في البداية… تحية إلى الجميع… وكل عام وأنتم بخير رمضان شهر الخير واليمن والبركة والرحمة والصبر.. ها هو يحل بيننا… فمرحبا به ضيفا كريما عزيزا على قلوبنا… رمضان شهر الصوم… شهر مغالبة النفس والشهوة… شهر الدربة والمران على السمو بالنفس والروح وكبح جماح الرغبة وكسر الأنانية عند بني آدم و شهر تهذيب الأخلاق… شهر رمضان … مدرسة الإسلام الكبرى… ففيه يتعلم المسلم كيف يروض جوارحه وكيف يخضعها لسلطان إرادته… إذا فرمضان ليس عقابا جسديا كما يريد أن يروج له البعض… وإنما هو سمو بالروح الساكنة بين جنبات الجسد الجامح… إنه الشهر الذي يستطيع فيه المسلم أن يتلمس سطوة الروح على الجسد… ويقترب من استكشاف كنه الروح التي تسكن بين جنبيه ولكنه لا يقدر على إدراك ماهيتها… الروح؟؟؟ ما هي الروح؟؟؟ إنها تلك القوة التي تجعلك تتجاوز حدود قدراتك فتروض جوارحك وتجعلك تنفلت ولو لفترة وجيزة من ربقة الجسم والبدن… فتدرك أنك لست مجرد كائن عضوي فيزيولوجي همه الوحيد تحقيق الاكتفاء والإشباع… لا … بل إن هناك مكونا آخر غير مرئي وغير معروف وغير محسوس يتوقظ خلال هذا الشهر الكريم ليعبر هو أيضا عن وجوده وتوقه هو أيضا للإشباع والاكتمال…. ولكن هل أن الجميع يمتلكون القدرات التي تجعلهم يتنعمون ويتلذذون وينتشون بذلك السكون الروحي العظيم وذلك السفر البعيد وذلك الإبحار السحيق في أغوار العالم اللامادي … عالم الصفاء والنقاء …. فكم من صائم لم ينل من صومه إلا الجوع والعطش…ولم ذاك؟؟؟ لأن ذلك الصائم … لم يدرك مقاصد الصوم و لا خصائصه ولا كنهه ولا لبه و لا رونقه فالصوم نشوة للروح … و مدرسة الجسد… ومن يرى في الصوم انقطاعا عن شهوات الجسد فما أردك القصد منه وما كان من الصائمين… فلم ينل من انقطاعه عن الطعام والشراب غير التعب… لأن من يبحر في ملكوت شهر الصيام ومن يسلم قياده إلا نفحاته الروحانية وإشراقاته النورانية … لا يدركه سغب ولا يصيبه تعب… بل على العكس من ذلك إنه يشعر أنه تحول (انتقل) في المكان والزمان … فإيقاع اليوم لم يعد هو نفسه وعلاقته مع ما يحيط به لم تعد هي نفسها… بل إنه هو في حد ذاته لم يعد كما كان قبل شهر الصوم… لقد رقت مشاعره إلى حد كبير… حتى أنه أصبح لا يرى فيما حوله إلا الجمال … والطيبة .. وحتى إن رأى أو لقي ما لا يسره فإنه لا يقابله إلا بتذكير نفسه أنه في حالة عبادة واتصال وأنه لن يرد الفعل إلا بما ينم عن رقة نفسه وسمو روحه وهمته..فلا يصدر منه إلا قول … اللهم إني صائم… شهر رمضان هو شهر العمل…. والصائمون فقط هم من يواصلون العمل والبذل بنفس القدر الذي يؤدون به عملهم وهم مفطرون… لأنهم يعرفون أن العمل عبادة أيضا… وأنه لا مجال للتقاعس في أداء الواجب … لأن ذلك مفسد للصوم… والصائمون فقط هم من يكتفون بالقليل في شهر الصوم… فلا لهفة ولا نهم ولا تخمة ولا تبذير…. لأن ذلك هو عكس ما يهدف الصوم إلى تزكيته في النفوس… فالصوم ليس عبوسا…والصوم ليس تقاعسا… والصوم ليس تطيرا… والصوم ليس لهفة وتكالبا …. إن ما دعاني لكتابة هذه الأسطر هو ما رأيته اليوم في أحد المغازات الكبرى من لهفة لم أرى مثيلا لها (وأنا في العقد الخامس من غمري ) من إقبال على الشراء وعلى تكديس المواد الغذائية على اختلاف أنواعها مما هو ضروري أو كمالي أو حتى غير هذا وذاك… وكأن الناس مقبلة على مجاعة أو قحط أو حرب…. أخيرا أقول … اللهم اجعل قلوبنا عامرة بالقناعة … واجعل لهفتنا في الإقبال عليك… واجعل ثقتنا غير منقطعة فيك وفي رحمتك وعفوك … ولا تحرمنا رؤيتك وجهك الكريم … فهي منتهى آمالنا وغاية مردنا … وبارك لنا في شهرنا وأعده علينا سنين عديدة باليمن والبركة والقناعة … وفرج كربة أمتنا … والطف بنا فإنه لا سند ولا نصير لنا سواك …فقد تكالبت علينا الأمم وضاعت ريحنا وتقطعت بنا السبل .. ولم يبق لنا إلا سبيلك يا أرحم الراحمين فلا تردنا عن بابك خائبين. كل عام وأنتم بألف خير.