"ديقاج" شعار رفعته الجموع الزاحفة على مقرّ وزارة الداخلية يوم الرابع عشر من يناير 2011 أعقبه مباشرة فرار "بن عليّ"، و"الشعب يريد إسقاط النظام" شعار رفعه معتصمو "القصبة الثانية" لطرد أذناب "بن علي" وانتهى بإسقاط حكومة الغنوشي. الشعاران في منطلقهما عبّرا عن وعي ثوري متميّز لدى الجموع التي هتفت بهما، ولكن هل يعبّر إعادة إستنساخ هذين الشعارين بقصّهما من موضعيهما ولصقهما في موضع مخالف وظروف مغايرة تعبير عن وعي ثوري، أم تعبير عن "ثورة مضادة"؟ إن الذين هتفوا يوم السبت 25 فيفري 2012 بشعاري "ديقاج" و"الشعب يريد إسقاط النظام" في المسيرة التى نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل انطلاقا من ساحة "محمد علي" إلي شارع بورقيبة أمام مقر وزارة الداخلية يحاولون عبثا إعادة مشهد لا يمكن إعادته إلا عندما تتوفر نفس الظروف والأسباب التي أدت إلى صناعة المشهد الأصيل الذي يفتخر به التونسيون وستفتخر به أجيالهم القادمة! وكان المشهد المُشوّه الذي أعتمد على سياسة "القص واللصق" في صناعته معبرا عن وعي أصحابه ومستوياتهم التي تُعبّر عن خيبتهم بفرار "بن علي" أو خيبتهم في لفظ الشعب لهم وقد ظنوا أنهم أصحاب فضل وأنهم أوصياء عليه مادام لم يبلغ "الرشد" بعد ولم يعرف مصلحته! هؤلاء الذين اجتمعوا من كل حدب وصوب ومن كل ملّة فكرية معتقدين أن توحّدهم على هدف إسقاط الحكومة المنتخبة ورميها عن قوس واحدة سيحقق آمالهم واهمون! ... بل هم متمادون يوما بعد يوم في تعرية أنفسهم وكشف خياراتهم المعادية للديمقراطية ولحقّ الشعب في اختيار من يحكمه!
هل يُعبّر اجتماع بعض نواب "أكبر البواقي" مع من دونهم ممن لم يكن له حظ حتي في البواقي، وأيتام المخلوعين السابقين، وبعض النخب المتغرّبة التي طالبت بتدخل فرنسي لحماية "القيم الإنسانية" من "الخطر النهضوي" على الشعارين المذكورين آنفا عن ديمقراطيتهم "المزعومة" أم يكشف عن مدى استعداد هؤلاء للسطو على خيار الشعب وممارسة دكتاتورية الأقلية على الأغلبية! بعيدا عن مناصرة الحكومة أو الوقوف في صفها وهي ليست تهمة أدفعها أقول بأن كل من يرفع شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" بالتظاهر ورفع الشعارات والإعتصامات هو غير ديمقراطي وهو داعية للاستبداد لأن هذه الشعارات ترفع في وجه الأنظمة غير المنتخبة التي سطت على السلطة أو زوّرت الانتخابات، أو وصلت للسلطة عبر الانتخاب ثم أغلقت باب الانتخاب خلفها حتى لايستعمل بشفافية ونزاهة لإزاحتها وإرغامها على التداول السلمي على السلطة!
وبما أن الحال ليس كذلك في بلدنا، وأن هناك استحقاقا انتخابيا قادما يمكن أن تُجدّد فيه الثقة للحكومة الحالية، كما يمكن أن تسحب منها، فإن أي دعوة لإسقاطها بأسلوب غير الأسلوب الديمقراطي المتحضر وعبر صندوق الإقتراع لا يمكن وصفه بغير الهمجية ومحاولة إحياء النظام السابق أو أمثاله من الأنظمة التي تفوقه في البطش والإستبداد. ليست مشكلة كبيرة أن تُزال هذه الحكومة أو تُسقط، وإنما المشكلة أن تفشل التجربة في مهدها، وتُوؤد آمال شعبنا في القطع مع الماضي بآلامه ومآسيه. لأن بديل عن سقوط هذه الحكومة هو الفوضى وحفر قبر الثورة لتُلحق بشهدائها. فهل سيبقى للشعب ثقة في انتخاب أو خيار ديمقراطي؟
هذا ما يُراد لبلادنا وهذا هو مآل أفعال الذين يحاولون إعادة تجربة "14 جانفي" وتنزيلها في غير منزلها! ... وهب أن ذلك حصل، فهل سنبدأ الدوامة من جديد؟ لجان لحماية الثورة، وهيئة عليا لتحقيق أهدافها، ولجنة عليا لاعداد "الانتخابات"، ومجلس نيابي أو تأسيسي، وقوانين جديدة أودستور، وملفات المحاسبة والتطهير والعدالة الانتقالية والتشغيل والاقتصاد والبناء والتنمية ... إلخ! ... والمشكلة كل المشكلة لو يعيد الشعب نفس الخطأ. يا من تدّعون حبّا لتونس! لا سبيل "لممارسة" حبّكم إلا عبر صندوق الاقتراع، إليه تحتكمون وبحكمه ترضون، ومن لم يعجبه الحكم يُقنع "الحاكم" في مناسبة أخرى لتغييره، وخلاف ذلك من أساليب "التحشكيل" و"العصا في العجلة"، لا يربح منها أحد، والجميع خاسرون... ومن "الحبّ" ما قتل! وشعبنا الذي يوصف بالجهل واع ويعرف من بكى ممن تباكى! وأما القيادة الحالية للاتحاد العام التونسي للشغل التي حشدت الحشود بدعوى الدفاع عن الاتحاد على خلفية ما تعرّضت له مقراته من استهداف، فإنها مدعوّة إلى إدانة الشعارات التي رُفعت خلال المسيرة المذكورة وإلا فإنها تُثبت التهمة الموجّهة إليها بأنها لا تدافع عن مصالح العمال وإنما توظف العمال ومنظمتهم التي هي مكسب وطني لتُصرّف عبرها الخلافات الإديولوجية مع مكونات الحكومة الحالية، وليكن لديها قدر من الشجاعة الأدبية فتدين محاولة السطو وحياكة المآمرات على خيار الشعب. وليكن قدوتها في ذلك، الحكومة والنهضة اللتين اتهمتا بالعدوان على مقرات الاتحاد وطلب منهما إدانة "العدوان" فلم تترددا!
وليعلم الذين يسمون أنفسهم ب"الديمقراطيين" ويريدون "ديمقراطية" ذات اتجاه واحد أنهم يُشرّعون للاستبداد ويبرّرون دعوات الإستئصال.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأن الحلم بالتحلّم والعلم بالتّعلم، وأنا أقول بأن الديمقراطية مسار وخيار وليست شعارا تلصقه مجموعة بنفسها وتمنعه عن غيرها، أو دعوة تدّعيها وأفعالها تكذّبها! قليل من الصدق مع أنفسكم ومع شعبكم يرحمكم الله!
صابر التونسي 26 فيفري 2012 النصوص الممهورة بتوقيع إدارة التحرير هي فقط التي تعبر عن رأي الموقع الرسمي وباقي النصوص تعبر عن رأي أصحابها .