يتقاتلُ قابيلٌ وهابيلٌ في خيمة الحزب الحاكم «نداء تونس» في معركة كسر عظم ما زالت فصولها تتلاحق منذ أكثر من سنة. ويُتابع التونسيون الصراع الدائر بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد، القيادي في «نداء تونس»، والمدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي نجل رئيس الجمهورية، كما لو كانوا يشاهدون مباراة في الملاكمة. وإذا كانت المعركة بين قابيل وهابيل تتعلق، في الجوهر، باختيار مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية المقررة للعام المقبل، فإن تداعياتها تلقي بظلالها على سير دواليب الدولة، التي باتت شبه مشلولة. ويسود مناخ من الانتظار القلق كافة الوزارات، لأن الجميع يعلم أن تعديلا وزاريا، ربما يكون واسعا، يُطبخ منذ فترة، لكن لا أحد يعرف من سيكون «ضحاياه». وبالرغم من أن دستور الجمهورية الثانية الذي تم اعتماده في 27 كانون الثاني/يناير2014 منح سلطات واسعة لرئيس الحكومة، الذي يملك تسمية الوزراء وعزلهم، فإن رئيس الجمهورية هو الماسك الحقيقي بخيوط اللعبة، وهو المرجع الأعلى لكافة الكتل المتصارعة داخل حزب «النداء»، وحتى للقياديين الذين انشقوا عنه وأسسوا دكاكين خاصة بهم في السنوات الأخيرة، بسبب خلافاتهم مع حافظ قائد السبسي. وفي الذكرى السادسة لتأسيس الحزب (حزيران/يونيو 2012)، يبدو «نداء تونس» الذي اتهمته غريمته السابقة «حركة النهضة» بكونه انبعاثا لحزب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، مُتخليا عن الهوية الفكرية التي اختارها في الإنطلاق. ومع بروز «النهضة» بوصفها القوة السياسية الأولى في انتخابات الجمعية التأسيسية (2011) أتى «نداء تونس» بعنوان إعادة التوازن للساحة السياسية بين قطب إسلامي وآخر وسطي حداثي. ومن الأقوال المأثورة عن مؤسسه الباجي قائد السبسي في تلك الفترة قوله إن التيارين يسيران في خطين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا. لكن هذا الموقف تغير في أعقاب فوز قائد السبسي في انتخابات 2014، وفوز حزبه بالرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية في السنة نفسها، ما قلب المعادلة السياسية. ولم يجد الرئيس الجديد غضاضة في عقد تحالف حكومي مع غريمته «النهضة»، ما أحدث هزة داخل الحزب جعلت كثيرا من قادته يغادرونه. وعندما تشكلت حكومة ائتلافية بين «النداء» و»النهضة» اختير على رأسها حبيب الصيد، لكنها لم تُعمر أكثر من سنتين، خصوصا أن رئيسها أخذ مسافة عن «النداء» فقام الأخير بسحب البساط من تحت قدميه وعزله. وتختلف الأزمة الراهنة عن التي انتهت برحيل الصيد في 2016، لأن الأخير مستقلٌ، فلم تتعثر القيادات الحزبية مباشرة في خيوط الأزمة. أما في هذه المرة فيتعلق الأمر بحرب أهلية بين جناحي الحزب الحاكم، تدور رحاها في ثلاث دوائر هي الحزب والحكومة والكتلة البرلمانية. وطيلة الفترة الماضية ظل مساعدو المدير التنفيذي للحزب الحاكم يقصفون رئيس حكومت»هم» بالأسلحة الإعلامية الثقيلة، وهو يتحاشى الضربات في صمت، ويظهرون في الإعلام ليقولوا فيه ما لم يقُلهُ مالك في الخمر، وليُطالبوا جهرا بإقالته. هذا الصراع قديمٌ، وقد تزامن بروزُه على سطح الحياة السياسية مع انطلاق ما سماه رئيس الحكومة ب»الحرب على الفساد»، التي لم تكن سوى أحد تجليات الصراع الندائي/الندائي. تؤكد مصادر ندائية أن شرارة الخلافات اندلعت مع رفض رئيس الحكومة الاستجابة لقائمة تسميات أحالها إليه المدير التنفيذي، وهو سلوك تكرر أكثر من مرة، على ما يقول هؤلاء. في النتيجة ضاق الشاهد ذرعا بتداخلات المدير التنفيذي في عمل الحكومة، فأخرج الصراع إلى العلن، مع أن فصوله وتفاصيله كانت حديث الشارع منذ أكثر من سنة. وفي الجوهر لا وجود لخلاف بين جناحي «النداء» على أحقية حزبهم في الاحتفاظ بأغلبية الحقائب الوزارية، حتى بعد فقده أجزاء هامة من كتلته البرلمانية في السنوات الأخيرة. ولم يكن رئيس الحكومة طرفا مباشرا في سلسلة الصراعات التي هزت حزبه، وجعلت عددا هاما من قياداته ينسلخون منه، ويُنشئون كيانات جديدة. ولو دققنا في دوافع الانشقاقات لألفينا أن أساسها صراعٌ على قيادة الحزب منشؤه عدم قدرة المدير التنفيذي على فرض الهيبة والانضباط، لأنه لم يأت من انتخابات داخلية، ولا هو قاد قوائم الحزب إلى نصر في انتخابات عامة. وهكذا فإن «معركة الشرعية» لم تبدأ مع رئيس الحكومة، وإنما مع سلاسل المنسلخين والمنتقدين المُطالبين بإعادة ترتيب شؤون البيت من الداخل. أكثر من ذلك، كان هناك نوعٌ من تقاسُم دوائر النفوذ على قاعدة «الحزب لك والحكومة لي»، على أن تبقى الكتلة البرلمانية حكما بين الأخوين المتقاتلين. لم تصمد تلك المعادلة بسبب تفكك الكتلة وغلبة الاعتبارات الشخصية قبل السياسية لدى المُنشقين عن النداء. وفي ميزان الربح والخسارة يُعتبر هذا العنصر في غير صالح المدير التنفيذي لأنه يُجرده من إمكان حجب الثقة عن الحكومة في البرلمان، إذ يشترط الدستور تقديم طلب من 73 نائبا لكي ينظر البرلمان في حجب الثقة عن الحكومة، ولا يكون الحجب فعليا إلا بعد تصديق 109 نواب عليه، مع اشتراط ذكر اسم رئيس الحكومة البديلة. وهذا الاحتمال غير وارد بعد تضعضع كتلة «النداء» (56 نائبا) وفي ظل رفض كتلة «النهضة» (68) نزع الثقة من الحكومة، فيما الأحزاب الأخرى لا تملك من المقاعد ما يُمكنها من تغيير المعادلة، لذا فالأرجح أن الشاهد سيستمر في موقعه، مع استمرار المناكفات بينه وبين خصومه. في المُحصِلة تضعضعت الحكومة بفعل الصراع الندائي الندائي، وبات ظهرُها مكشوفا بسبب الرماح التي استهدفتها، وهو ما يفُتُ من عضدها ويُضعف من قدرتها على التفاوض مع الأطراف الخارجية في ظرف دقيق كهذا. وأمام الخطر الارهابي الذي مازال يشكل مصدر تهديد حقيقي للبلد، لا سيما بعد انتهاء الحرب تقريبا في سوريا والعراق، يغدو الانشغال بالمناكفات بين الأحزاب والمشاحنات الداخلية قلة شعور بالمسؤولية واستخفافا بمصالح الدولة.