وزير السياحة: طلب كبير على طبرقة عين دراهم...التفاصيل    عاجل: سقوط صواريخ إيرانية على حيفا وبئر السبع... وأضرار مادية جسيمة    كأس العالم للأندية: برنامج النقل التلفزي لمواجهة الترجي الرياضي ولوس أنجلوس    الفرق الطبية بالمستشفيين الجامعيين بصفاقس تنقذ 5 مرضى من جلطات قلبية بواسطة منصّة "نجدة TN"    حماية المستهلك والتجارة الإلكترونية: تذكير بالقواعد من قبل وزارة التجارة وتنمية الصادرات    وائل نوار: الرهان المستقبلي لقافلة الصمود حشد مئات الآلاف والتوجه مجددا لكسر الحصار    عاجل/ العامرة: إزالة خامس مخيّم للمهاجرين يضم 1500 شخصا    مقترح قانون لتنقيح قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    بداية من 172 ألف دينار : Cupra Terramar أخيرا في تونس ....كل ما تريد معرفته    عاجل: القلق الإسرائيلي يتصاعد بسبب تأجيل القرار الأميركي بشأن الحرب على إيران    الحماية المدنية: 552 تدخلا منها 98 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    النادي الإفريقي يعلن عن موعد الجلسة العامة الانتخابية    صلاح وماك أليستر ضمن ستة مرشحين لجائزة أفضل لاعب من رابطة المحترفين في إنقلترا    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يختم تربصه بإيطاليا بهزيمة ضد المنتخب الايطالي الرديف 3-1    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    وزير الإقتصاد في المنتدى الإقتصادى الدولي بسان بيترسبورغ.    عودة التقلّبات الجوّية في تونس في ''عزّ الصيف'': الأسباب    ''مرة الصباح مرة ظهر''.. كيف يتغيّر توقيت اعلان نتيجة الباكالوريا عبر السنوات وما المنتظر في 2025؟    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    بلومبيرغ: إيران تخترق كاميرات المراقبة المنزلية للتجسّس داخل إسرائيل    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    روسيا تحذّر أمريكا: "لا تعبثوا بالنار النووية"    عامان سجناً لمعتمد سابق و15 سنة سجناً لنائب سابق بالبرلمان المنحل    عاجل/ عقوبة سجنية ثقيلة ضد الصّحبي عتيق في قضية غسيل أموال    صاروخ إيراني يضرب بئر السبع وفشل تام للقبة الحديدية...''شنو صار''؟    طقس اليوم: أمطار بهذه المناطق والحرارة في ارتفاع طفيف    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    بطولة برلين للتنس: أنس جابر توانجه اليوم التشيكية "فوندروسوفا"    ميسي يقود إنتر ميامي لفوز مثير على بورتو في كأس العالم للأندية    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    ما تستهينش ''بالذبانة''... أنواع تلدغ وتنقل جراثيم خطيرة    100 يوم توريد... احتياطي تونس من العملة الصعبة ( 19 جوان)    عاجل/ سعيّد يكشف: مسؤولون يعطلون تنفيذ عدد من المشاريع لتأجيج الأوضاع    خامنئي: "العدو الصهيوني يتلقى عقابه الآن"    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    كأس العالم للأندية: أتليتيكو مدريد يلتحق بكوكبة الصدارة..ترتيب المجموعة    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    شارع القناص ...فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي .. الثقافة وهواة اللقمة الباردة : دعم ومدعوم وما بينهما معدوم.. وأهل الجود والكرم غارقون في «سابع نوم»!    موسم الحبوب: تجميع4.572 مليون قنطار إلى غاية 18 جوان 2025    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    وفاة أول مذيعة طقس في العالم عن عمر يناهز 76 عاما    الاستثمارات الاجنبية المباشرة تزيد ب21 بالمائة في 2024 في تونس (تقرير أممي)    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    إسناد المتحف العسكري الوطني بمنوبة علامة الجودة "مرحبا " لأول مرة في مجال المتاحف وقطاع الثقافة والتراث    بعد 9 سنوات.. شيرين تعود إلى لقاء جمهور "مهرجان موازين"    اطلاق بطاقات مسبقة الدفع بداية من 22 جوان 2025 لاستخلاص مآوي السيارات بمطار تونس قرطاج الدولي    وفاة 5 أعوان في حادث مرور: الحرس الوطني يكشف التفاصيل.. #خبر_عاجل    الخطوط التونسية: تطور مؤشرات النشاط التجاري خلال أفريل وماي 2025    لجنة الصحة تعقد جلسة استماع حول موضوع تسويق المنتجات الصحية عبر الانترنت    عاجل: أمل جديد لمرضى البروستات في تونس: علاج دون جراحة في مستشفى عمومي    بعد تعرضها للهجوم .. نجوم الفن المصري يدعمون هند صبري بأزمة "قافلة الصمود"    قافلة الصمود تُشعل الجدل: لماذا طُلب ترحيل هند صبري من مصر؟    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذاكرة المهجر : شكرا لكم جميعا … الطاهر العبيدي
نشر في صحفيو صفاقس يوم 08 - 01 - 2016

تردّدت كثيرا قبل استجواب هذه السطور المنتفضة على واقع الحال، ترددت أكثر قبل استنطاق كل لحظات التعابير المستيقظة فوق روابي حالات التيه والضياع…وقفت في مفترق أخاديد واقعنا المتوغّل في عبثية الزمان، وحديث المسافات الطويلة وكل همومنا ومسلسلات قِمَمِنَا الهزيلة…
تردّدت كثيرا أمام عواصف الأحداث الكاتمة للصوت، وأمام زخّات الأخبار الانشطارية التي تنهال يوميّا وكل حين على باقي أيامنا الموزّعة بين شقوق الخراب…وقفت عند كلّ مَمَرَّاتِ بشاعات الصور والأخبار التي تنهش الكرامة وتفترس الجفون وتدمّر الأجساد…وقفت عند ممرّات أحوالنا المتسكعة بين مفاصل الاستبداد…
فمن هنا وضع عربي محنّط يعود بنا مليون عام للوراء، وقمّة كالقمم الأخرى بلا طعم بلا رائحة بلا ألوان، سوى رائحة العجز والانحدار، وشعوبا آمنت يقينا أن كل القمم منها ما فات وما هو آت كلها نوعا من الوهم والسراب، ومن هنا عراق ينهبه ويمزّقه الغزاة والعالم يتفرّج على هذه المأساة، وفي الضفة والقطاع وفي فلسطين الشتات، يأتي الماء مسموما، ويأتي الخبز مسموما، ويأتي القصف محموما، ويأتي الموت مجنونا، ويأتي الاغتيال اليومي مسعورا، ويأتي الحقد مدعوما، ويأتي المفاوض العربي كسيحا ذليلا، ويأتي الرفض الجماهيري مكبّلا مغلولا، ويأتي الدعم العربي والإسلامي أقل من باهت وخجولا…
ومن هنا في بلدي مضربون بالعشرات، من أجل أبسط الحقوق التي تتمتع بها المخلوقات، والكل يتذكر ما آلت إليه وضعية « عبد اللطيف المكي » و« جلال عياد »، بعد إضراب طويل كاد يتحوّل إلى مأساة، من أجل حقّ الدراسة المشروعة، ولازالت القضية بلا حلّ بلا نتيجة، رغم وضوح المطلب والإجماع الوطني واتفاق الكل أن المظالم في بلدي تناسلت تكدّست تراكمت تراكم النفايات، وسجونا مدجّجة بالحقد المسلح لا ندري إلى متى ستظل منصوبة لتدمير ما بقي من العظام والعقول والأجساد، وخارج الزنزانات والأسوار وفي وطن الحصار، محامون حقوقيون، سياسيون أطباء، صحافيون عمال، مضربون بطالون، طلبة مثقفون، تلاميذ مواطنون، معارضون، كتّاب ومفكرون، جامعيون لاجئون، مهجّرون، كلهم هنا وهناك مرابطون يقاومون كل أنواع الاضطهاد، من أجل أن تبزغ شمس الحرية ومن أجل وطن فسيح يتسع لكل العباد، هؤلاء جميعا دون استثناء، هم أبناء شعبي الذي ينحت معاني الحرية فوق منخفضات الهزيمة وكثبان الاستبداد، بعيدا عما قيل ويقال، أن شعب بلدي فعل ناقص معتل، معرّف " بالخفضة " البارزة في أوله والضمّة الدالة على ضمّ عينيه عن المظالم، وأنه جار ومجرور بالغلب والهوان، فهناك في وطني رغم الرقابة رغم حالات التنفس الاصطناعية رغم كل قوانين الحصار، أحرار يقاتلون من أجل استيقاظ الهمم والضمير، هناك أناس لا تغرنّهم تسابيح صحافة " السوبر ستار" ولا صحافة موائد القصور، ولا ترهقهم ولا ترهبهم كل النصوص وكل القوانين، التي تعتدي على الإنسان وتفترس فصول الدستور، وهنا شباب لا ينامون على الضيم يقتنصون المظالم يكتبون العرائض والنداءات، ويمزّقون ستائر الليل الجاثي على ربوع وطني، هؤلاء الشباب المتخندقون في المواقع، المتحركون خلف الأقلام يطلقون الرصاص على كل الرداءات وكل عناوين القهر والإرهاب، ليرسموا مسارب للخلق والإبداع، وليفتحوا نوافذ للرأي والرأي المضاد، بعيدا عن لغة التزمير وصحافة الأخشاب، ليعيدوا صياغة أخرى لتاريخ كثيرا ما نهبته بشاعة الأحادية وتضخم الذوات، هؤلاء الشباب يدفعون من أعمارهم من قوتهم، من شقائهم من أجسادهم من تعبهم من غربتهم، لأجل أن تولد المعلومة سليمة من كل الإعاقات، ويبزغ النص معافى من التشوّهات، وتكون الولادة إشارة البدايات لتاريخ ينحته جيل آخر من المستيقظين في واقع السبات، ليرسموا على جدران الوطن بالحبر الإلكتروني، والقلم العلني، والرسم " الانترنتي "، صفحات هموم شعب وآمال شعب وطموح شعب ومظالم شعب وإبداعات شعب، ترجمت أحاسيسه وتطلعاته مواقع كل أولئك الثائرون خلف المواقع، في تونس نيوز/ تونس الملاحظ / جريدة الموقف / ملتقى / تونس استيقظ / نواة / المناضل / تينيزين / كلمة / كتاب، وكل اللذين اختاروا الوقوف في زمن السقوط، هؤلاء وأولئك وكل المبدعين والمسرحيين والموسيقيين، والكتاب والشعراء، والمعبرين بالصوت الحر والكلمة العذراء والحرف الناضج واللحن الهادف، اللذين أرّخهم موقع « ملتقى » ورسمهم في أبهى زيّ تاريخي، هؤلاء جميعا هم أبناء أجدادي اللذين كتبوا أروع صفحات التاريخ على جبين مقبرة « الجلاز »، ورسموا مسارب الثورة مع « الدغباجي » « وبن زديرة »، « والثعالبي » ، و« الطاهر لسود » و« ساسي لسود »، وقابلوا الرصاص في انتفاضة العمال سنة 1978 وثورة الخبز سنة 1984، ولا زال أحفادهم يزرعون شجر المقاومة بالكلمة الواعية، والقلم الحر والنص الانقلابي ضدّ كل صنوف الاضطهاد، هؤلاء هم أبناء شعب بلدي، أبناء ذاك "النبي المجهول"، نبي الكلمة المقاتلة واللحن المدفعي، حين رسم شرارات الثورة، شاهرا سيوف القوافي المنتفضة على الغزو والاحتلال:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر (1)
ولا بدّ للظلم أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر
وقفت عند كل موانع السير التي تؤرّق الكلمات وتعطل تنفس الجمل والمفردات، فقد تراصفت تواترت تكدّست كل الطعنات، وصار قلمي متسكعا في عمق الجراحات، فهناك في سجن أبو غريب سقط ما بقي من أوراق التوت التي تستر ما خفي من البشاعات، التي تشرّع للغزو بعد أن سقطت قبلها أسباب الاجتياح وكل المبررات، وما عاد مقنعا كل الاعتذارات وكل تلك الأراجيف وكل التفسيرات، فقد كان سجن أبو غريب شهادة اعتراف مالحة على ثقافة الحقد والتدمير، وما عاد ممكنا التحدث بهتانا عن
" شرق أوسط كبير " أو تقديم أي بديل، فمشاهد الهدم والتدمير التي يشاهدها العالم يوميا وكل حين تُغْنِي عن أيّ كلام وأيّ تفسير، وهناك " الفلوجة " جنين أخرى ترسم معنى آخر لكل عناوين التصدّي والصمود، تحت وابل القصف الإلكتروني، والحصار العسكري، والهدم المدفعي وطعنات الصمت العربي…
وهنا في وطني هموم كبيرة ومظالم غزيرة، ولا أدري من أين أبدأ الكلام وكل القضايا متعبة ثقيلة، فهل أروي أحوال طلبة سوسة المضربون منذ زمان في بلد صار فيه مجرّد الحديث عن حقوق ومتاعب الطالب المثقل بالهموم والمصاعب وكل أنواع التعطيل والحرمان، مهمة خطيرة وتهمة يعاقب عليها القانون، حتى أضحت المعاهد والجامعات والكليات ثكنات يدير شؤونها أعوان وضباط ومخبرون…فتوالت الاحتجاجات وازدهرت مواسم الإضرابات كما عنونها في إحدى المقالات زميلنا رشيد خشانة…وفي الجانب الآخر جمعية (RAID ) " التجمع من أجل بديل عالمي للتنمية" الممنوعة من حق التنفس وحق الحركة وحق البيان والتصريح،
أم اروي حكاية ذاك الصحفي الزميل « محمد فوراتي » الذي يعاني كل أنواع التضييق والحصار، وصار صحفيا بلا بطاقة بلا حبر، بلا أوراق بلا دفاتر بلا سفر، بلا شهادة ملكية وطن سوى قلم يرفض التثاؤب أمام تلوث ربيع الوطن...
أم أروي وجع قصة أولئك البؤساء أهالي « دوار البراهمة (2) »، الذين تحوّل بؤسهم إلى جريمة تحال على قسم التحقيق وينهشها القضاء، هؤلاء الطيبون الفقراء الذين يفترشون الصبر ويتلحّفون السماء، هذا الدوار الذي زرته سنة 1990 بمعية الصديقين الأستاذ
« نجيب الحسني » والأستاذ « عمر الرواني »، فاكتشفت أكواخا متناثرة كالمقابر في العراء، نبتت على أرض قاحلة جرداء دمّرها التجاهل والنسيان، وقست عليها الطبيعة وفرّت من سمائها السحب والأنواء، وأناس يمضغهم الشقاء وأطفال يلبسهم الغبار ويصفعهم العراء…
طيبون رغم بؤسهم، كرماء رغم فقرهم، بسطاء رغم وعورة المسارب والثنايا التي يؤثثها الحرمان والاحتياج، رأيت عيونا حزينة متسكعة في اللاشيء، في فضاء لا يمطر غير السكون والظلام، وأحلاما معطوبة لا تكفكف وخزات الجوع والانتظار، ووجوه يتسلقها الجوع وتضغط عليها مخالب الحرمان، وانتظار لحلم لا يأتي، ولزرع لا ينبت، ولربيع أبدا في أرضهم لا يستيقظ… ليس لهم من أمل عام وراء عام ومن سنة لأخرى، سوى حضور
" زردة سيدي رابح " السنوية كي يتمتعوا بما يجودوا به الكرماء، ويرقصوا بعفوية البسطاء على الحان الشبّابة والدفّ وروائح البخور، ليسافروا في غيبوبة تحت تأثير الدراويش والمبشرين، وهاهم بعد عشرية من الزمان يلقى عليهم القبض وينضمّون إلى قوافل السجناء، والتهم المنسوبة لهم قاسية ثقيلة، اجتياز حدود بدون وثائق سفر، تكوين عصابة مفسدين…فلكم الله يا دوار البراهمة، يا شيوخ وعجائز وأطفال ومواطنين بسطاء، يا هؤلاء الجياع البؤساء، يا معشر الفقراء الذين صار فقركم سبب سجنكم، وأضحى بؤسكم عنوانا كبيرا في ملفات القضاء، يا ذاك الدوار الذي ينتمي إلى بلد يلقب " بتونس الخضراء "…
فليعذرني الأصدقاء وليعذرني الزملاء وليعذرني القرّاء أن أسجّل هنا، أن الاستبداد طعن كل الأشياء، طعن الأرض والنسيم والهواء، غيّر لون العشب والتربة والنبات، وأن الظلم يعقّم العقول والأجساد ويؤخر قدوم الأجيال، كما تأخرت ابنتي « كرامة (3) » عن المجيء طيلة إحدى عشر عام، حيث قصف عرسي وأنا على أهبة الاحتفال، وألقي عليّ القبض هناك في وطن التهم الممنوحة لكل من يرفض الصمت والإذلال، وقد تمكنت إحدى المرات من الفرار من قاعة محكمة مدينة « الكاف » وعانقت المنفى، وبعد خمس سنوات من الصبر والمحاولات، تمكنت من استقدام خطيبتي « أم كرامة » وظللت بعدها ستّ سنوات أترقب غيث السماء، حتى جاءت « كرامة » متأخرة عن موعد اللقاء، وجاء معها رذاذ من التهاني التي دثرتني من صقيع المنفى، فقد كانت تلك التهاني الدافئة تمسح عنيّ لسعات السنين، وتوقظ في ذاك الود وذاك الحنين، وازدحم بريدي الإلكتروني وهاتفي المنزلي والنقّال بالتهاني العابرة للقارات، المتسللة عن عيون المخبرين في بلدي تونس أو من داخل الخط الأزرق على حدّ تعبير صديقنا الأستاذ « أحمد السميعي »، ووجدت نفسي وطفلتي « كرامة » تظللنا واحات التهاني الآتية من قطر – المغرب – الجزائرلبنانعمانفرنسا، الدانمرك – السويدألمانياهولندا – وكندا – مصر إيطاليا – وسويسرا… لقد كانت التهاني كالمطر اللذيذ منسكبة من كل الدول، فشكرا لكم جميعا على مشاركتي فرحة الاحتفال، شكرا لذلك القارئ المواطن الكريم من أمريكا الشمالية الذي ما إن قرأ خبر قدوم كرامة حتى سارع بتقديم التهاني عبر الهاتف النقّال، شكرا
« لأم ربيع » من إيطاليا التي لم تنقطع عن السؤال، شكرا لكم جميعا على تلك التهاني المتدفقة بتدفق أوجاع الحنين، شكرا لكم جميعا يا أبناء وطني الكرام ومعذرة إن لم أستطع الرد على كل الرسائل، فالطاقة محدودة وطفلتي كرامة غير مقتنعة بأحوالنا وواقعنا الوطني، ورافضة لهذا العالم المدجّج بالموت العبثي، والظلم اليومي، والوحل العربي والتفكك القيمي، والانهيار الديمقراطي، فأضطرّ كل مرة وكل حين أن أتدخل لأهدأ من احتجاجها القوي، وقلقها اليومي وصراخها الطفولي، هامسا في أذنيها الصغيرتين: لا تبكي كثيرا صغيرتي، فالبكاء المستمر واليومي علامات العجز الوطني، ولتدركي صغيرتي أن الحرف المشرق ينبت من تحت الرُّكَامْ، وأن السنابل تخضرّ وتترعرع متى تعرّضت للعواصف والأنواء، وأن الظلم مؤذن للخراب، وأن شدّة الظلم مقدمة للزوال، وأن الحرية باهظة الثمن في كل عصر ومكان، وأن القهر ينجب الأوطان، وأن الناس بنيتي معادن في كل زمان، وأن الشدائد يا صغيرتي تفرز الهمم وتولد الرجال..
——————————-
(1) ◄ أبيات من ديوان إرادة الحياة للشاعر « أبو القاسم الشابي »
(2) ◄ « دوار البراهمة » هم قبيلة من الفقراء جدّا، يسكنون منطقة " سيدي رابح " بالقرب من الحدود الشمالية الغربية للقطر الجزائري، ضاق بهم الحال وضغط عليهم الاحتياج والخصاصة، فلجئوا جماعيا إلى الجزائر يوم 11- 10 – 2003 طمعا في الشغل، فوقعوا في قبضة الأمن الجزائري فحقق معهم، فاكتشف أنهم لشدة فقرهم وعزلتهم لا يزالون يعتقدون أن الرئيس الجزائري « هواري بومدين » المتوفي في 27 – 12 – 1978 ما يزال على قيد الحياة وهو الذي يحكم، وأن الحدود مفتوحة كما وقت الاستعمار، فوقع إيوائهم في إحدى المدارس، وقدموا للمحكمة وقد تفاعلت الصحافة الجزائرية كثيرا مع هذه المأساة، ودافعوا عن هؤلاء المساكين وكذلك المحامون، وتمّ تسليمهم إلى السلطات التونسية التي اعتقلتهم بتهم الانخراط في عصابة مفسدين قصد الاعتداء على الأشخاص والأملاك، ومغادرة التراب التونسي بدون رخصة تحت قضية عدد 1931 ووقع تعنيفهم وهم مجموعة من الشيوخ والعجائز والأبناء والبنات البسطاء جدا…
* لمزيد من التوضيح انظر جريدة L'est de l'Algérie deشهر أكتوبر (تشرين) 2003 وصحيفة « عنابة » نفس الشهر
▪ يومية « وهران » في عددها الصادر يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر أكتوبر 2003 تقرير بقلم الصحفي كمال داوود
▪انظر بيان المجلس الوطني للحريات بتونس بعنوان
« عندما يصبح الفقر جناية » الصادر بموقع تونس نيوز بتاريخ 25 – 11 – 2003
▪راجع نداء المجلس الوطني للحريات المنشور بموقع تونس نيوز بتاريخ 4 – 3 – 2004
▪كذلك بيان المجلس الوطني للحريات بتونس الصادر بموقع تونس نيوز في 22 – 3 – 2004
▪انظر نص « أم فاروق » في هذا الموضوع الصادر في نفس الموقع المذكور
(3) « كرامة » / هي ابنتي التي جاءت للوجود يوم 24 مارس ( آذار ) 2004 / باريس
▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪
نُشِرَ في :
◙ جريدة الموقف ← / 28 – 5 – 2004 ◙ تونس نيوز ← / 1 – 6 – 2004
تونس استيقظ ← / 2- 6 – 2004 ◙ نواة ← / 4 – 6 – 2004
◙ مجلة العصر ← / 7 – 6 – 2004 ◙ TUNeZINE ← / 4 – 6 – 2004


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.