لقد أرسى الحبيب بورقيبة أركان الدولة التونسية، و هذا حدث تاريخي لا يستطيع إنكاره أحد. و ضمن مشروع الدولة الجديدة، قررت الدولة الفتية إصلاح التربية و التعليم و إنشاء منهج دراسي حديث. و اثر هذا العزم، أمر الرئيس الحبيب بورقيبة بإغلاق الجامعة الزيتونية و الكف عن مواصلة التعليم فيها. لست أدري هل أن الشباب التونسي يعلم شيئا عن الجامعة الزيتونية أم لا. و الذي أعرفه أن الشيوخ وبعضا من الكهول في بلادنا، يعلمون ما كان شأن هذا المعلم الديني و الفكري و الثقافي في بلادنا، و كذلك في المغرب و المشرق العربي و في اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية. لكنني أعرف أيضا أن الجامعة الزيتونية مرت بمرحلة صعبة كان لها محبوها كما كان لها من كان يرغب في إزالتها. ولما قرأت المقال الذي كتبه الأستاذ عبد الوهاب المؤدب على الصحيفة التونسية الناطقة باللغة الفرنسية ” ليدر” ، و الذي يستنكر فيه الخطأ الذي ارتكبه الحبيب بورقيبة حينما أذن بإغلاق الجامعة الزيتونية سنة 1958 ميلادي، عقدت العزم على الردّ على هذا المقال و على سرد الأحداث التاريخية التي أدّت إلى هذا القرار الرئاسي، إبان الاستقلال. و طبقا للنزاهة الثقافية، أود أن أتوجه للقارئ الكريم و أقول له أنني لست بباحث مختص في الشؤون الرئاسية، و لكن الرغبة في معرفة الحقيقة عن الأسباب التي دفعت الحبيب بورقيبة لقرار مثل هذا، هي التي فرضت علي أن أقوم بهذا البحث المفصّل. لماذا أمر الرئيس الحبيب بورقيبة بإغلاق الجامعة الزيتونة بعدما أصبح رئيسا للجمهورية؟ هل كان تتويجا للإصلاح المنهجي الجذريّ في التعليم و المؤسسات الإدارية و الصناعية و المهنية و العسكرية، الذي نادت به الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر في إطار التنظيمات، و الذي صادق عليه ثم شرع في تطبيقه رجال الفكر و الدين و المعرفة و المجلس الوزاري في المقاطعة التونسية ؟ أم أن الحبيب بورقيبة، أراد أن يفصل ما بين الماضي و الحاضر لأنه كان يعتبر أن الجامعة الزيتونية رمز التخلف دينا و لغة، يجب إلغاؤه، كما ألغى مصطفى كمال الخلافة الإسلامية باسطنبول، متيقنا أن الإسلام هو سبب من أسباب التخلف في تريا و البلدان الإسلامية؟ و هل أراد الحبيب بورقيبة أن يطوي الصفحة التي كانت تربط الحركة الوطنية بالزيتونة، و يتخلص من الصرح الذي أنجب أهم العناصر الدينية و الفكرية و التقدمية في بلادنا، ليبقى هو الزعيم الوحيد و المجاهد الأكبر في تونس؟ و قبل الجواب عن هذه الأسئلة، فلا بدّ أن نذكر أولا، تأسيس الجامعة الزيتونية في بلادنا و نخص بالذكر نخبة من مفكريها و علمائها. ثانيا، أن ننظر في العلاقة الخاصة التي كانت تربط الدولة العثمانية ببلادنا. ثالثا، أن نعرف الأسباب التي دفعت الدولة العثمانية إلى الإصلاح في نظامها، و أخيرا، أن نبحث عن ما حصل من شقاق في صفوف نخبة رجال الجامعة الزيتونية و المتخرجين من المعهد الصادقي كذلك، قبل سنة 1956 بالذات. نحن نعرف أن الدول قائمة على تشريعات تحكم الشعوب طبقا لتاريخها و ثقافاتها و عاداتها و تقاليدها و كذلك حسب دينها و لغتها. و انطلاقا من هذا المفترض كان من الأرجح أن تكون الجامعة الزيتونية ركنا من الأركان الأساسية لإرساء الدولة التونسية الجديدة، فضلا عن المكانة المرموقة التي ارتقت إليها هذه الجامعة في أصول الدين و الفكر و المعرفة, لقد تأسس جامع الزيتونة سنة 698 ميلادي، و فتحت الجامعة الزيتونية أبوابها سنة 737 ميلادي ، و كانت من أوائل المدارس الممتازة على الصعيد العربي الإسلامي. و قد زار الجامعة الزيتونية العديد من العلماء و الأساتذة الأندلسيين في القرن الثالث عشر ميلادي و درّسوا في أرجائها، و هذا دليل قاطع على شهرة هذه الجامعة في ذلك العصر، و نحن بالذكر منهم المدرس و المؤلف ابن الآبار، و النحوي و اللغوي و الأديب ابن عصفور الإشبلي، و الأديب و الشاعر حازم القرطاجني، و عالم الرياضيات و المنطق الشيخ إبراهيم الآبالي، أستاذ ابن خلدون. و تخرّج منها العديد من الطلاب و الأساتذة الأمجاد. و نذكر بالخصوص الإمام علي بن زياد، و الإمام المالكي الشهير بن عرفة، و عبد الرحمان بن خلدون العلامة في علم الاجتماع و العمران، و أخيه المؤرخ يحيى بن خلدون، و عبد الله التيجاني الرحّالة الذي كان يروي رحلاته بالهزل و السخرية. أما القرن التاسع عشر ميلادي، فكان حافلا كذلك بامتياز خريجيها الذين ساهموا في أصلاح التعليم و الدولة و نخص بالذكر منهم سيدي إبراهيم ألرياحي، و محمد بيرم الثالث، و أحمد بلخوجة، و أحمد بن أبي ضياف الذي أقدم بمشاركة خير الدين باشا على تنقيح الدستور ضد الحكم الباي الفردي، و ضد الاستبداد و تمّ الغاء العبودية في بلادنا، و إرساء قوانين جديدة تخّول للحكم أكثر تعددية، و توفر كذلك للمرأة مكانة إنسانية و اجتماعية، تجعلها عضوا حيّا و فعّالا في المجتمع التونسي.