إنْ صدق رئيس حركة النهضة في كلمة فهي هذه : السلطة عامل تهرئة , والفرْق واضح وبيّن بيْن من يُلقي الخطابات ومن يمارس الحكم . شيخ النهضة كان يقول ويردّد دائما إن السلفية تذكّره بشبابه وإن السلفيين هم أبناؤنا ولم يأتوا من كوكب آخر ووجب الحوار معهم وجلبهم لدائرة الممارسة الديمقراطية ردّ الجماعة كان واضحا وجليّا : الديمقراطية والانتخابات كُفْر وزندقة , ولا شكلَ لنظام الحكم غير الخلافة وولاية أمير المؤمنين , إنْ لم يكن بالإقْناع فبحدِّ السيف صَبِرَ الشيخ ومعاونوه في النهضة على الجماعة , حتّى جاءت “غزوة السّفارة” وحصل ما حصل ليكتشفوا طوباوية التعامل مع من كان شعارُه “اللّي فيه طبّة عمرها ما تتخبّى” , وليقفوا على حقيقة أن الأمر تجاوز هذه المرّة السيطرة على المساجد بالقوّة والخروج إلى الشوارع للتظاهر بمناسبة وبدونها , وفرْض طقوس ولباس على النّساء والعباد , وتعنيف وترهيب من يُخالفونهم الرأي إنْ كان لهم رأي . هذه المرّة يتعلّق الأمر بأمن سفارة دولة أجنبية : ومن تكون ؟ سفارة سيّدة العالم وعملاقه الأوّل أمريكا , فمعها لا يُفيد الكذب و”التبلْعيط” وقول الشيء وضدّه , بل ولا يُفيد أيضا الاعتذار سواء كان حكوميا أو حزبيا أمريكا تريد ببساطة محاسبة المسؤولين عن الاعتداء على سفارتها تخطيطا وتنفيذا وإلاّ فالعصا الأمريكية الشهيرة جاهزة للضرب في السياسة والدبلوماسية والاقتصاد والاستثمار والسياحة والمساعدات والقروض مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية المكلّفة بشؤون الشرق الأدنى كانت بيْننا منذ أيام وفي حقيبتها قائمة اسمية قدّمتها للحكومة تحتوي على أسماء 700 شخص متورّط في الاعتداء على سفارة بلادها . والسؤال كيف ستتصرّف حكومة النهضة وهي التي قلّلت من شأن ما حدث بل وأرجعه شيخُها إلى خانة التقصير الأمني الذي لن يتكرّر ؟ وهل تقرأ دلالة قبول ليبيا بدخول فيلق كبير من أعوان مكتب التحقيقات الفدارلي الأمريكي FBI للتحقيق في ظروف مصرع أربعة أمريكيين على رأسهم السفير في القنصلية الأمريكية ببنغازي أواسط الشهر الماضي ؟ ما رشح من أخبار , رسمية كانت أو سرّية , تؤكد أن النهضة ليست على استعداد للتضحية بالتيار السلفي مخزونها الانتخابي والدّعائي في المساجد وقد قالها نور الدين البحيري صراحة في حديث صحفي : من يعوّل علينا بالتسحّر بالسلفيين نقول لهم هيهات بل إن الشيخ نفسه وبعد حديثه الشهير لوكالة فرانس براس الذي اعتبر فيه السلفية الجهادية ليست خطرا على النهضة فقط بل على كامل البلاد سارع للتصحيح مدّعيا أن كلامه وقع إخراجه من سياقه والمتأمّل في المعالجة الأمنية لتبعات “غزوة السفارة” يلاحظ حتما كيف انقطع الحديث عن الرأس المدبّر وزعيم تنظيم أنصار الشريعة المدعو “أبو عياض” بعد محاولات مشكوكٍ في صحّتها للقبض عليه , واكتفت حملة الإيقافات على بضعة أسماء تولّى حاكم التحقيق الإفراج عن البعض منها لعدم “كفاية الأدلّة” والمدهش في كل هذا هو العودة لتكتيك التورية والنزول تحت الأرض من قبل أنصار أبو عياض هذه الأيام مَثَلُهم في ذلك صراصير البالوعات التي تقفز إلى السّطح في الظلام وحين “يْباتْ الحسّ” , وتجثم في أماكنها في الوضعيّة المُعاكسة , إذْ خَفَتَ حضورهم مؤخرا على الساحة سواء في الشوارع أو في وسائل الإعلام, ساعدهم في ذلك خطاب سياسي نهضوي حوّل وجهة أنظار اهتمام المشهد السياسي إلى الخطر “التجمعي” المزعوم ممثلا في حركة نداء تونس عوضا عن الخطر الحقيقي والفعلي الذي يهدّد الجميع وهو الخطر السلفي وقد علّمنا التاريخ منذ القِدم وتجارب السّاسة والسياسيين في كل الأزمنة والأمْكنة أن الذي لا يختار توقيته جيّدا ولا يُدرك مكامن ضعفه وقوّته ومكامن ضعف وقوّة خصمه أيضا ويُراهن على الجواد الخطأ وفي الملعب الخطأ سيخسر الرّهان حتما. وقديما قال الأوّلون اللّي ما تتْعشاش بيه يتسحّر بيك …