لطالما استعملت السلطة في تونس مقدرات الدولة الماديّة والبشريّة ولطالما حشدت مصالح عامّة وسخّرتها لصالح أجندتها الخاصّة والضيّقة، ولطالما - افتكت ومنحت وأمّمت وخصخصت - وفق مزاجها ووفق ما يقتضيه تثبيت نفسها فوق مطيّتها التي هي ليست إلاّ شعبها، ولطالما كنست من أمامها كل معارض ومغالب ومستفز ومعاند.. .. وفي أحيان كثيرة لم يكن لديها الوقت فاستبدلت مكنستها بمزنجرة وعبّدت بهم الطريق!! تكنس تارة إلى المقابر وتورا إلى السجون.. فالمخفر والمحكمة والسجن ...والمقبرة أيضا مؤسساتها.. ومن ألطاف الله أنّ النظام على بطشه وحقده مازال غافلا يسمح بدفن المعارضة في مؤسسته "السياديّة"!! احتكرت سلطتنا الموقّرة الفضاءات بأنواعها إعلاما.. ثقافة.. سياسة.. رياضة.. وعمرانا، فأتت على أخضرها ويابسها.. الساكن منها والمتحرك.. كل هذا والمجتمع بأفراده وقواه الحيّة يعزّي نفسه.. ها نحن نخوض النضال وندعم جبهات الصمود، وها سلطة بلادنا يعجّ المحيط بأشباهها وإن كانت رائدة في مجال الانتهاك.. انتهاك كل شيء!! .. لكن النظام تهوّر هذه الأيام فلوّح بالتاريخ مقابل قشور الخصومات، لقد انتظرت السلطة من يوم 7 نوفمبر 87 الساعة الثامنة صباحا توقيت الافتتاح الرسمي للمؤسسات في البلاد إلى أيامنا هذه،، اثنان وعشرون سنة بأيامها ولياليها صمتا مطبقا لا تتخلله ولو مجرد إشارة كي تتحرك بعده فجأة لنطلب من فرنسا الاعتذار عمّا اقترفت!.. ملف بهذا الحجم والثقل يهمّ معاناة أجيال ويعني حقبة هائلة من تاريخ البلاد،، ملف يجب أن تحشد له جهود المختصّين وتتداعى إليه مكوّنات المجتمع بمجملها، وتفتح فيه ولأجله استشارة وطنيّة واسعة، وتسند مهام القيام عليه لرجال قانون دولي ومؤرخون وساسة محنّكون.. ملف بهذا التأثير بنوده مغروسة في ذاكرة التاريخ،، ملف مسّ مباشرة الجدّ الرابع للتونسيّين... يسند هكذا لتجمع منتسب غير منخرط،، ليعلن عليه في المقرّ الهيبة تحت إنارة ذابلة وبمكبّر صوت "معطوب" وبصوت مدعوم بمنحة 3،80%، ملف في طيّاته الدم والاستعباد والاستبداد والظلم والعذاب والمقدرات.. ملف سرق من تاريخ البلاد خمسا وسبعين سنة.. ملف شائك مشحونة صفحاته بالأحداث الدامية والآلام.. ملف مطلعه علي بن خليفة وإخوانه ثم حوادث الجلاز والترامواي، الدغباجي، بوحاجب، البشير بن زديرة، الثعالبي، الحامي، المنصف باي، حركة لمرازيق، حركة زرمدين، حشاد، الهادي شاكر، بنزرت... فوسفات، فحم، اسمنت، قمح، زيتون، غلال خضر.. أحلام، آمال، وآلام... ملف بهذه الضخامة تتأرجح منه السنين والعقود، يختزل في لحظة من غفلة الشعب في مقايضة بكتاب ذكرت فيه امرأة من بين ملايين النساء اللواتي مررن على هذا الوطن، وردّة فعل على بيان صادر من مكتب ملحق بزاوية من وزارة الخارجيّة الفرنسية أشفق على صحافيّين حوصروا وعلّقوا بين يدي عيدين - عيد الانتخاب وذكرى الانقلاب –... هكذا استعملت السلطة حقبة من تاريخ البلاد في لجم صحافيّيهم والسكوت عن سلخ صحافيّينا!! تصمت ونصمت... تصمت عن الحديث في شؤون نساء قصرنا وفي تأديبنا لصحافي مارق،، ونصمت عن قرن إلاّ ربعا من الاستعمار وتداعياته الحينيّة والبعديّة. الشيء الذي يبعث على القلق هذا الارتباك والذهول الذي انتاب النخبة فصمتت على الكارثة خوفا من أن يحصرها النظام في الزاوية ويعتبرها عميلة لا تؤيد اعتذار المستعمر لوطنها، رغم أنّ البلاد لم تكن في حاجة إلى النخبة مثلما هي اليوم لتقف بالمرصاد في وجه العابث بالتاريخ، لأنّنا أمام اعتذار له ما بعده نتطلع فيه إلى تعويضات مادية مشرّفة، وامتيازات فنيّة وتقنيّة وتسهيلات جمركيّة ورسكلة وتأهيل للكفاءات الطبيّة والعلميّة... على الكلّ أن يساهم في كشف ومنع المقايضة الضيّقة بالموروث.. بالمشترك.. بالتاريخ... فإذا كان النظام قد أحكم قبضته على أوراق الحاضر فلا أقل من أن نستنقذ منه أوراق المستقبل.