أي رسالة قد يقدمها كهل و أب لأطفال لوفد وزاري يزور قفصة عبر احراقه لجسده؟ وهل يعقل أن يتنازل شاب عن حقه في الحياة و يحرق نفسه ليلة رأس السنة لا لشيء إلا ليكون أول شهيد في 2012؟ أليست هذه رسائل مشتعلة توجه للحكومة تكتب على أجساد بشرية؟ عشرة أيام مضت على بداية 2012 و لم نحتفل بعد بعيد الثورة الأول و عدد المنتحرين حرقا بسبب الفقر و القهر يصل الخمسة، وما يدل أن الأزمة أعمق مما يصفها بعض الساسة ب" حالات فردية ومعزولة" فإن مرتكبي حالات الانتحار من شمال البلاد إلى جنوبها في تزايد فمن حادثة انتحار حرقا في بنزرت إلى أخرى في العاصمة و حادثتين في سيدي بوزيد و قفصة و اخرى في صفاقس. وما دفع هؤلاء الى الانتحار هو ما دفع البوعزيزي نفسه للاشتعال ايضا . فبعد سنة من ثورة هزت أركان اعتي ديكتاتورية في المنطقة يرى مراقبون انه لم تتخذ إلى الآن قرارات جذرية ترضي العاطلين الذين شكلوا عصب الثورة وروحها ، ولم تكن منحة ال200 دينار التي يقع إسنادها إلى العاطلين سوى تكريسا لسياسة التسول و التواكل . وبعيدا عن منطق التآمر يعتقد المراقبون أن اغلب الاحتجاجات و الاعتصامات في علاقة ملحة بالمطالب الاجتماعية التي لم تكترث بها الحكومات المتعاقبة و التي اكتفت فقط بتوجيه رسالات تطمين و تهدئة كان أخرها بيان الحكومة الذي قدمه الوزير الأول أمام المجلس التأسيسي الذي اعتبر مجرد وعود وردية لا ترتقي لان تكون برنامجا واضحا يستجيب بصفة ملحة إلى المطالب الاجتماعية التي أصبحت تهدد الاستقرار الاجتماعي و التطور الاقتصادي . وبالرجوع الى الوضع الاجتماعي فان أرقام العاطلين تطورت بشكل مرعب حيث يقارب عددهم بعد الثورة المليون عاطل فيما تجاوزت نسبة الفقر عتبة الخمسة و عشرين بالمائة هذا إضافة إلى عدم قدرة سوق الشغل في تونس على استيعاب الأعداد الهائلة من طلبات الشغل سنويا و التي تقدر ب25 ألف طلب من بينها 7 ألاف من خريجي الجامعات. و يرى السيد الخبير الاقتصادي السيد المنجي المقدم ان نسبة النمو يجب أن تعود إلى طبيعتها العادية حتى تتمكن سوق الشغل من استيعاب بعض الوافدين عليها إضافة إلى ضرورة تشجيع الاستثمار الداخلي و الخارجي و هو ما يتطلب تحسين البنية التحتية و تطوير التشريعات اللازمة و توفير جو من الأمن و الاستقرار كما أكد ذلك وزير الخارجية الألماني فيستر فيلله . و يرى بعض الخبراء أن التشغيل الهش و التعاقدات الوقتية و الاعتماد على شركات المناولة و التي تستقطب حوالي 235 ألف عامل يعيش اغلبهم واقع الخصاصة و الفقر خصوصا اذا تضامن الأجر الزهيد مع ارتفاع ساعات العمل و غياب الضمان الاجتماعي وعدم إمكانية الترسيم وهو ما يزيد من حالة الاحتقان الاجتماعي و يعطي بعض الشرعية للاحتجاجات و الاعتصامات التي تشهدها اغلب مدن البلاد و لا تنتهي العوائق التي ورثتها السلطة الجديدة بل يمثل اختلال التوازن الجهوي تحديا كبيرا و احد اهم عوامل الاحتقان و تصاعد الاحتجاجات حيث تشتكي الجهات الداخلية ضعفا اقتصاديا نتيجة غياب بنية أساسية متطورة تساعد على تنشيط الحركة الصناعية. و تعتمد هذه المناطق التي تعرف اليوم بالمناطق المحرومة على شركة فسفاط قفصة و المجمعات الكيميائية التابعة لها إضافة إلى بعض المصانع المبثوثة هنا و هناك إضافة إلى الاعتماد على فلاحة بدائية غير متطورة و غير ممكننة و تجارة بسيطة. و يرى مراقبون ان السنة الماضية تغلب فيها الشان السياسي على الاقتصادي رغم ان الثورة لم تقم اساسا الا من اجل المطالب الاجتماعية بل ازداد الوضع الاجتماعي سوءا خصوصا مع الانهيار السريع للقدرة الشرائية و الغلاء الفاحش لاسعار المواد الغذائية ، و لم تسع الحكومات المتعاقبة الا الى تقديم وعودا الى المناطق الاكثر حرمانا وذلك بجلب الاستثمارات و وعودا تشغيل اعدادا كبيرة غير قادرة حسب الخبراء على الايفاء بها وز هو ما سيضع السلطة في مآزق جديدة في صورة العجز عن الايفاء بالوعود خصوصا و ان الميزانية تعاني عجزا كبيرا وصل الى حدود الاربعة في المائة فيما يخشى وصوله الى ستة بالمائة بما يهدد الدولة بفقدان الثقة الائتمانية مع الدول المانحة. ويرى بعض الخبراء أن سياسة الوعود و رسالات التطمين لم تعد حلا ولو مؤقتا لتهدئة الوضع في المناطق الداخلية و أن الحكومة اليوم وبعد اسابيع فقط من تنصيبها أصبحت تواجه كمّا هائلا من المطالب غير قادرة على توفيرها على الرغم من توفر الارادة السياسية لحل هذه الأزمات و عليها بذلك بدل توجيه مسكنات خطابية وكلامية لم يعد المواطن التونسي يستسيغها أن تبحث عن حلول قطعية لا حلولا أمنية لفرض الامن و قمع الاعتصامات التي على رغم تعطيلها للنسق الاقتصادي تبقى مشروعة ومظهرا صحيا إثر الثورة و على الحكومة بمختلف مكوناتها أن تصارح المواطنين بحقيقة الوضع و بخطورة المرحلة التي نمر بها وتكشف الملامح الحقيقية للوضع لا أن تقوم بتشتيت الانتباه حول المسائل المهمة العاجلة أو اعتماد سياسة التخوين لكل من يطالب بحقه. ويجب على المعارضة و على الأطراف التي لم تلتحق بالحكومة أن لا تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذه التحركات الشعبية المتصاعدة يوما بعد يوم إنما عليها أن تكون قوة اقتراح لا ان تكون فقط قوة احتجاج و تعطيل. فالمرحلة اليوم لم تعد تحتمل مزيدا من الخطب الايديولوجية إنما تستوجب قطعا تظافر الجهود لحل هذه الأزمة.