الشبّاب هو دعامة المجتمع، وهو المحرّك الأساسي لنهضة أيّ شعب وهو أساس التقدّم والرقيّ ، ودأبت حكومات الدّول المتقدّمة على إعطاء هذه الفئة العمريّة أهميّة كبرى كونها سبب لاستمراريّة للثّقافات ومقياس للتطوّر. وللشّباب أدوار عدّة يضطلع بها، فلا يمكن أن يقتصر نشاط هذه الفئة على حضور مقابلات الفرق الرياضيّة والتردّد على قاعات الدّرس الّتي أصبحت لا تقدّم غير النزر الضئيل من المادّة العلميّة والأدبيّة ، أو التّوقيع على مواثيق لا يعرف فحواها ولم يشارك في صياغتها وإن ادّعت الحكومة عكس ذلك. ومن المؤكّد أنّ الفراغ الّذي يعيشه شبابنا أصبح يدفعه نحو التطرّف في الأفعال والأفكار وما الأحداث الّتي شهدها الملعب الأولمبي بالمنزه الأيّام القليلة الماضية والعدد الكبير من الشّباب الّذي يعرض على المحاكم بتهم الإرهاب خير دليل على ما نقول. ويرجّح كثيرون أنّ هذا الوضع هو نتاج طبيعيّ لحالة انغلاق سياسيّ وفكريّ وتردّ في البرامج التّعليميّة والثّقافيّة وحصار إعلامي بالبلاد، فلا يخفى أنّ برامجنا التّعليميّة أصبحت خالية من تقديم المعلومة الّتي بإمكانها أن ترسخ في عقل الشّاب وتدفعه نحو التدبّر وطرح السؤال . ولا نجد اليوم من فئة الشباب من يمكنه أن يتحدّث عن تاريخ الحركة الوطنيّة بتونس بالرغم من كونها مبرمجة على لائحة مواد التّربية الاجتماعيّة وفي مناسبات عديدة على طول المسيرة التّعليميّة لأيّ تلميذ في بلادنا، ولا يقدّم إعلامنا الوطنيّ غير برامج تافهة لا علاقة لها بالثّقافة الوطنيّة بل بالثّقافة ككل،و لعلّ البرنامج الّذي قدّمته قناة "حنّبعل" منذ أيّام دليل واضح على تفاقم الأزمة حيث أنّ البعض من شبابنا لا يعرف ما الدّاعي من الاحتفال بيوم 9 أفريل ولا يعرف أنّه يوم عيد شهداء تونس الأشاوس، وهذا الإعلام التافه والمُعتّم يعتبر سببا في فتح المجال أمام شبابنا لمتابعة بعض فضائيات ومواقع انترنيت ألقت به في براثن التطرّف للأسف الشّديد. ومنذ ما يقارب الربع قرن من حكم الرّئيس الحالي لم نسمع يوما بخطأ تمّ ارتكابه أو ذنب سياسيّ أقترف من سلطتنا أو اعتراف بفشل في مجال ما، فلا نجد فضيلة الاعتراف بالذّنب والخطأ وكلّ ما يصدر عن الحكم لهو عين الصّواب ، ودأب مسئولونا على إعلامنا بأنّ الوقت لم يحن في المسألة كذا وأنّهم اختاروا الوقت المناسب في المسألة كذا أو أنّهم استعدّوا منذ دهر للخطوة كذا في إطار مخطّطات كثيرة ،ولكنّهم لم يعلنوا أبدا أنّهم فشلوا أو أخطئوا في أيّ خطوة قاموا بها بالرغم أنّ الفشل يكون حليف أعتي الحكومات اليمينية واليساريّة في كبرى ديمقراطيات العالم المعروفة و الفرق الوحيد بين حكومتنا وحكوماتهم هو في القدرة على الاعتراف بالفشل و الاستعداد للتصحيح و الاستماع إلى المخالفين والتشاور معهم بغية التقدّم بحال البلاد و العباد. وأورثت الحكومات المتعاقبة هذه العادة (التنصّل من الاعتراف بالفشل) لكافة مسؤولي البلاد في كلّ المناصب والمواضع والأحزاب، وصار كلّ من كان مواليا للنّظام يستميت في تزيين الخطايا والأخطاء ويلونّها بحيث تصبح انجازات تنسب لعهد التّغيير ، وأصبح تضليل الشّعب فنّا يبدع فيه كلّ بطريقته الخاصّة، فيستعمل البعض الصّحف والآخر التلفزيون وفريق آخر الرّاديو و البعض الانترنت وآخرون وهم كثر حديث المقاهي والدّعاية في الشّوارع والمؤسّسات العموميّة وكلّ مكان. عشرات بل آلاف هم الّذين لفّقت ضدّهم قضايا ودخلوا السّجون من أجل فكرة أو تنظّم أو رفض لقرارات السّلطة، وكثيرا ما اتّضح أنّ القضايا الّتي أحيكت ضدّهم ملفّقة وليس لها أساس من الصحّة ولكن لم يعتذر أحد من هؤلاء حتّى بعد خروجهم من السّجون وبعد أن ذاقوا الويلات. هل وقف أيّ مسئول في بلادنا واعتذر عن العجز الاقتصادي أو عن عقم السياسة الشبابية مثلا و التي أدت إلى موت المئات منهم عبر قوارب الموت وفي اتّجاه أوروبا . وهل اعتذر أي مسؤول في السابق عن تفشيّ ظاهرة البطالة وعدم القدرة عن كبح جماحها ،أو عن ضعف المستوى الثّقافي أو عن تسبّب الانغلاق السياسي في بروز ظاهرة التطرفّ. لم نسمع يوما اعتذارا أو توضيحا يتعلّق بكلّ هذه المشاكل وغيرها فكلّ مسئولينا لا يخطئون أبدا ولا يعترفون طبعا ولا يعتذرون قطعا. لنفترض جدلا أنّ تونس دولة ذات ثقافة ومنهج إسلاميين تستند إلى قيم الشّريعة وكتاب القرآن وسنّة الرّسول، فلماذا لا يقتاد مسئولونا بقولة عمر بن الخطّاب أو أبو بكر الصدّيق لمّا قالا عند تولّي الخلافة "ولّيت عليكم ولست بخيركم.." أو عملوا بمقولة الحاكم الأمويّ عبد الملك بن مروان لمّا نهى النّاس على أن يقولوا له:"اتّق الله". سأجازف بالقول كذلك أنّ تونس بلد الديمقراطية والحريّات شأنها شأن الدّول الأسكندنافيّة ودول أوروبا الغربيّة، ألم يعترف عديد رؤساء حكومات هذه الدّول بأخطاء ارتكبوها، ثمّ ألم يعبّر رئيس الوزراء البريطاني أنّه كان مخطئا في العدوان على العراق؟...إلخ لم نعد نطلب من حكومتنا إصلاحات بقدر ما صرنا نطلب منها الاعتراف بأخطائها لنمرّ لبناء واقع جديد مشترك فلا سبيل للنّضال في وجه قوّة تعوّدت وامتهنت المناكفة وتزييف الحقائق. قبل إصلاح منظومة التّعليم في تونس وجب أن نجد اعترافا صريحا لفشل المنظومة الحاليّة وقبل أن نتحدّث عن وسائل ردع الهجرة السريّة وجب أن نقف عند أسبابها وتعترف الحكومة بدورها في خلق عواملها وقبل أن نتحدّث عن سياسة مكافحة الإرهاب وجب أن نجد اعترافا بأنّ الانغلاق السّياسي في البلاد هو الفرن الّذي وفّر الظروف التي تنمو فيها هذه الظّاهرة . نتمنى أن نرى ذلك في يوم من الأياّم فلا تحوّل بدون دراسة موضوعيّة للواقع ولا دراسة موضوعيّة للواقع بدون اعتراف بأخطاء ومن ثمّ المضيّ في إصلاحها.