نعم لقد أضحكني برهان بسيّس بعمق في أول ظهور إعلامي له بعد 14 جانفي وإن مما قاله برهان بسيس وهو صادق فيه انه لم يكن وحده من خدم بن علي ودعّم نظامه من أجل حطام الدنيا كما اعترف بذلك . وإذا كان هو اعترف بهذا بكل جرأة وصراحة وشجاعة وأقر بأنه فتن بالجاه والسلطان وكان يحلم بتقلد المناصب السياسية، وسخّر في سبيل ذلك كل ما أوتي من دهاء وذكاء ومعرفة وفصاحة للوصول إلى مبتغاه ولو على حساب آهات وعذابات المناضلين وجماجم الشهداء الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل الحرية وحياة كريمة، فإنه لم يضع في حسبانه إمكانية السقوط من أعلى السلم عندما رهن مستقبله السياسي بمصير طاغية كان أقرب إلى الزوال منه إلى البقاء. ولكن مشيئة الله أبت إلا أن يتجرع من نفس الكأس التي سقى منها خصومه دون رحمة وسانده في ذلك من سانده ممن أجرموا في حق الله والوطن في مختلف قطاعات الدولة. ثم إذا كان برهان قد أقر بذنبه وتجرّع مرارة ذلك وعبّر عن استعداده لطلب العفو والصفح من الفئات المتضررة، فإنه يحق لكل مواطن شريف تضرّر أن يسأل هل برهان بسيس وحده من مارس الرذيلة السياسية، وهل برهان بسيس هو من عذب وسجن آلاف الشرفاء، وهل برهان بسيس هو من نهب وسلب أموال الشعب، وهل برهان بسيس وحده من سيحاسبه التاريخ؟ إذا كانت لبرهان الشاب الطموح الذي دفعه طمعه في الجاه والسلطان من الشجاعة الأدبية ما أهله ليعترف على الملأ ودون إكراه من أحد بجريمته السياسية، فإن كثيرا غيره وبعضهم بلغ من العمر عتيا لا يزالون في مناصبهم ويمارسون حياتهم دون أن يشعروا بتأنيب الضمير وقد دعموا الطغيان ونظّروا له في العهدين البورقيبي والذي تلاه. بل الغريب أن الكثير منهم يتقدم صفوف "الثوار" ويزايد عليهم وهذا مثير للضحك والسخرية. وإذا كان برهان فعل ما فعل وهو يعلم أنه يخدم نظاما قمعيا استبداديا فاقدا لأي قاعدة شعبية حقيقية، وفاته شرف أن يكون مناضلا ضد الفساد والطغيان بسبب شهوته الآنية، فإن هناك من كان يدافع عن بن علي ونظامه الاستبدادي باستماتة ودون طمع في جاه أو سلطان جهلا وضلالة عن الهدى وقد تم هذا باسم الدين أحيانا وأشير إلى عدد من أئمة المساجد والخطباء ونفر من الشباب وطائفة من متسلقي السياسة أو محترفيها وغير هؤلاء. فلماذا إذا نريد أن نلقي باللائمة على برهان ونطالبه بالاعتذار من هؤلاء العبيد للطاغية عن حمق وجهل وضلالة؟ ما برهان بسيس إلا ظاهرة مجتمعية مرضية ينبغي معالجتها معالجة ثقافية وتوعوية وأخلاقية، برزت بشكل جلي في صورة برهان لأنه وُضع تحت دائرة الضوء بظهوره الإعلامي في أدق مراحل الثورة فبدا كأنه أكثر الشخصيات إجراما في نظام بن علي أو كأنه وحده من يتحمل المسؤولية والحال أنه أبعد الناس عن الانتهاكات والممارسات العدوانية والقمع الذي مورس على النشطاء السياسيّين سواء أكان ذلك بالعنف اللفظي أو العنف المادي وجرائم الفساد والرشوة المتنوعة التي كانت ترتكب زمن الطاغية. ولن ننسى لبرهان حسنة معلنة نشرت في الصحافة وقد يكون هناك غيرها غير معلن عندما طالب بإطلاق سراح عدد من المساجين السياسيّين وعلى رأسهم القيادي في حركة النهضة السيد عبد الكريم الهاروني وقال عنه "بأنه قضى من السجن ما فيه الكفاية" وهذا الطلب يعد نشازا زمن بن علي لا يجرؤ عليه أحد من دائرته الضيقة فما بالك ببرهان. ولكن هذا لا يعفي الرجل من المسؤولية الجنائية والأخلاقية أمام الله والناس. ولكن ما دام قد خطا الخطوة الأولى نحو التوبة والتي ينبغي أن نشجعه عليها حتى يقتدي به غيره ونمهد بها إلى انتقال حضاري ونوعي للعدالة من الجرائم والانتهاكات التي حصلت في العهد البائد ونؤسس لدولة القانون والمؤسسات ركائزَها الأخلاقية والحضارية للمساءلة والمصالحة. والرسالة التي أوجهها إلى برهان هي أن الاعتذار كل الاعتذار خطوة مهمة وضرورية وواجبة ولكنها وحدها غير كافية بل لا بد أن تكون أنت على استعداد للمحاسبة والمحاكمة على كل اسهاماتك في دعم الطغيان. وكذلك وهذه نصيحتي إليك من منظور شرعي أن لا تعتزل الحياة السياسية فليس هذا هو الطريق السليم للتوبة النصوح فالتوبة النصوح تقتضي منك ليس أن تصلح ما بينك وبين الناس وحسب وهذا ضروري ومهم، ولكن أن تصلح ما بينك وبين الله فأنت أخطأت في حق الله قبل أن تخطئ في حق الناس؛ فالله الذي أنعم عليك بنعمة البيان وفصاحة اللسان وصفاء الذاكرة من الأسقام، هذه النعمة التي لأجلها اصطفاك الطاغية لتضليل الناس ودعم سلطانه، هذه النعمة كرستها لخدمة الطغيان جريا وراء نعيم زائف أدت بك إلى السقوط والهوان ونالت منك الغربان وبكى من حالك أولو النهى والأحلام خوفا من العزيز الرّحمان حتى لا يحيق بهم ما حاق بك في سالف الأيام . إن التوبة النصوح تقتضي منك أن تكرس هذه النعمة للحق كما كرستها للباطل، أن تكرس هذه النعمة لإقامة العدل كما كرستها لاستمرارية الظلم أن تكرس هذه النعمة لنشر الفضيلة كما كرستها لنشر الرذيلة وأن لا تبتغي بذلك غير الله عسى الله أن يتوب عليك، حينها ستأتيك الدنيا، التي جريت خلفها ولم تنلها، وهي راغمة.وكالة بناء