عمال بشركة منتصبة بصحراء تطاوين يحتجون ويطالبون بإلغاء المناولة    سليانة: إستئناف أشغال مركز الصحة الأساسية بمنطقة المقاربة بسليانة الجنوبية    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    مفزع: استشهاد أكثر من 100 صحفي خلال ستة أشهر في قطاع غزة..    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الثلاثاء 23 أفريل 2024    محمد الكوكي: هدفنا هو التأهل للمشاركة إفريقيا مع نهاية الموسم الحالي (فيديو)    غدًا طقس شتوي 100% مع أمطار غزيرة ب6 ولايات    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    سوسة: تعرض شاب لصعقة كهربائية أثناء تسلقه عمود كهربائي ذو ضغط عالي..    عاجل/ تحذير من بيض رخيص قد يحمل فيروس أنفلونزا الطيور..    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ماذا يحدث؟..    مترشحة للرئاسة تطرح استفتاء للشعب حول تعدد الزوجات في تونس..#خبر_عاجل    لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    طقس اليوم: أمطار في هذه المناطق وانخفاض في درجات الحرارة    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    الأمم المتحدة: آسيا أكثر مناطق العالم تضرراً من كوارث المناخ ب2023    اتحاد الشغل بجبنيانة والعامرة يهدد بالإضراب العام    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    أراوخو يكشف عن آخر تطورات أزمته مع غوندوغان    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البنك التونسي السعودي ... الترفيع في رأس المال ب100 مليون دينار    في اختتام المهرجان الدولي «إيتيكات» بسوسة.. شعراء وفنانون عرب بصوت واحد: «صامدون حتى النصر»    هذه أبرز مخرجات الاجتماع التشاوري الأول بين رؤساء تونس والجزائر وليبيا    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    المنستير.. الاحتفاظ بمدير مدرسة إعدادية وفتح بحث ضده بشبهة التحرش الجنسي    الإعلان عن تأسيس المجمع المهني للصناعة السينمائية لمنظمة الأعراف "كونكت"    بوعرقوب: القبض على 4 أشخاص كانوا بصدد سرقة أسلاك نحاسية خاصة بشركة عمومية    بداية من يوم غد: أمطار غزيرة وانخفاض في درجات الحرارة    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 %    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    حليب أطفال متّهم بتدمير صحة الأطفال في الدول الفقيرة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    رئيس غرفة القصّابين عن أسعار علّوش العيد: ''600 دينار تجيب دندونة مش علّوش''    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    في سابقة غريبة: رصد حالة إصابة بكورونا استمرت 613 يوماً..!    أولا وأخيرا..الكل ضد الكل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دور أئمّة وخُطباء المساجد في تحقيق الأمن الفكري والانتماء الوطني بقلم الاستاذ سليم ابن الشيخ
نشر في صحفيو صفاقس يوم 05 - 07 - 2017

الحمدُ للّه حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد،
لقد ظهر في السّنوات الأخيرة فكر منحرف يتّخذ التطرّف نهجا لفهم النصوص الدينية وهو ما أدّى إلى نشأة الإرهاب الذي أصبح داءً ينخر المجتمعات ويهدّدها في وجودها وكينونتها، وهو ما جعل أمر تصحيح هذا الفكر المنحرف وبيان خطورته ونشر الفهم الصحيح للدين من أوكد ما ينبغي على المصلحين العناية به وإيلائه الأهمية القصوى في برامج الوزارات والمؤسّسات والجامعات، ومن أهمّ الوزارات المعنية بهذا الموضوع وزارات الشؤون الدينية بعالمنا العربي والإسلامي باعتبارها صمام الأمان في حماية المجتمعات من آفتي التطرّف والإرهاب بما تبذله من جهود وما تضبطه من برامج دعوية وفكرية إسلامية عبر الوسائط المختلفة والتي من أهمها الخطاب الديني والإعلامي الإسلامي الذي يؤثّثه الأئمة الخطباء والدعاة الذين يقومون بدور أساسي في التبصير بقيم الإسلام السمحة ومبادئه الزكية بما يُسهم في الحفاظ على سلامة المجتمع ويعزّز الأمن داخله، وهي المسألة الأساسية التي سأحاول من خلال هذه الورقة تحليلها وبيان أهمية دور الأئمة والخطباء في تحقيق الأمن بمختلف أشكاله.
مقدّمة:
أوضح القرآن الكريم أهمية الأمن في قول الله تعالى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" (الأنعام 82). يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أنّ هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة" (ابن كثير: 1420، ص 294).
حيثُ يُعدّ الأمن من العذاب في الحياة الآخرة غاية ونعمة عظيمة يبشّر الله بها عباده الصّالحين، وفي الحياة الدنيا يعدّ استتباب الأمن في حياة الأفراد والشعوب ذو أهمية خاصة أولاها الإسلام ما تستحقه من اهتمام وتقدير إذ كانت نعمة الأمن هي المطلب الأوّل الذي طلبه سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسّلام من ربّه في قوله تعالى: "وإذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات" (البقرة 126)، كما بيّن الله سبحانه وتعالى أن نعمة الأمن إحدى النعمتين اللتين امتنّ بهما على قريش، قال عزّ من قائل: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" (قريش 1-4).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من أصبح منكم معافا في جسده، آمنا في سربه، عنده قُوت يومه فكأنّما حيزت له الدنيا" (سنن ابن ماجه ص 2729) فرتّب الحاجات: الصحّة أوّلا، ووضع الأمن ثانيا، والطّعام والشراب ثالثا، وهذه هي الحاجات الأساسية لحياة الفرد والمجتمع، ولذلك فإنّ الأمن من أهم أسباب الحفاظ على الضرورات الخمس وهي الدّين والنّفس والعقل والعرض والمال التي هي مقاصد الشريعة الإسلامية.
وقد بيّن علم النّفس الحديث أنّ الحاجة إلى الأمن تعدّ من الأساسيات للإنسان، إذا فقدها اختلّ توازنه واضطربت شخصيته، وحدثت لديه بعض الأمراض النفسية والعضوية، وعندما يفقد الإنسان أمنه، يفقد ثقته بنفسه ويفقد ثقته بالآخرين. والمجتمع الإسلامي اليوم يعاني كثيرا من ويلات اختلال الأمن الفكري خصوصا الناتجة عن الأفكار الدخيلة، وعن تطرف بعض المحسوبين على العلم والغلوّ والتشدّد محصلة لوارث التكفير المؤدّية إلى التفجير والقتل. وأيضا السب والتفسيق والتجريح والتهوين من شأن أولي الأمر في البلاد الإسلامية، وهذا الوضع خطير جدا على المجتمع وعلى الإسلام والمسلمين وعلى الدعوة والدعاة. وهذا الفكر يحتاج إلى معالجة علمية تدرس وتحاول التعرف على الأسباب المؤدية إلى مثل هذه الظاهرة وبحث سبل معالجتها معالجة ناجحة وناجعة.
وسنحاول في هذه الورقة، مستعينين بالله تعالى، الإجابة عن الأسئلة التالية:
1)- ما هو دور الأئمة في تحقيق الانسجام والتقارب بين أفراد المجتمع وحماية الشباب من التطرّف؟
2)- ما دور الأئمة في الاستفادة من اختلاف القدرات العقلية والعلمية ونبذ الخلاف؟
3)- ما هو دور الأئمة في تحقيق الأمن الفكري من خلال تكريس فهم خاصية التسامح والوسطية والرحمة والتيسير ورفع الحرج عن الأمّة؟
4)- دور الأئمة في إبراز خطورة التطرّف الفكري على الفرد والمجتمع والدعوة والدعاة؟
المبحث الأوّل: أهميّة الأمن الفكري ودوره في تحقيق السكينة والانسجام في المجتمع
مع أنّ الأمن بمفهومه الشّامل مطلب رئيس لكلّ أمّة، إذ هو الركيزة الأساسية لاستقرارها واطمئنانها، إلا أنّ هناك نوعا يُعدّ أهم أنواعه وأخطرها بما له من الصلة الوثيقة بهوية الأمة وشخصيتها الحضارية، حيث لا غنى لها عنه، ولا قيمة للحياة بدونه، فهو لبّ الأمن وركيزته الكبرى، ذلكم هو الأمن الفكري، فإذا اطمأنّ الناس على ما عندهم من أصول وثوابت وأمنوا على ما لديهم من قيم ومُثل ومبادئ فقد تحقّق لهم الأمن في أسمى صوره وأجلى معانيه وأنبل مراميه، وإذا تلوثت أفكارهم بمبادئ وافدة ومناهج دخيلة وأفكار منحرفة وثقافات مستوردة فقد جاس الخوف خلال ديارهم وحلّ بين ظهرانيهم ذلك الخوف المعنوي الذي يهدّد كيانهم ويقضي على مقوّمات بقائهم. لذلك حرصت شريعتنا الغرّاء على تعزيز جانب الأمن الفكري لدى الأفراد والمجتمع والأمّة، وكان لها السّبقُ في ذلك عن طريق تحقيق وسائل متعدّدة أسهمت في حمايته والحفاظ عليه من كلّ قرصنة فكرية أو سمسرة ثقافية تهزّ مبادئه أو تمسّ ثوابته.
وهنا نأتي إلى دور الأئمّة والخطباء في توضيح أهمية هذا الموضوع، باعتبار أنّ الأئمّة يتبوّؤون دورا قياديا وتعبّديا لا يتوفر لغيرهم، يضطلعون من خلاله بمسؤوليات عظيمة ومهام جسيمة، كيف لا؟ وهم الذين ارتضاهم الناس أئمة لهم في صلواتهم.
ويتمثّل دور الأئمة في هذا المجال خصوصا في:
-أ- تحقيق الانسجام ووحدة الصفّ:
فللإمام الخطيب رسالة في تحقيق وحدة المجتمع وتعزيز قيم التآخي والتراحم والتكافل بين أفراده، ونبذ كلّ أشكال العداوة والبغضاء والخلاف، ويساعده على هذا الدور الهام القيام بواجب التوعية الموضحة لأهمية الأمن الفكري على المجتمع، وذلك بنشر الألفة والمحبّة، وبيان أهمية فريضة الأخوة بين المنتسبين لهذا الدّين، وصفة التراحم التي بها يرحمهم الرحمان جلّ جلاله، والتسابق على التكافل وعلى سد حاجة المحتاج، فالعلماء إذا أخلصوا ونصحوا وتحمّلوا يسيرا من المشقّة في مواجهة الخلق بالصبر والحلم والأناة وعدم الاكتراث بالمظهر الذي يخصّ الشخص والنفس، فإنهم بذلك يتمكّنون من بث روح الأخوة، والتّقريب بين القلوب، والتأليف بين المتخاصمين والمتنازعين ومن السعي في الإصلاح بينهم. يقول الله تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما" (النساء 114) وقال سبحانه: "إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم تُرحمون" (الحجرات 10).
ولقد تكررت في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة، الدعوة إلى الأخوة والمحبة وإشاعتها بين أفراد الأمة، والترغيب في السعي لقضاء حاجة المحتاج. قال الله تعالى: "ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون" (الحشر 9) وجاء في الحديث: "ثلاث مَنْ كُنّ فيه فقد وُقيَ شحّ نفسه: من أدى الزكاة، وقرى الضّيف، وأعطى في النّائبة" (فتح القدير للمناوي 1/145)، فإقراء الضيف والإعطاء في النائبة أساس في نشر التكافل والتراحم في المجتمع.
-ب- حماية شباب المجتمع:
وممّا ينبغي للأئمة الاهتمام به والانتباه إليه من أجل تحقيق السكينة المطلوبة في المجتمع، أنّ شباب المسلمين مطالبون بأن يكونوا أصحاب إيمان قوي وعقيدة صحيحة سليمة من الانحراف، وبأن يكونوا أيضا أصحاب عقول سليمة وفكر مستقيم وذلك بالإقبال على تعلّم العلم النافع الذي يكوّن شخصياتهم فكريا وثقافيا، ومن هنا كان دور التوجيه والإرشاد مهمّا ومفيدا في حث الشباب على طلب العلم والاستزادة منه والسعي في تحصيله عملا بقول النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وسلّم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم" (ابن ماجه، السنن 1/53). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "تعلّموا العلم، فإنّ تعلّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة" (الترغيب والترهيب للمنذري، 1/96).
وتذكّر السيرة النبوية حرصه صلّى الله عليه وسلّم على تعليم أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، فحينما أتيحت له فرصة تعليمهم الكتابة لم يدَعها، وذلك في غزوة بدر حيث كان بعض أسرى قريش ممّن يعرفون الكتابة فجعل فداء الواحد منهم أن يعلّم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة (السيرة النبوية لأبي الحسن الفدوي، ص 195). بل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى بعض أصحابه أن يتعلّم بعض اللغات الأخرى حتى يمكنه تبليغ الدعوة إلى كلّ مكان، فكان عنده من يُتقن الرومية والفارسية والحبشية، ولكن لم يكن عنده من يعرف السريانية أو العبرانية التي كان يكتب بها اليهود، فأمر كاتبه زيد ابن ثابت رضي الله عنه أن يتعلّم هذه اللّغة، فتعلّمها في نحو خمسة عشر يوما (السيرة النبوية للندوي ص 196).
ولكن السّؤال أيّ علم؟ إذ العلم الواجب على المسلم أن يتعلّمه هو ما لا بدّ منه في دينه ودنياه، أمّا دينه فلا بد أن يتعلّم العلوم التي يعرف بها عقيدته معرفة يقينية وما تصحّ به عبادته ظاهرا بأن يكون على الصورة المشروعة وباطنا بأن تتوافر فيها النية الخالصة لله تعالى: ويتعلم كذلك من العلوم ما يزكّي به نفسه ويطهّر قلبه بأن يعرف الفضائل ويتخلّق بها، ويعرف الرذائل ليتجنبها ويتوقاها (بهجة النفوس لابن أبي جمرة 1/112)، على أنّ هذا القدر يمثّل الحدّ الأدنى ثم هو يتّسع ويزداد إلى آفاق أرحب من العلوم الصحيحة والآداب وسائر فنون المعارف وفروعها ممّا يحتاجه المجتمع الإسلامي لتحقيق نمائه وتقدمه ورقيّه كالطب وعلوم الاقتصاد والإعلامية والذرة وغيرها، فالعصر الذي نعيشه يفرض علينا وعلى شبابنا الأخذ بأسباب العلوم الحديثة واللغات المختلفة من أجل خير أمتنا وأمنها واستقرارها، بعيدا عن بعض الشعارات التي أصبحنا نلاحظها من حين لآخر عند شبابنا من أنّ هذه العلوم قد جاءتنا من الغرب "الكافر" وأنه ينبغي نبذ كلّ وافد علينا من هذا الغرب بدعاوي تنمّ عن جهل بالإسلام وبحركة التاريخ. هذا وإنّ أوكد ما ينبغي حماية الشباب المسلم منه حفاظا على أمن المجتمع، تحذيرهم من فتنة التكفير التي تعتبر من أخطر النكبات التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر، والتكفير: هو الحكم بالكفر على شخص معيّن أو على طائفة أو فرقة من الفرق (موقف علماء العقيدة من ظاهرة التكفير في الإسلام لقدور أحمد الثامر، مجلة الباحث العلمي عدد 17 صنعاء).
ولقد حذّر الرسول صلّى الله عليه وسلّم من تكفير المسلمين فقال: "أيّما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" (البخاري، الصحيح 7/493)، بل إنّ تكفير المؤمن كقتله، فعن ثابت ابن الضحاك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "من لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله" (رواه البخاري حديث عدد 5700) والعجيب أنّ البعض يكفّر دون أي سبب علما بأنّ الأصل في المسلم أن يُحسن الظنّ بأخيه، قال الإمام مالك رحمه الله: "لو احتمل المرء الكفر من تسع وتسعين وجه، واحتمل الإيمان من وجه واحد، لحملته على الإيمان تحسينا للظنّ بالمسلم" (المعرفة والتاريخ ليعقوب الفسوي ص 118).
المبحث الثاني: ثمار نشر ثقافة الاختلاف
من ثمار نشر ثقافة الاختلاف ما يلي:
– الرّحمة بالعالمين: لأنّ العقول والطباع مختلفة، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ولذا كان القول المشهور: اختلاف الفقهاء رحمة.
– ثقافة الاختلاف تُبقي على حركة الاجتهاد، لتظل حركة الاجتهاد متجددة ومستمرّة.
– ثقافة الاختلاف الإسلامي تحافظ على السلم الاجتماعي، فقد عاش المسلمون في ظلّ المدارس الفقهية المختلفة ولم يكن هناك تعصّب لرأي أو فكر، ولذلك فإنّ كلّ آراء الفقهاء تدور حول هذه العبارة (إن صحّ الحديث فهو مذهبي).
ومن هذا المنطلق، فإنّه يقع على الأئمة دور هام في ترسيخ فكرة الاختلاف بداية من الخلق ووصولا إلى أقوالنا وأفعالنا، ومن المهم جدّا تدريس رأي الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما قال: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" فإذا أخذنا هذا في عين الاعتبار فلن يثور كلّ منا من أجل رأيه بل سيكون عليه أن يستمع إلى رأي الآخرين، وإذا أصرّ على رأيه فعليه أن يقدّم الأدلّة والبراهين على صدق كلامه، هذا إن لم يقتنع برأي الآخرين لأنّ لديه ما يثبت خطأ هذا الرأي والأهمّ من إثبات الرأي طريقة إثباته، فيجب أن يكون هذا باللّين والرفق في الكلام لأنّ الكلام الليّن يغلب الحق البيّن.
كما أنّه إذا تمّت التوعية بثقافة الاختلاف فإننا بذلك نحمي المجتمع الإسلامي من التطرّف الذي يعني التعصّب لرأي معيّن، والذي أنكره الإسلام في نصوصه وفي تصرّفات المؤمنين الصادقين، فقد أخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" (صحيح مسلم 4/2055). وقال في حديث آخر: "إياكم والغلوّ في الدين" (ابن ماجه 2/1183). فالتطرّف يلغي باب الاجتهاد، ويتنافى مع الوسطية التي دعا إليها الإسلام، قال الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمّة وسطا" (البقرة 143)، والتطرّف كذلك يُخرج العبادات عن روحها ومضمونها، فالمتطرّف قد يضيّع حدودا، أو يضيّع فرائض من أجل مندوبات وسنن وذلك لقصور فهمه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها" (سنن الدارقطني 3/254).
إنّ على الإمام وخطيب المسجد أن يرسخ في متقبلي خطابه الديني ثقافة الحوار والاختلاف، فالثقافة عموما بدون اختلاف كالرأس بدون عقل، أو الجسد بلا روح، فديننا الحنيف يقبل ثقافة الاختلاف والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة أو المجادلة بالتي هي أحسن، والبعد عن التعسّف وتسفيه آراء الآخرين ونبذ كلّ أشكال التطرّف الذي هو الكوّة التي يطلّ منها رأس الشيطان، فرسولنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم كان يشاور أصحابه ونساءه، يستشيرهم ويأخذ بآرائهم ومقترحاتهم، وهو الذي يوحَى إليه على عكس من يرتدون اليوم جلابيب الوقار، ويحسبون أنفسهم ضمن الخط الديني…
المبحث الثالث: دور الأئمّة والخطباء في تحقيق الأمن الفكري والانتماء الوطني
للأئمة والخطباء دور مهم في تحقيق الأمن الفكري وتثبيت الانتماء الوطني وذلك من خلال المهام التالية:
1)- التّوعية لفهم التسامح الديني، وترسيخ منهج الوسطية والاعتدال لدى شباب المجتمع: فعلى الخطباء تحقيق هذه المهمة من خلال تكريس التسامح الديني في أغلب خطبهم ومحاضراتهم ودعوتهم، إذ التسامح سمة جوهرية، ولبنة محورية في الخطاب الديني الجديد والمنفتح على الآخر وعلى العصر، وقد أكّد القرآن الكريم والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم قاعدة التسامح الديني على نطاق واسع، ففي مقابل الحوار مع الديانات الأخرى بالتي هي أحسن، يطرح ضرورة احترام هذه الديانات، وعدم القدح في علمائها والمنتمين إليها، وهو ما ينساق أيضا على المذاهب الفكرية والإنسانية المختلفة التي ينبغي أن تقوم العلاقة معها على الاحترام والقبول والتفاهم لتأكيد سمة التسامح الديني الذي فرضه ديننا الحنيف، أو ليس الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم هو من صلى على النجاشي صلاة الجنازة؟ رغم أنه على دين آخر، ورغم المسافة المكانية بينهما (السيرة النبوية للندوي ص 192)، أليس ديننا هو الذي اعترف بكل الديانات السابقة له، وفرض الإيمان بالكتب السابقة للقرآن الكريم، والأنبياء السابقين لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ أليس المسلمون الأوائل هم من تعايشوا مع اليهود والنصارى في مختلف الأمصار الإسلامية؟ وكفلوا لهم كافة الحقوق المشروعة، وفتحوا لعلمائها المجال في التأليف والعمل في الدولة والطب والترجمة أفادت منها حضارتنا الإسلامية.
وإذا كان من غير الممكن فرض الإسلام على العالم كله، بل حرّم فرض الدين بالقوة، فإنّ التسامح الديني للإسلام مع الآخرين هو ما يكفل إمكانية التعايش السلمي السويّ مع العالم، وهو ما يعكس صورة نقيّة مؤثّرة لديننا الحنيف لدى الآخرين، ويفرض عليهم الاعتراف بقيم هذا الدّين وسمح لهم بالاقتراب منه، والتواصل معه.
لقد أثبت الخطاب المتشدد أنّ عدم احترام الديانات الأخرى والتعامل معها بالعنف والترهيب والنبذ المطلق، هو ما أدّى إلى الإساءة إلى صورة الإسلام والمسلمين بحيث أضحى الكثيرون يعدّون هذا الدّين رديفا للتعصّب والتشدّد على عكس حقيقته.
ودور الأئمة الخطباء كبير ومهم في تبصير المجتمعات بسمو سماحة ويسر تعاليم الإسلام وانفتاحه على الآخر وإيمانه بالحوار أساسا للتعامل مع الأديان والحضارات والثقافات، يقول الله تعالى في محكم كتابه: "قُل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" (آل عمران 64).
وإنّ من ضرورة نصرة الدّين والتبليغ عن الحق ورسوله وهداية الخلق والدعوة إلى الإسلام أن يعتني بجمال وكمال التعاليم لتبرز على وجهها الحسن المنير وذلك بتثبيت قاعدة حسن الخلق والعفو عند المقدرة والتسامح بين المسلمين، حتى ترجم كلّ منهم ذلك في سلوكه وفي أسلوب دعوة غيره من المسلمين ومن غير المسلمين وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "علّموا وبشّروا ولا تعسّروا، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت" (مسند أحمد، 5/33).
وذلك هو المسلك الذي سلكهُ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم ودعا أمّته إليه بقوله وفعله، ومن هذا المنطلق وعلى هذا الأساس دخل النّاس في دين الله أفواجا على مدى القرون ودانوا بدين الحقّ، وفي تشييد بناء هذا الوصف الكريم تفويت لمحاولات الصدّ عن دين الله تبارك وتعالى، وسدّ لثغرات التطاول على دين الله عزّ وجلّ، وفيه أيضا فتح لأبواب الإجابة والاستجابة، وبروز حقائق الدين بين الخلق.
2)- العناية بتعميق فهم التيسير واليسر ورفع الحرج: هذه الفقرة تبحث في مسألتين هما: اليسر والتسامح في مقابل الغلوّ والتشدّد.
فأمّا مسألة اليسر فهي الإرادة الإلاهية السارية في هذا الوجود ومراتب نشأته فهذا النظام الكوني بما فيه من سنن وقوانين ضابطة لنظامه، ومسيّرة لأجزائه محكوم بمبدإ اليسر. يقول الله تعالى: "أو لم يروا كيف يُبدئ الله الخلق ثمّ يعيده إنّ ذلك على الله يسير" (العنكبوت 19).
وهذا النظام التشريعي بعمومه وتفصيله ومحكمه ومتشابهة، وأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وسائر أوجهه، تسري فيه إرادة اليُسر والتيسير الإلاهي التي لا تنفكّ عنه فالإسلام الذي ارتضاه الله للخلق لم يوضع ليسع أصحابه وأتباعه فحسب في الطريق إلى الله، بل يتسع ليسع سواهم من كلّ الملل والنحل.
ويتّضح حرص الإسلام الحنيف على إشاعة اليسر ورفع الحرج من خلال القرآن الكريم في آيات كثيرة، يقول الله تعالى: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج" (الحج 78) ويقول سبحانه: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة 185).
ومن خلال السنة النبوية الشريفة نجد أحاديث النبي الأكرم صلّى الله عليه وسلّم تذكّر بهذا الأصل وتحثّ عليه وتذكّر به، لتؤكّد أهمية الارتكاز على جدواه وفائدته ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ دين الله يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا" (البخاري 1/39).
ومن المهمّ جدّا أن يكون موضوع التيسير منهجا للأئمّة والدّعاة، ولتحقيق ذلك فإنّه حريّ بهم استخدام المسالك التالية:
‌أ- تغليب الإباحة على التحريم: لأنّ الإسلام ناصر الإباحة في تشريعاته وغلّبها على التحريم فالأصل في الأشياء الإباحة، قال تعالى: "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرّزق" (الأعراف 32). وقال سبحانه في آية أخرى: "ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث" (الأعراف 157). ويقول عزّ من قائل: "يا أيّها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين" (المائدة 87).
‌ب- إقرار الرّخص في محالها: دون تساهل في الأحكام فالله جلّ شأنه يحبّ أن تُؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى فرائضه.
‌ج- تقديم الترغيب والتبشير على الترهيب والتنفير والتيئيس: لقوله تعالى: "ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك" (آل عمران 159)، وهذا الانفضاض هو ما نتج فعلا عن الأساليب القائمة على التخويف واحتقار ذات المتلقّي وتجريمه وتخطئته ونعته بالتّقصير، ولتحميله مسؤولية الانحطاط الحضاري والأخلاقي، فالنفس مجبولة على الرفض والمكابرة إذا حُقّرت ولم تجد الاحترام اللائق بها.
3)- إبراز خطورة التطرّف الفكري والتكفير على الفرد والمجتمع:
إنّ التطرّف ظاهرة مرضية خطيرة على أمن المجتمع، ويقع على عاتق العلماء والعقلاء والمصلحين والخطباء والمنظمات والمراكز العلمية واجب التصدّي لها ووضع الخطط لمواجهتها وتحقيق منابعها.
وإنّ التصدّي لهذه الظاهرة ومقاومة آثارها السيئة على الوحدة الوطنية داخل المجتمع يقتضي من الأئمة والخطباء إبراز خطورة التطرّف على الأفراد بما يتركه فيهم من آثار سلبية على الفكر والسلوك كما سنبيّنه لاحقا، وبما يخشى أن يتحوّل إلى تطرّف عنيف وإرهاب كالذي تعاني منه اليوم الكثير من المجتمعات الإسلامية وغيرها، إضافة إلى توضيح آثاره على المجتمعات بصرفها عن العمل النافع والتنمية بمختلف أبعادها فما تنفقه الدول اليوم في مجال مكافحة التطرف والإرهاب كفيل بتشغيل الآلاف من الشباب ومدّ آلاف الكيلوميترات من الطرقات وبناء مئات المستشفيات والمعاهد والكليات والمصانع.
لقد صار من الواضح أنّ الحركات الدينية المتطرّفة تستغل نزعة التديّن الفطرية النقية استغلالا منحرفا يغلب عليه الجانب السياسي، بمعنى أنها توظف المقدس الديني لإضفاء الشرعية على خطابها السياسي الذي يكفّر الآخرين أو يخوّنهم، فهي تكون مع مسألة بعينها هنا، وتكون ضدّها في مكان آخر وتخلط المطلق بالنسبي.
وإنّ من أهمّ الآثار السلبية للتطرّف الفكري هي:
– أوّلا: الأثر الذاتي على المتطرّف نفسه:
فلقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وجعله سويّ الخلقة سويّ الذهن والإدراك، وميّزه على سائر المخلوقات بالإرادة والعقل الذي ينبغي أن يقوده إلى الاستقامة في التفكير، ولا شكّ في أنّ التطرّف الفكري يجعل الشخص خارجا عن الاستقامة مخلاّ بموازينها، فيحدث الانفصام بين ماهو عليه، وما ينبغي أن يكون عليه، الأمر الذي يترتّب عنه آثار نفسية سيّئة، كما يصدّع علاقته مع المجتمع، وتتغيّر نظرته إلى مجتمعه وإلى أهل الاستقامة وتنقلب عنده الموازين والقيم، وينظر إلى الواقع نظرة شاذة خاطئة لا تتصف بالموضوعية، وبالتالي فالتطرف الفكري مرص يُصاب به الفكر، وحالة سقيمة تجعل الإنسان في وضع غير طبيعي وغير سويّ. ومن زاوية دينية، فإنّ التطرّف الفكري يؤدّي إلى انحراف الإنسان عن المنهج الديني الصحيح، الأمر الذي ينعكس خللا في العقيدة، وإثْما في السلوك، يسقطه عن رضى الله عزّ وجلّ، ويجعله في معرض الحساب والعقاب الأخروي، وكفى بذلك خسرانا مبينا.
– ثانيا: الأثر السلوكي:
فمن المقرّر في علم الاجتماع وفي علم النفس أنّ السلوك البشري مظهر للثقافة وانعكاس للفكر، ومعنى ذلك أنّ التطرّف الفكري لن يقف عن حدود الفكر، وإنما سينعكس حتما على السلوك، وإذا كان التطرّف الفكري حالة مَرَضيّة غير سوية في الفكر، فإنّ انعكاسه السلوكي سيكون بلا ريب مظهرا سلوكيا غير سوي أيضا، وهذا المظهر السلوكي المَرَضِي مُضافا إلى تداعياته السلبية في المحيط والمجتمع، سيكون قابلا للعدوى والانتشار الذي يوسّع دائرة التداعيات، وينفتح على مضاعفاتها، وفي ذلك خطر كبير على المجتمع.
– ثالثا: الأثر السلبي على الأمن المجتمعي:
فالتطرّف الفكري يخلّ بالنّظام الاجتماعي وبالأمن المجتمعي لأنّه يستند إلى معايير سلبية بحكم انحرافه عن الاعتدال في الفهم والاستقامة في التفكير، وهو يحمل المعايير السلبية أيضا، فيكون له أثر تخريبي حيث تلعب المعايير السلبية دورها في النظام الاجتماعي ويشكّل خطرا على العناصر المعيارية الإيجابية التي هي الأساس في نظام اجتماعي مستقرّ وفي أمن مجتمعي واقعي.
– رابعا: الأثر السلبي على المنظومة الفكرية والاجتماعية:
حينما يشقّ التطرّف الفكري طريقه في المجتمع، ويتحوّل من حالة فردية إلى حالة مجتمعية قد تأخذ شكل تيار في المجتمع أو فرقة أو تنظيم، فإنّه يلعب دورا سلبيا في خلط الأوراق، والتشويش على الحقائق، والتضليل وضرب منظومة القيم والمعايير وهذا يسبّب إشكالية قد تتحوّل إلى فتنة في المجتمع، ربما تكون فتنة دينية أو سياسية أو ثقافية.
وإنّ المتتبّع للتّاريخ يجد أنّ المجتمعات المتنوعة لطالما عانت من انشقاقات ضربت أمنها ووحدتها وتماسكها في الصميم نتيجة للتطرّف الفكري: وتاريخنا الإسلامي حافل بالمعاناة من انشقاقات أحدثها التطرّف الفكري تصدّع منها شمل الأمة الإسلامية.
لقد أوجد الإسلام أمّة رسالية صاغها على عين تعاليم الرسالة الإسلامية، واستمدّت ثقافتها من كتاب الله تعالى وسنة نبيّه المصطفى عليه أفضل الصّلاة والسلام. فقامت هذه الأمة على ثقافة الأمة الواحدة المتماسكة، ولم يلتحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى حتى أكمل الله الدين وأتمّ النعمة، إذ ألّف بين قلوب المسلمين وجعلهم إخوانا فنزل قول الله تبارك وتعالى في عرفة في حجة الوداع: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" (المائدة 3)، ورحل النبي عليه الصلاة والسلام عن أمته وقد تركها على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد بيّن الله تعالى أساس وحدة الأمّة فقال الله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا" (آل عمران 103)، وحذّر من التفرّق ونهى عنه نهيا شديدا، قال عزّ وجلّ: "ولا تكونوا كالذّين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم" (آل عمران 105)، وقال عزّ من قائل: "إنّ الذّين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" (الأنعام 159).
إنّ التطرّف الفكري انحراف خطير لا بدّ أن ينهض المجتمع لمعالجته، وأن توضع الدّراسات والأبحاث الناضجة التي تبيّن سبل العلاج المجدية، ونحن كأمة إسلامية يتحرك فيها وبين أرجائها التطرّف الفكري المقيت، بحاجة ماسة إلى معالجة هذا المرض العضال الذي ينخر الجسم الإسلامي من الدّاخل ويعيق مسيرة الأمّة ويشوّه سمعتها ويهدّدها في أمنها.
الخاتمة:
لا ريب أنّ السلم هو مطمح آمال المجتمعات الإنسانية كلّها، إذ هو المناخ الذي يتحقق فيه الأمن وتشيع فيه الطمأنينة.
ولكنّ السّلم ليس شيئا يصنعه الإنسان، أو عملا يمارسه، وإنَّما هو رغبة في النفس، ومقصد من أهمّ مقاصد الإنسان السويّ، وإنّما سبيل الإنسان في تحقيق رغباته والوصول إلى مقاصده أن يبحث عن الأسباب الموصلة إلى تلك الرغبات والمقاصد، فيمارسها ويعكف على إنجازها.
والآن، وعلى ضوء ما تمّ بيانه، نستطيع أن نبرز معنى "الإرهاب"، هذا المعنى الذي ظلّ مخبوءا عن الكلمة المعبِّرة عنه، فهو كلّ جهد يهدف إلى العبث بميزان العدالة ويلحّ على اغتصاب الحقوق انتصارا للذّات واعتمادا على مبرّرات القوة التي لا يتمتّع بها الآخرون.
وإنّ دور الأئمّة والخطباء والدعاة اليوم أساسي في محاربة التطرّف والإرهاب حماية للأمن داخل المجتمع الإسلامي وحماية لمستقبل الأمّة، وهذا الدور لا يمكن أن يكون فاعلا ومؤثّرا إلاّ إذا اعتمد على فهم الظاهرة، وتحديد سبل التوقي من انتشارها، والعمل بشتى السّبل على اجتثاثها من المجتمعات الإسلامية.
ولقد توصلت هذه العجالة بفضل الله تعالى إلى مجموعة من النتائج، ولعلّ أهمّها ما يلي:
1)- أنّ منابع المشاكل والكوارث التفجيرية والتكفيرية، داخل المجتمع الإسلامي هي الأفكار المتطرّفة،
2)- على حملة الفكر الإسلامي عامة، وجوب الإسهام في حماية المجتمع من التطرّف والغلوّ الديني،
3)- للأئمّة والخطباء دور كبير في تحقيق الأمن الوطني بشكل عام، وفي تحقيق الأمن الفكري بشكل خاصّ،
4)- للأئمة والخطباء تأثير بارز في تحقيق التعاون، والتناصر، والتراحم بين أفراد المجتمع، وفي حماية الشباب من الأفكار المتطرّفة والهدّامة،
5)- للأئمّة والخطباء أثر كبير في الدفع إلى الاستفادة من اختلاف القدرات العقلية والمواهب العالية ونبذ الخلافات،
6)- للأئمّة والخطباء دور بارز في تفعيل وفهم خصائص الإسلام السامية مثل التسامح والرحمة والترغيب والتبشير والتيسير ورفع الحرج في عقول المتلقّين لما لهذه الخصائص من أهمية في مجال تحقيق الأمن الفكري الذي تتطلّع إليه الأمة الإسلامية،
7)- للأمن الفكري أهمية كبرى في الحفاظ على الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها وصيانتها من العبث والعدوان،
8)- إنّ الإخلال بالأمن الفكري يؤدّي حتما إلى الإخلال بالحياة كلّها وبكلّ فروع الأمن المختلفة.
وفي ختام هذه الدراسة، أسأل الله الكريم، ربّ العرش العظيم، أن ينفع بهذا العمل المتواضع كاتبه والقارئ الكريم، والسامع له، إنّه جواد كريم سميع مجيب.
وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد بني الرحمة وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.