من منّا لم يسمع ولم يتابع ولم يتأثر بسيرة رجل استثنائي بأتم ما في الكلمة من معنى تقدّم على عصره وخصومه ومواطنيه فكان لهم نبراسا مضيئا يشعّ بفكره ومواقفه وكان لهم نعم الزعيم والقائد إلى الحد الذي أصبح يوم ميلاده يوم احتفال وطني بل وعالمي تغطّي تلفزات العالم أدقّ تفاصيله... من لم يسمع بماديبا شعب جنوب إفريقيا .... نلسون مانديلا رمز مقاومة الشعوب المقهورة والحكيم الذي إن نطق على الجميع أن ينصت فكلامه هو من طينة ما قلّ ودلّ كما عظماء التاريخ دائما.... والحكمة كما يعرّفها أهلها هي لبعض من بلغ من العمر عتيّا وتستعصي على الرعاع وأهل الغوغاء ولأن ماديبا هو آخر حكماء عصره أستحلفكم أحبّتي في وطني إلى التمعّن في رسالته التي وجّهها إلينا وإلى إخواننا في مصر ودعانا فيها إلى نبذ الفرقة لأن ذلك أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي وتمنّى علينا أن نستحضر قولة نبيّنا الأكرم صلّى الله عليه وسلّم : اذهبوا فأنتم طلقاء لن أغوص في تفاصيل رسالة آخر الحكماء لأنني أصغر من شرح مضامينها ولأن الكلمات ربّما لا تفي أحيانا حقّ عظمة المشاعر والمواقف وأنفة الرجال ..... لك الخلد يا آخر الرجال ورحمك الله حيّا وميّتا ولن أضيف كلمة أخرى إليكم نص رسالة مانديلا كاملة أعتذر أول عن الخوض في شؤونكم الخاصة وسامحوني إن كنت دسست أنفي فيما لا ينبغي لتقحم فيه . لكني أحسست أن واجب النصح أوّلا والوفاء ثانيا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتّمان عليّ ردّ الجميل وإنْ بإبداء رأي محّصته التجارب وعجمته الأيام وأنضجته السجون أحبّتي ثوّار العرب : لازلت أذكر ذلك اليوم بوضوح . كان يوما مشمسا من أيام كاب تاون خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف عام ... خرجت إلى الدنيا بعد أن وُوريت عنها سبعا وعشرين حجّة لأني حلمت أن أرى بلادي خالة من الظلم والقهر والاستبداد . ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمّهم بعد كل هذا الزمان إلاّ أنّ السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو : نلسون مانديلا يزور قريته للمرة الأولى ... نلسون مانديلا في المستشفى ...نلسون مانديلا يحتفل بعيد ميلاده الثالث والتسعين ... غوغل ستقوم برقمنة أرشيف نلسون مانديلا ... كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا ؟ أكاد أحسّ أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم . لقد خرجتم لتوّكم من سجنكم الكبير وهو سؤال قد تُحدد الإجابة عنه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم .... إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي أو على لغة أحد مفكّريكم – حسن الترابي- فإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل أنا لا أتحدث العربية للأسف لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلاّ بالتشفّي والإقصاء . كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتكبيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة ..... ذلك أمر خطير في نظري أن أتفهّم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارة الظلم ماثلة إلاّ أنّني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبّب للثورة متاعب خطيرة ' فمؤيّدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن أنتم في غنى عن ذلك أحبّتي إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكّل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توزان أنتم في غنى عنه الآن عليكم أن تتذكّروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائيا ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة أعلم أن مما يزعجكم أن تروْا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدث اليوم ممجدة للثورة لكن الأسلم ألاّ تواجهوهم بالتكبيت إذا مجّدوا الثورة بل شجعوهم على ذلك حتى تُحيدوهم وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلاّ من ساهم في ميلاد حريته إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير أذكر جيّدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدّ واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يُحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إمّا إلى الحرب الأهلية أو إلى الدكتاتورية من جديد لذلك شكّلتُ لجنة الحقيقة والمصالحة التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر : إنها سياسة مرّة لكنها ناجعة أرى أنكم بهذه الطريقة –وأنتم أدرى في النهاية- سترسلون رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتفّ حول الديكتاتوريات الأخرى أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير كما قد تحجمون خوف وهلع الدكتاتوريات القائمة من طبيعة وحجم ما ينتظرها تخيّلوا أنّنا في جنوب إفريقيا ركّزنا –كما تمنّى كثيرون- على السخرية من البيض وتكبيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم ؟ لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني اليوم أتمنّى أن تستحضروا قولة نبيّكم “اذهبوا فأنتم طُلقاء