خلال العشرين سنة الماضية، ظهرت العديد من الكتب التي حاول أصحابها من خلالها إعادة الاعتبار لجامع الزيتونة، مثمنين الدور التربوي والثقافي والمعرفي الذي لعبه- في مختلف أطوار التاريخ- في تثقيف العقول وتنويرها. وليس هذا بالأمر الغريب. فالعديد من كبار العلماء والمفكرين كانوا من طلبة هذا الجامع المعمور، ومنه تخرجوا. يكفي أن نذكر ابن خلدون والإمام ابن عرفة في العصور القديمة، والطاهر الحداد، والطاهر ابن عاشور وابنه الفاضل ابن عاشور وأبا القاسم الشابي وعبد العزيز الثعالبي في العصر الحديث. وكان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة قد أنهى الدور التربوي والتعليمي لجامع الزيتونة عام 1957 لأنه كان يعتقد أن مناهجه التعليمية تتعارض تعارضا تاما مع مشروعه التحديثي الذي كان يعتمد على الأصول والنماذج الفرنسية خصوصا في ما يتعلق بالإدارة، وشؤون الحكم، والثقافة والتعليم. ويعود عداء بورقيبة لجامع الزيتونة ومشائخه إلى فترة الشباب، وبالتحديد إلى الثلاثينات من القرن الماضي، أي بعد عودته من باريس لممارسة مهنة المحاماة. ففي ذلك الوقت كان بورقيبة- الذي كان يحرص عندما كان طالبا في العاصمة الفرنسية على وضع باقة زهور فوق تمثال معلمه الروحي أوغست كونت في ساحة "السربون"- يعدّ نفسه لأن يكون زعيما سياسيا مهاب الجانب. لذلك شرع حال عودته إلى تونس في دراسة الواقع السياسي والاجتماعي، وفي الاتصال بالنخب والشخصيات السياسية خصوصا تلك التي كانت تنتسب إلى الحزب الدستوري القديم الذي كان أقوى حزب وطني في تلك الفترة. وكان جلّ قادة هذا الحزب من خريجي جامع الزيتونة، ومن شيوخه. وكان أشهر هؤلاء المصلح والمربي الكبير الشيخ عبد العزيز الثعالبي "1874- 1944". ومنذ البداية، كان واضحا أن الرجلين، أي الحبيب بورقيبة وعبد العزيز الثعالبي، على طرفي نقيض. فالأول كان شابا متحمسا، طموحا، يعشق الأدب الفرنسي، والفلسفة الوضعية، ويحفظ عن ظهر قلب أشعار الجمهوري المتنور فيكتور هوغو، ويظهر إعجابا شديدا بالتمدن الغربي. كما أنه كان ماهرا في جدل المؤامرات ضد خصومه. وكان يرى أن استقلال تونس لا بد أن يعالج بمعزل عن قضية الجزائر والمغرب وبقية البلدان العربية والإسلامية. أما الثاني، أي الشيخ عبد العزيز الثعالبي فقد كان متشبعا بمبادئ الإصلاح التي أتى بها كل من عبد الرحمان الكواكبي وجمال الدين الأفغاني وخير الدين باشا التونسي والشيوخ الذين ساندوه في مشروعه الإصلاحي مثل محمود قابادو والشيخ سالم بوحاجب. وكان قد ساح في بلاد المشرق العربي، ودرس أحوال المسلمين في الهند. وعاد إلى تونس وهو شديد التمسك بهويتها العربية الإسلامية. وكان ينظر إلى القضية الوطنية التونسية من خلال قضية العالم العربي- الإسلامي بأسره، والذي كانت جل بلدانه تعيش وقتئذ تحت وطأة الاستعمار والهيمنة. وكان من الطبيعي أن تندلع معارك سياسية حامية بين الزعيم الشاب الحبيب بورقيبة، وبين قادة الحزب الدستوري القديم وفي مقدمتهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي. وقد أفضت هذه المعارك عام 1934 إلى انفصال بورقيبة عن الحزب القديم لينشئ الحزب الحر الدستوري الذي أراده أن يكون منسجما مع أغراضه وأهدافه ومطامحه. وقد لعب هذا الحزب دورا أساسيا في النضال الوطني، وقاد المظاهرات واستطاع أن يكسب ثقة الجماهير العريضة من عمال وفلاحين وقبائل. كما استطاع أن يحصل على تأييد النخبة المثقفة من طلبة وأساتذة ومحامين وأطباء وغيرهم. وخلال فترة النضال الوطني غضت الكتل السياسية المنتمية إلى الحزب الحر الدستوري الطرف عن التناقضات التي تشقها، وعن الصراعات القائمة بينها. لذا لم يكن من الغريب أن يناضل خريجو الجامعات الفرنسية المتشبعون بمبادئ التمدن الغربي مثل بورقيبة جنبا إلى جنب مع طلبة جامع الزيتونة وشيوخه. غير أن الصراع العنيف الذي نشب بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف بشأن قضية الاستقلال كشف عن هشاشة التحالف القائم بين الكتل السياسية والفكرية، مظهرا بجلاء مختلف التناقضات والصراعات التي ظلت كامنة تحت الرماد طوال سنوات النضال الوطني. كما كشف ذلك الصراع أن هناك تيارين أساسيين داخل النخب السياسية والفكرية في تونس: التيار الأول يمثله صالح بن يوسف وهو يعتمد في رؤيته الإصلاحية والتحديثية للمجتمع التونسي على التراث الفكري العربي- الإسلامي وعلى أفكار الزعماء القدامى من أمثال الشيخ عبد العزيز الثعالبي. أما التيار الثاني الذي يتزعمه بورقيبة فيدعو إلى إصلاح وتحديث المجتمع حسب الطرق والمناهج التي ذكرناها سابقا. وبالرغم من أن المعركة حسمت لصالح التيار الثاني فإن بورقيبة شرع حال تسلمه شؤون البلاد في تطبيق سياسة "انتقامية" ضد أعدائه وخصومه. وكان شيوخ جامع الزيتونة وطلبته وخريجوه من ضحايا هذه السياسة. فقد اعتبرهم بورقيبة أنصارا لخصمه اللدود صالح بن يوسف، وبالتالي أعداء ألداء لمشروعه التحديثي. ولكي يقطع الشجرة من جذورها، بادر بإغلاق جامع الزيتونة الذي ظل لقرون عديدة منارة للعلم والمعرفة، ليس في تونس وحدها، وإنما في العالم العربي- الإسلامي برمته. وفي كتابه "مواصفات البيئة الزيتونية وخصائصها 1910-1940" يشير مؤلفه الدكتورمختار العياشي إلى أن العلامة عبد الرحمان بن خلدون كان يعتبر جامع الزيتونة الذي فيه درس، ومنه تخرج أهم الجامعات في الغرب الإسلامي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وبعد ذلك، شهد جامع الزيتونة، شأنه في ذلك شأن جل الجامعات في العالم العربي- الإسلامي انحطاطا كبيرا، وانتفت منه روح الاجتهاد والبحث، ولم يعد فيه غير شيوخ كانوا يلقون دروسهم وهم نصف نيام، وطلبة يختنقون بغبار كتبهم الصفراء. وفي عام 1842 اهتم الأمير أحمد باي بجامع الزيتونة، وقدم مشروعا لإصلاح الدروس والمناهج. وفي عام 1876 أصدر الوزير خير الدين باشا التونسي مرسوما يقضي بتجديد مناهج التعليم داخل جامع الزيتونة. غير أن هذا المرسوم لم ينفذ كما هو حال ما سبقه من المراسيم. وهكذا ظل الوضع على ما هو عليه. ثم سعت السلطات الاستعمارية الفرنسية إلى تحويل جامع الزيتونة إلى مؤسسة تعليمية تتناسب في منهجها مع المنهج التربوي العصري، غير أن معارضة كبار الشيوخ والأعيان حالت دون ذلك. وفي شهر أفريل/أبريل 1910، شن الطلبة الزيتونيون إضرابا عاما طالبوا من خلاله بضرورة تجديد برامج التدريس. وقد لاقى إضرابهم رفضا وصدودا من قبل بعض الشيوخ المتزمتين، غير أن النخبة المستنيرة بقيادة الزعيم الوطني الكبير علي باش حامبة ساندت الإضراب وأشادت بمشروعه المطالب بإصلاح المناهج التعليمية. وقد استمرت إضرابات الطلبة حتى عام 1912. وبعد مصادمات كثيرة تخللتها إيقافات ومحاكمات للزعماء والطلبة، رضخت السلطات لبعض المطالب وأيدت فكرة إعادة تنظيم التعليم الزيتوني. وعلينا أن نشير إلى أن الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أشد المتحمسين لمشروع خير الدين باشا الإصلاحي، والذي كان يحظى بتقدير كبير داخل جامع الزيتونة، ساند هو أيضا الإضراب المذكور، ووقف إلى جانب الطلبة المطالبين بإصلاح التعليم الزيتوني. بعد الحرب العالمية الأولى، عرفت البلاد التونسية أحداثا ثقافية وسياسية بارزة وكثر الجدل في الصحافة الوطنية، وبرزت انتلجنسيا جديدة، منفتحة على الحضارة الغربية فحركت ما كان ساكنا، وأشعلت النار في ما كان خامدا، وواجهت بشدة الاستعمار وعملاءه محدثة تأثيرا كبيرا في طلبة جامع الزيتونة الذين سرعان ما تظاهروا من جديد مطالبين بإصلاحات أخرى في المناهج التعليمية. وفي هذا الباب يتعرض الدكتور الطاهر العياشي للظروف والملابسات التي أحاطت بالحركة الطلابية في تلك الفترة، موردا ردود فعل السلطة، وشيوخ جامع الزيتونة، وغيرهم. ثم يتعرض بعد ذلك، وبنفس الدقة، للمظاهرات التي شنها الطلبة الزيتونيون في الثلاثينات من القرن الماضي، ولعلاقتها بما كانت تشهده البلاد من أحداث على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي. وفي القسم الثاني من الكتاب، يدرس الدكتور مختار العياشي خصائص البيئة الزيتونية ويقول إن الطلبة الزيتونيين كانوا يمثلون في الواقع "الطبقة الثقافية الكادحة"، ويعكسون بحكم منشئهم "مشاغل البلاد العميقة وضميرها الحي". وبالرغم من أن الحركة الوطنية عرفت مطلع الثلاثينات انشقاقا كان له دور كبير في مختلف الأوساط الوطنية، فإن الحركة الطلابية الزيتونية ظلت صلبة ومتماسكة، بل إن عناصرها استغلت ذلك الحدث، أي حدث الانشقاق، لفائدتها، وأثارت بشأنه جدلا عميقا بخصوص مسائل تتصل بحاضر البلاد ومستقبلها. وفي باب آخر من الكتاب، يدرس الأستاذ العياشي أحوال الطلبة الزيتونيين المادية، وظروف عيشهم من سكن وأكل وغير ذلك. وهو يقول في هذا الشأن إن الطلبة الزتونيين كانوا يسكنون غرفا شبيهة بالجحور، فيها تنعدم أو تكاد مقومات الصحة والنظافة. وقد وصف المصلح الكبير الطاهر الحداد هذه الأوضاع قائلا "أما صحن مدارس سكنى الطلبة، فإن فواضل المطبخ والمياه قد تبقى ليومين أولثلاثة ملطخة بدون أن ترفع لأن المكلف الذي يتقاضى في الشهر من إدارة المعارف ما يزيد على الأربعين فرنكا، يزهد أن يعمل باستمرار في نظافة المدرسة". لقد كان بورقيبة قاسيا مع جامع الزيتونة إذ جرده بقرار واحد من تاريخه العريق في الرتبية والتعليم. وبقرار واحد أيضا جعل كل المنتسبين إليه من طلبة وشيوخ، معادين لمشروعه التحديثي ناسيا أن البعض من هؤلاء من أمثال الشيخ محمود قبادو والشيخ سالم بوحاجب والشيخ الطاهر ابن عاشور وابنه الفاضل ابن عاشور كانوا من أعمدة النهضة التونسية. كما نسي بورقيبة أيضا أن الطاهر الحداد وأبا القاسم الشابي كانا من رواد الحداثة الفكرية والثقافية في بلادنا العرب اونلاين