها لم يحن بعد. ثورة توهَّم رضا والشبان الذين معه، الساخطين والناقمين والمتّقدين حياة وأملا، أنّها ثورة حرية وكرامة قبل كل شيئ. رضا اليحياوي عاش حرا لكن موته لم يكن كريما.