مرّ من رمضان نصفه، ولعلّها فرصة ليرى الإنسان حصيلة أعماله خلال هذا الشهر الذي قال عنه رسول الله إنه «ربيع الإيمان». رمضان ليس فقط الامتناع عن الأكل والشراب «فربّ صائم ليس له حظّ من صومه إلا الجوع والعطش»(1) وإنما رمضان هو أكبر من ذلك بكثير. إنه على الصعيد الفردي، زمن الصراع الداخلي للانتصار على جميع مشاعر الحيرة والخوف التي تحاصر النفس في هذه الأوقات المضطربة التي تسيطر عليها الشكوك والتقلّبات. رمضان يوفّر فرصة إعادة إمداد وعينا المستنفد بسبب النسيان والإهمال، وتزويده بشُحن الإيمان والأمل. رمضان يعيد للرّوح هدوءها الداخلي بعد أن يحرّر «الأنا» المسجونة إلى العادات اليومية والحاجات الماديّة التي لا تنتهي. إنها قطيعة حميدة ولو مؤقّتة مع إملاءات البدن، وانتصار على دكتاتورية الهيمنة المادية يحققها الصائم بفضل جهاد النفس والاستعانة بالذّكر وقراءة القرآن أسوة بنبينا محمد (صلعم) الذي لا ينقطع عن التلاوة حتى أنّ زوجته عائشة أم المؤمنين عرفته بقولتها الشهيرة: «كان خلُقُه القرآن». بالصّيام يُترجم المسلم في واقعه اليومي المعيش قدرته على الصّبر. والصّبر هو جوهر فريضة الصيام: صبر على طاعة الله، وصبر على ما حرّم الله من الشهوات والرغبات، وصبر على ما يصادف الصائم من إحساس بالجوع والعطش والتّعب. فالصّوم نصف الصبر و«الصبر نصف الإيمان». وحتى يأخذ شهر رمضان كل أبعاده وجب أن يكون الصيام عن الحاجيات المادية مطابقا للصيام النفساني فيتجنّب الصائم الغضب والكذب والغيبة. قال رسول الله (صلعم): «من لم يدع قول الزّور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» (أخرجه البخاري). من هذا المنطلق يعطي شهر رمضان للصائم فرصة لفتح حوار هادئ وصريح مع نفسه والقيام بعملية استكشاف لذاته الداخلية وينظر في مرآة ضميره ليقوم بعملية تقييمية لتحديد أوجه قصوره، ثم تقويميّة لإصلاح أخطائه وتصحيح عيوبه. وكيف يمكن للصائم أن ينسى أو يتناسى من يجوعون من إخوانه في الدين وفي الانسانية وقد جرّب معنى الجوع والعطش؟ يذكر عن النبي يوسف عليه السلام الذي مكّن الله له في الأرض وأمّنه فرعون على خزائن مصر، أنه كان يصوم كثيرا. سُئل لماذا تصوم يا نبي اللّه فأجاب: «أخاف لو شبعت أن أنسى جوع الفقراء». ولقد كان الرسول محمد (صلعم) يضاعف البذل والعطاء في رمضان حتى لا يكاد يبقى عنده شيء. عن عبد الله بن عباس قال: «كان النبي أجود النّاس وأجود ما يكون في رمضان. أجود بالخير من الرّيح المرسلة». مرّ من رمضان نصفه ولا بدّ للصائم من التوقّف لحظة للتحاور مع ذاته الداخليّة عن معنى صيامه. فإن لم يجد معنى فعليه أن ينتبه للبحث عن هذا المعنى بين استذكار اللّه واستحضار الجَوعَى فيترفّع بصيامه من العباديّة الحرفيّة إلى استكشاف إنسانيته وما وضع فيها اللّه من سموّ كرم. قال تعالى: «ولقد كرّمنا بني آدم وحمّلناهم في البرّ والبحر»(2). 1) حديث نبوي رواه أبو هريرة 2) سورة الاسراء أية 17