أسالت مؤخرا خطب الأئمة و فتاويهم في الجوامع التونسية حبر العديد من الكُتاب و حيرة العديد من القُراء فهذه الخطب و الفتاوي اتخذت المساجد دارا و المنابر مصدحا لتُوجه خطابا يدعو إلى مساندة الحكومة تارة في أحداث سليانة و مقاومة "من تآمروا على الوطن "في الحديث عن النقابيين بخصوص جدل الإضراب العام الأخير تارة أخرى. و حتى نسند الحديث للأفعال والفعل للأسماء، نذكر الشيخ حسين العبيدي حين توجه إلى مصلي جامع الزيتونة عقب الأحداث التي شهدتها سليانة قائلا : "أحزاب أعداء تونس تُريد إشعال نار الفتنة في سليانة لتنقض على الحكم و اتحاد الشغل اليوم ليس اتحادا وطنيا فهو يجمع من يتآمرون على الوطن و لا بُد للشعب أن يكون لهم بالمرصاد". أما شيخ السلفية العلمية البشير بن حسن أفتى في المصلين بقوله : "إن كل مشارك في الإضراب خارج لا محالة عن طاعة الله أما من عارض الإضراب فقد اتقى الله في دينه و في بلده " و أضاف "لو كانت عندي القدرة فإن من يستجيب للإضراب يُرفت من عمله و يأتي بإنسان مكانه". و أمام هذا الخطاب الذي يصعب على التونسي تصنيفه دينيا كان أم سياسيا ، سياسي يُوظف الدين أم ديني مُنغمس في السياسة ، و لكي تتوضح صورة ما يحصل في المساجد اليوم برؤية رسمية نستقيها من مَن آل له الحكم فينا، توجهنا إلى مستشار وزير الشؤون الدينية الصادق العتاري ببعض الأسئلة :
لقد أوضحت الوزارة في بيان لها وُجوب التزام الحياد في القضايا السياسية من قبل الأئمة في المساجد، و لكن ألا تحيد الخُطب التي نسمعها اليوم عن مفهوم الحياد ؟ أولا في ما يتعلق بمفهوم حياد المساجد قد قُلنا سابقا و نؤكد قولنا مجددا على أن المقصود بالحياد هو عدم التوظيف الحزبي و ليس عدم الحديث في السياسة ، والاختلاف في الحياد يرجع إلى الإختلافات الإيديولوجية و القناعات الفكرية و لكن للأسف الشديد هناك من يتصور أن للمسجد تصورا كنسيا و هذا غريب عن الإسلام لأن مهمة المسجد ليست العبادة فقط و ليست الحديث عن الوضوء و الصلاة بل مهمته الحديث في كُل ما تحدث فيه الإسلام ، فالإسلام تطرق إلى شتى القضايا الحياتية سواء كانت تعبدية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية و لذلك يحق للإمام الحديث في كل هذه القضايا شأنه في ذلك شأن أي مواطن أو أي إعلامي أو أي سياسي أو اي مفكر ، فلا ينبغي أن يكون الإمام معزولا عن القضايا العامة و الوطنية كمسألة الإضراب العام و الإتحاد.
أليس في الحديث عن وجوب العدول و عدم المشاركة في الإضراب العام تغييب للحياد الذي تحدثتم عنه ؟ موقفنا و موقف الوزارة واضح و هو الحياد أي عدم التوظيف الحزبي ، يعني لا ينبغي أن يُستغل المنبر للدعاية للنهضة مثلا أو لحزب آخر. و لكن الحديث عن الإضراب العام هو ليس توظيفا حزبيا فالإضراب العام هو شأن وطني فهناك مواطنون جاؤوا يسألون الأئمة و الشيوخ عن المشاركة في الإضراب العام و من حق الإمام أن يتكلم فهذه مصلحة وطنية. لا يجب أن يكون الخطاب الديني بعيدا عن الحياة الوطنية و الشأن العام و هذا لا دخل له في الحياد و إنما إذا تكلم إمام للدعاية لحزب ما أو دعا للإقتتال أو للفتنة ، هذا بطبيعة الحال مخالف للقانون و لكن نحن أكدنا في بيان الوزارة -الصادر يو م الثلاثاء 11 ديسمبر 2012 - أن الحرية لا تتجزأ فكما أن الإعلاميين يطالبون بالحرية المطلقة و يرفضون تدخل السلطة التنفيذية لتقييد حريتهم أو توجيه تحليلاتهم ، لا يجوز في حال من الأحوال أن تتدخل هذه السلطة لتفرض على الخطيب موضوعا معينا و تقول له ، هذا يقال و هذا لا يقال ، هذا قد انتهى بعد الثورة.
إذن من خلال ما اوضحتموه ليس على السلطة التدخل عند إصدار إمام لفتوى تُخرج عن طاعة الله من سيشارك في الإضراب العام مثل بشير بن حسن ؟
بشير بن حسن حر في نفسه ، هو يعتبر نفسه شيخا و إذا أفتى فتوى يتحمل مسؤوليته فيها و من أراد أن يلتزم بها و من أراد أن يعارضه ، يُمكن لمفتي الجمهورية أن يُصدر فتوى يقول فيها الإضراب حق و لذلك لا يجوز إطلاقا، لا من حيث المنطق و لا القانون و لا الشرع أن نحظر على بشير بن حسن أو غيره الفتوى و نقول له إذا سئلت فلا تفتي . و لكن نحن أكدنا في آخر البيان أن من حق الدولة دستوريا و شرعيا و في جميع دول العالم أن تتدخل لدى كل الجهات و ليس فقط لدى الخطيب أو في الخطاب الديني فقط و إنما في الإعلام و في السياسة و في الفكر و الإبداع إذا رأت أن هذا الفكر أو الرأي قد يُهدد السلم الإجتماعي من حقها أن تتدخل لتمنع ذلك و لكن هذا مقياس يعم الجميع و لا يتعلق بخطيب المسجد فيمكن أن تمنع صحفي من رأي معين أو تحليل معين إذا يمكن أن يثير أزمة .هذا موقفنا و هذه سياستنا التي سنؤكد عليها دائما.
هل ترون أن مثل هذه الفتاوي السياسية لا تمس بأمن البلاد و لا تعمق الأزمة فيه و لا تستدعي تدخل السلطة لمنعها ؟
المسألة واضحة فالصراع في البلاد قد تسيس و الأزمة الأخيرة هي مسيسة بكل وضوح و دخلت فيها الإيديولوجيا لذلك سنتدخل لصالح من ؟ فهناك اليوم بعض الصحفيين الذين يهاجمون الأشخاص و يتهمونهم من هنا و هناك فمن حق الخطيب أن يتكلم و كل من اعتدي على عرضه أو شخصه أمامه القضاء و يمكن أن يتقدم بقضية ضد أي شخص كان خطيبا أو صحفيا أو سياسيا. نحن في دولة قانون ، الثورة حررت الجميع و يجب أن يبدي كل إنسان من موقعه الرأي الذي يرتئيه، لذلك هذا الحظر على الأئمة و فرض ما يجب أن يتكلم فيه لا سبيل إليه و الممنوع فقط هو التوظيف الحزبي فسبق أن عزلنا ثلاث أئمة لهذه الأسباب ، الأول كان يدعو إلى الإقتتال و الثاني جاءتنا عنه العديد من الشكايات و الثالث يدعو إلى قيم منافية للإسلام.
لقد قدمت إيجابات مستشار وزارة الشؤون الدينية الصادق العتاري توضيحات يمكن لها أن تقلص حجم الحيرة لدى من احتاروا في تعريف مفهوم الخطاب المسموح تقديمه في المساجد و لكنها تثير تساؤلات أكثر. فإذا كان من حق الإمام أن يفتي فتوى تحرم الإضراب بماهو حق شرعي سَنه الدستور ، ألا يصبح المواطن في تناقض ما بين ما شرعه القانون و ما أفتاه الإمام ؟و ألن يؤدي هذا إلى الفوضى و ما ينجر عنها ؟ و إذا كان لكل إمام الحق في الفتوى ، ألا يمكن بذلك أن تتناقض فتوى إمام جهة ما ،مع فتوى قدمت في جهة أخرى ؟ و أفلا يخلق هذا فوضى جديدة يمكن لها أن تهدد أمن البلاد؟
أخيرا تجدر الإشارة إلى أنه و منذ الخلافة العباسية تفطن المسلمون لوُجوب أن تكون للفتوى مؤسسة واحدة تنبثق منها حتى لا تعم الفوضى ، فهل نستطيع في القرن الواحد و العشرين تجاوز الفوضى إذا قدم كل إمام فتواه ؟