” أنا ولله الحمد مستغن عن المغانم المادّية والمعنوية , فلستُ بحاجة لأجْر من الدولة , ولستُ بحاجة للتعريف بنفسي بتوسُّط السلطة السياسية ” مثلُ هذا الكلام وخاصّة هذه الأيام لا يمكن أنْ يصدر عن رجل سياسة فثقافة الاستقالة في الدول والقِيم الديمقراطية لم تدخل بعْدُ مقارَّ الأحزاب وعقول أهل الحلّ والعقد في بلادنا , ولذلك لا يمكن أن يخرج سوى عن لسان المفكّر أو الفيلسوف أو الشاعر , وهم كما يُقال عنهم المجانين الرسميين المعترف بهم ولا يُجدي نفعا بعد هذا تقديم الرجل بأنّه كان وزيرا مستشارا لدى رئيس الحكومة المستقيل , بل فقط نقول إنه أستاذ الفلسفة اليونانية والعربية بجامعة تونس الأولى والفيلسوف الإسلامي المتخصّص في الفكر الخلدوني وفي موروث ابن تيميّة , هو الأستاذ الذي أفاق بعد غفلة وأعاد عقارب البوصلة إلى طبيعتها لتُعلن ساعة الحقيقة : المفكّر هو الأصل , هو من يُقْرعُ على بابه وتجلس النّاس على أعتابه طلبا للنّصح والمشورة , ولتنوير السّبل أمام السياسي , فإنْ ارتدى “النقاب” السياسي فقد نعمة الرؤية ورحمة العقل أبو يعرب المرزوقي اكتشف أخيرا أنّ كسوة السياسي هي أضيق ما تكون على جسمه رغم محاولات “التارزي” , وأنّ الإصرار على تطويع البدن على مقاسات البدْلة ستُؤذي بالنّهاية الجلْدة والأطراف , فسارع إلى تمزيقها والعودة إلى جبّة الفكر والعقل الفضفاضة التي تتّسع للكلّ , للشيء ونقيضه , للحياة والموت والخير والشر , وقابيل وهابيل , والماء والنّار , والمطر والجفاف . أبو يعرب قلب في النّهاية الطاولة على نفسه قبل أن يقلبها عليه من قال عنهم : “كدْتُ أعتقد أنّ جلّهم يهزأ من الحكمة والفكر أصلا ظنّا منهم أنّها مجرد تفلسف بالمعنى التحقيري المشفوع بابتسامات صفراء يظنّها أصحابُها نباهةً ساخرةً وهي في الأغلب من علامات الغباء المُستحْكم . ولو كنتُ أعلم ذلك قبل المشاركة بصفتي مستشارا وأنّ تعييني كان من باب الترضية لنأيتُ بنفسي عن المشاركة ” ولأنّ الحكمة تقول إن الإنسان في جوهره هو طفل أزلي , لن يدرك معنى النّار إلاّ متى اكتوى بها , فقبْلَ أبا يعرب اكتوى الكثير من أهل الفكر والأدب والشعر بنار السياسة والسياسيين , ولعلّنا نذكر الرّاحل المبدع محمود درويش وكيف خرج من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو وعودة الزعيم الراحل ياسر عرفات إلى غزة , وعاد إلى دفاتره ومملكة الشعر مناضلا من أجل القضية فاضحا مُعرّيا المارّين بين الكلمات العابرة وسيظل التاريخ يذكر أنّ قلّة قليلة من أمثال أبي يعرب ودرويش خطّت لنفسها طريقا بين ثنايا السياسة الوعْرة وأكداس أوحالها وأطنان قُماماتها وأدْرانها من أجل كلّ هذا سنقول لأستاذنا الجليل : سننْسى ما قلته عن السياحة وأهلها , وسننْسى أنّك انتميْتَ يوما لمن لا يعرف قدْرك واعتبركَ رقما لا غير في طابور طويل عريض من “المتأسلمين” وأصحاب العمليّات الجراحية لتغيير الجنس السياسي , والمهرولين وسط القطيع لتقديم طقوس الطاعة البائسة للقائد ووليّ الأمر , وطبْع قُبلة نفاق على جبينه سنذكر مقابل هذا أستاذنا العزيز أنّك لم تتوان عن فضح “حجّاج” تونس الجديد ونظام حكْمه الذي أصبح كما جاء في بيانِكَ التاريخي , عمليةَ غزو , يَرُدَّ فسادَ السابق بفساد من جنسه , فتحوّل الحكم إلى توزيع مغانم في الحكومة وأجهزتها والإدارات وتوابعها وتوزيعها على الأقرباء والأصحاب والأحباب , دون اعتبار لمبدإ الرجل المناسب في المكان المناسب , ولو طُبّقَ هذا المبدأ لعُزِلَ أغلب وزراء الحكومة الحالية , ولما جُدِّدَ لهم في الحكومة القادمة أعلم أستاذي بعد هذا أنّهم جهّزوا لكَ جيشا عرمرما للإغارة على مملكتك , وأنّهم صوّبوا نحوك آلاف السّهام , لكنّ عزائي وعزاؤك وعزاء الملايين من أبناء شعبِكَ الشرفاء أنّنا جميعا على قناعة بأنّهم سيكتشفون لوحدهم , بعد أنْ تطويهم رحى التاريخ , بأنّ من رآى في المفكّر شرّ فسيكتشف أنّه شرّ لا بدّ منه …