لا نشك أن برهان بسيّس كان أشجع من غيره بمجرد قبوله الدعوة و ظهوره العلني و الإعلامي أمام الملايين من الناس الناقمين عليه...شجاعته فتحت له نافذة يعبر بها إلى عقول الناس من جديد ليمثّل هذا الظهور فرصة ذهبية يمكن أن لا تتاح له ثانية و يمكن أن لا تتاح لغيره بعد 23 أكتوبر...نعترف مبدئيا بشاعته أكثر من غيره و لكن لا بد أن نعترف بأنه لم يكن أنظف من غيره ممّن عملوا في بلاطات السلطان و من عملوا في بلاطات حواشي السلطان...هذه الحلقة الغائبة في الحوار لا بد أن نضع عليها أصبع الإشارة و التوضيح... النظام التونسي في أواخر سنة 2004 و بداية 2005 كان يشهد أعلى مؤشرات الإفلاس السياسي و لم تنفعه كل المحاولات المهولة و ذات التمويل الضخم لتلميع صورته و قد اشرف تقريبا على حافية السقوط خاصة بعد أن أصبحت مقولاته في الإعجاز الاقتصادي و المقاربات السياسية و الأمنية مجرد شعارات واجهيه لا يثق بها الداخل و لا يصدّقها الخارج الذي كان يدعمه بدون شروط و لا قيود... و في الوقت الذي ضاقت بالنظام كل السبل و ضيقت عليه المنافذ حتى الامدادية من الاتحاد الأوروبي التي كانت تضخه بدماء التجديد و التواصل و تمدّ في أنفاسه...و مع استشراء الفساد الفاضح و الممنهج...في هذا التوقيت بالذات كان النظام البائد يبحث عن أنفاس جديدة و دماء جديدة تعيد الحياة للكلى المعطّلة فيه وتمدّ في أنفاسه ولو إلى حين...في هذا الوقت المفصلي الهام في عمر النظام و تاريخ البلاد...ظهر الوجه الإعلامي المميز..و الرجل المحاور المتقن...رجل يمتلك الكاريزما الجذّابة...رجل يملك الزاد المعرفي و الرصيد الإيديولوجي السياسي المشبع بكل الإرهاصات الفكرية الموجودة في تونس من أصوليات المودودي و الأفغاني و شعارات الصحوة الإسلامية..مرورا بحلم القومية العربية و حلم الوطن العربي الواحد من الثورية الرافضة لعبد الناصر إلى ارتدوكسية ميشال عفلق البعثية...و صولا إلى الخطاب الثوري الماركسي اللينيني و حلم الطبقات الكادحة وحكم البلوريتاريا العالمية... هذا الرجل المؤثّث بكل تلك الإرهاصات قدّم نفسه ذلك السوبرمان الذي يبحث عنه النظام المفلس لتزيين صورته و تلميع واجهاته المهترءة أو لنقل إصلاح الواجهات البلّورية المخادعة التي كسّرتها أكاذيبه و تاريخه الأسود و فشل كل المحاولات الداخلية و الخارجية لثنيه عن سياسة الكذب و الإقصاء و التهميش و التصحّر السياسي التي كانت تعيشه البلاد بالرغم من محاولاته إقناع الرأي العام الداخلي و الخارجي بديمقراطية النظام و التعددية السياسية و الفسيفساء الجمعياتي و محاربته للإرهاب الذي يهدد الشرق و الغرب.....جاء هذا الرجل الكاريزما الذي أعجب به بن علي و صارحه بحبه و وجد فيه ضالته المنشودة و دخل معه مباشرة في صلب الموضوع حتى دون مقدمات أو بحث و تدقيق استعلاماتي...مباشرة صرّح له بامتنانه لما يقوله و تعبيره عن استعداده ليجعله الحصان الذي يمتطيه في غزواته بعد كبوة كل الأحصنة الأخرى مما جعله مترجّلا وحيدا إلا من المنافقين و الانتهازيين و السارقين و الفاسدين...هذه الحظوة السلطانية الرفيعة ما كانت لتكون سريعة لو لم تكن مبرمجة و مدروسة ومضبوطة المعالم و المراحل...ذكاء يمكن أن نعترف به لبرهان بسيّس..لكنه يجرّنا إلى سؤال مشروع..هل يمكن أن يكون في تخطيطه منفردا؟ ..من يكون وراء هذا الفارس المنقذ و الماسح لعار نظام فقد عذريته و أصبح كالمومس المشاع لكل من يأنس في نفسه الفحولة السياسية؟...مؤشّرات عدّة يمكن أن ترجح فرضية وقوف طرف ما وراء هذا الرجل... 1-بداية ما قاله برهان بسيس نفسه في الحوار بان هناك أطراف فاعلة في النظام لا تريده و تعمل على عرقلة تحركاته...هذا يعني أن هذه الأطراف تعرف برهان بسيس و تعرف من يقف معه..و لا اقصد بن علي نفسه لأن هذا الأخير يقف مع الجميع و يحتاط من الجميع..بل أقصد أطرافا أخرى تقف وراء الستار...أعداء السيد برهان يعرفونه جيدا و يعرفون من يقف وراءه جيدا و يعرفون أن بن علي مدرك لذلك و لكنه لا يمكن أن يبدي و لو امتعاضا...الجميع يلعبون لعبة واحدة في حلبة الصراع السياسي و الاستخباراتي المدجج بالأطراف الخفية. 2-أن السيد برهان بسيّس ما كان له أن يعيش سياسيا لفترة طويلة رغم وجود أطراف ترغب و تعمل على اختفاءه من الفعل السياسي و الإعلامي لو لم تكن ثمة أطراف قوية غير بن علي تقف وراءه و تسانده...هذه الأطراف التي تشكل لوبي قوي يحتمل أنه كان يعد نفسه للمسك بزمام السلطة طارحا نفسه البديل الداخلي( أي داخل السلطة نفسها) البديل الديمقراطي الحداثي الذي يمكن أن يوفر الكثير من الحرّيات السياسية و ينجح في إسكات المعارضة الفعلية باعطاءها بعض الوعود الإصلاحية يزعم صدقها و يخرج البلاد من عنق الزجاجة التي وضعها فيها بن علي و رموز الحزب الحاكم...بديلا يطرح نفسه منقذا لهذا النظام المتهرئ....هكذا لن يخسر التجمع ولن تفقد فرنسا حليفا مهمّا في حوض البحر الأبيض المتوسط...هذه الفرضية كانت ممكنة في ظل ورود العديد من الفرضيات و السيناريوهات المطرحة كبديل لنظام بن علي و عائلته الفاسدة....نعود الآن بعد هذه الفرضيات إلى دور السيد برهان بسيس في تلك الفترة التي كان فيها النظام التونسي في حاجة إلى واجهة إعلامية قوية تعيد الاعتبار لمقارباته الكاذبة و أرقام نموه المزيفة و ديمقراطيته الخداعة و الوهمية فكان برهان بسيس يعمل ضمن مشروع كامل تقوده وكالة الاتصال الخارجي التي موّلت ببرنامج و ميزانية خيالية على حساب مشاريع التشغيل و التأطير و التكوين و محاربة الفقر و الخصاصة و البطالة المتفاقمة...و كان السيد بسيّس يملأ الواجهة الإعلامية المستميتة في الدفاع عن هذا البرنامج و عن فكر بن علي المستنير و عن الاقتصاد المعجزة و المقاربات التي يستنير بنورها زعماء الدول المتقدمة..السيد برهان بسيس لم تكن لدبه الشجاعة ساعتها ليعترف بأن نظام بن علي كان قامعا للحريات العامة و بأنه أعاد البلاد إلى ما قبل الاستقلال و أحالها إلى صحراء خاوية لا يرتع فيها سوى ذئاب المفترسة تسرق و تنهب و أفاعي ملتوية تسمم الأجواء لتعيش و تبقى و أصبحت البلاد عبارة عن حظيرة يمتلكها الرعاع يفعلون فيها و في خدمها ما يشاءون......لم تكن لدى السيّد بسيّس ساعتها الشجاعة ليقول لا للقهر و للظلم و للاستبداد لا لكبت الحريات لا للسجن و للتشريد لا لتخوين الشرفاء....لذلك كله لا يمكن أن نتحدث الآن عن شجاعة هذا الرجل..... . نعود مرّة أخرى لنتحدث عن مهام السيّد برهان بسيّس في الفترة الممتدّة بين 2008 2011 ... مع اضطلاعه بمهمة التجميل الديكوري لبقايا نظام سياسي أوشك على التحلل بمقتضى قوانين التحلل البيولوجي...و التسويق لسلعة سدّت رائحتها المتعفنة أنوف الداخل و الخارج...و قد أفلح هذا الرجل الذي يجيد المحاورة و المخادعة و لا يستحي أن يستميت في التسويق لسلعة هو نفسه لا يقبل أن يشتري منها أو يستهلكها بل يبيعها فقط ليقبض ثمنها...فهو كمن يبيع المخدرات و لا يستهلكها أو يبيع الخمر و لا يقرعه..فهو يقتنع بمضرتها و فسادها لكنه يبيح لنفسه ترويجها و الاستفادة منها..و هو نوع من أنواع التبييض...بعد هذا النجاح (الوهم)كان في انتظار هذا الرجل مهمّات أخرى أكثر تعقيدا وأيضا و بالضرورة ستكون أكثر وساخة و تعفّنا...ملفات داخلية كبرى مطروحة أمام الطاولة الرئاسية و الاستعلاماتية تهم بالأساس الحريات السياسية و الإعلامية...فمن أقدر من هذا الرجل في تلك المرحلة ليلعب دور الوسيط المحاور الذي يمكن أن ينقذ النظام من وابل الاتهامات الإعلامية التي تجرأت أخيرا بعض الأطراف الإعلامية في الداخل و الخارج على طرحها...فكان السيد برهان بسيس يلبس ثوب الوطني الذي يدافع عن مصالح البلاد بوقوفه في الآن ذاته إلى جانب النظام الأب الذي يغضب أحيانا كثيرة على أولاده لكنه يحبهم و إلى جانب الإعلامي و السياسي المضطهد الذّي اخطأ في حق والده لكنه يمكن أن يثوب إلى رشده و يطلب الصفح الذي سيتكفل بسيّس بان يجعل النظام الأب يقبله ...و هكذا يخرج الرجل الوسيط في صورة الفارس الوطني الذي أصلح بين الفرقاء في البيت الواحد و كفى الطرفين شر القتال...و كفاهما أيضا شر تدخّل بعض الرجعيين الذين سصطادون في الماء العكر وعادة ما يستغلّون مثل هذا الاختلاف البسيط بين الأب و ابنه لتسميم الأجواء و تحقيق مآرب سياسية الوطن منها براء..... إلا أننا في هذا الزّخم المعطاء للسيد بسيّس نسمح للذّهن المدجّج بالعديد من الأسئلة أن يطرح البعض منها راجيا ممّن يهمّه الأمر أو يعلم بعضا من الأمر أن يمدّه بإجابة تريحه و تغلق الملفّ عنده... هل كان السيد برهان بسيّس يعمل طيلة سنوات النضال هذه بدافع الوطنية و الحرص على تماسك الوطن هكذا و بدون مقابل؟..أم كانت له أجندة يعمل على إتباعها و تحقيقها مهما كلّفه ذلك من مخاطر و نتائج ولو كلّفه ذلك أن يدوس على شعاراته الأخلاقية التي تشبع بها طفلا و الإرهاصات الثورية التي تشبع بها طالبا...أو يدوس على كل المبادئ الإنسانية و الحقوقية التي أقرّتها المواثيق الدولية و الأعراف المجتمعية المتخلّفة و المتقدّمة...أو يدوس على إنسانيته أمام مشاهد التعذيب و الترويع و التقتيل و الموت البطيء تلك التي كانت تطال الشرفاء من هذا الوطن العزيز...أين كانت مبادئه و شعاراته و ثوريته الماركسية اليسارية و هو يشاهد السجون و قد غصّت بالأحرار بما فيهم اليساريين و القوميين و البعثيين ناهيك عن الإسلاميين الذّين كانوا المقيمون المستديمون في غياهب السجون ...أين كان عندما تحوّل أحرار هذا البلد الطيّب إلى مأجورين خونة يخدمون أجندات أجنبية مشبوهة و تحوّل الفاسدون و السارقون إلى شرفاء يرفعون ألوية النماء و الرّخاء...أين كان هذا الرجل عندما هجّر الآلاف من التونسيين و حرموا من ديارهم و أهليهم و تراب أوطانهم و رمال صحاريهم و أودية شعابهم و سنابل حقولهم....الذين حرموا من فرصة الوداع الأخير لأباهم و أمهاتهم قبل أن توارى أجسادهم الثرى....كل هذه الأسئلة من السهل أن يجيب عليها هذا الرجل المعتذر نفسه لأنه يعلم انه كان بين هذا و ذاك يحاول أن يطيل من عمر النسق المحموم و يكرّس هذا الواقع المرير..و يجعل من مرض البلاد إعاقة مستديمة لا يطولها برء و لا ينهيها موت أو سقوط............... قبل أن انهي ردودي حول هذا البرنامج التلفزي و الحوار الشيّق بين الصحفي المشاكس سمير الوافي و السيد برهان بسيّس,كان لزاما أن أعرج على بعض النقاط الدقيقة لنوضّح بعض المفاهيم الأخلاقية و الاجتماعية. 1-التوبة: هذه المسألة الدينية الأخروية بامتياز ينفرد الله بالتدليل عليها و تكييفها بين المقبول و المرفوض.فلا يمكن أن نتدخّل فيما هو اختصاص مطلق للذّات الالاهية.أما التوبة في مفهومها الوضعي البشري فلا تكون موضح طرح إلا بعد العقوبة...لتصبح التوبة في المفهوم القانوني الوضعي الصرف عبارة عن تخفيف من العقاب الجزائي سواء كان بدنيا أو ماليا تعلّق بذمة المذنب... 2-الصفح: قيمة أخلاقية لا ترتقي إلى درجة الواجب عند الضحية و لا يمكن بحال من الأحوال أن تصبح حقّا للمخطئ....هذه القيمة الأخلاقية المجتمعية تأتي في نسق البناء الجديد لعلاقات اجتماعية ضيّقة أو شبكيّة.و تستوجب, بداية, تحديد صاحب الحق في الصفح...صاحب الحق هنا لا يحدّده المخطئ طالب الصفح لأنه سيطلب الصفح من دائرة ضيقة جدّا ممّن يتصور أنه أخطا في حقهم.فالضحية فقط هو من يحدد نوع الصفح و المغفرة و زمن تقديمه وزمن الرجوع فيه......أما في حالة السيد برهان بسيّس فالضحايا كثيرون... مثله مثل الذين سوّقوا للاستبداد أو شرّعوا له أو عملوا على فرضه بقوّة النار و الحديد...فالصفح في هذه الحالة يكون فرديا و مشخّصا و لا يحق أن يصفح أي طرف باسم جميع الضحايا....فكما الجريمة شخصية ولا تكون إلا بمقتضى نصّ قانوني سابق الوضع(كما جاء في القانون التونسي) فان الصفح شخصي و لا يكون إلا بمقتضى رد للاعتبار سابق الوضع.... 3 - الاعتذار: في ظاهره فعل شجاع لا يصدر إلا من واثق في تاريخه..صادق مع نفسه..متفائل بردة الفعل الممكنة...أما في حقيقته فان الاعتذار يتطلّب تاريخا و زمنا محدّدين حتى يقبله المتضرر من الإساءة و يتقبله جمهور الملاحظين و الشاهدين على تلك الأخطاء التي يطلب المذنب الاعتذار لارتكابها....فهل أن تاريخ 15 جانفي و ما بعده يسمح بالاعتذار... السيّد برهان بسيّس طلب الاعتذار من القليل من ضحايا النظام البائد و نسي الكثيرين منهم...كأنه أراد أن يقول أن نظام بن علي لم يكن شرّيرا بالدرجة التي تروّج له الثورة.بل له أخطاء كبقية الأنظمة الجاثمة على صدور الأمة...وانه كان يدافع بوفاء عن نظام بن علي عندما كان منتصبا و مبرّرا لأخطائه حينما هوى...و انه حينما كان يفعل ما يفعله كان يريد الإصلاح من الداخل و هو نفس شعار أشباه المثقفين و السياسيّين.... نقطة أخيرة اعترف أني لم أدرك معانيها الآن على الأقل...لماذا اعتذر الرجل و أعاد اعتذاره مرّتين للإسلاميين....كان بإمكانه أن يعتذر بالإجمال لكل من ظلمه و اضطهده النظام الفاسد و بأنه لم يستطع أن يغيّر من الداخل كما زعم ,أما أن يشدّد على اعتذاره للإسلاميين و يذكر بكل ألم و حسرة طريقة استشهاد المناضل البطل الهاشمي المكّي رحمه فذلك لا يخرج عن أمرين : إما أن تكون شجاعة حقيقية نادرة لا يسع الجميع إلا أن يحيّيه عليها(أقصد الشجاعة) فهي تصلح أن تكون شهادة تاريخية تستنير بها الأجيال التي لم تكن حاضرة حين ألقوا أقلامهم أيّهم يعذّبهم أكثر و أيّهم يهجّرهم أكثر و أيهم يتقرّب بجماجمهم للسلطان أكثر..... وإما أن يكون الدافع لاعتذاره أمرا آخر يعلمه هو و يعلمه من كان يقف وراءه فيكون ذلك خطا تاريخي يضاف إلى سجله المبلّل بخراطيم النظام الفاسد...... ولا أتصور أنه يمتلك الجرأة الكافية ليدقّ مسامير خشنة في نعشه الاجتماعي أو السياسي و يجهز على بصيص أمل لديه أن يصفح عنه النّاس كما صفحوا ضمنيّا عن كثيرين...علّه يجد منبرا يقبله و يتغاضى عن ماضيه.....و للحديث بقيّه