ليس في تونس اليوم ما يسرّ ، ولا نسمع عمّا يجري فيها غير المحزن والمثير للغضب والاستنكار ، وما رشح بالأمس في جلسة التأسيسي المخصّصة لمناقشة مشروع العدالة الانتقالية أكّد هذا الانطباع السائد لدى أغلب التونسيين باستثناء تدخليْن تجاوزا مشاعر الحقد والكراهية واجترار الماضي وحبس النفس بين أركانه وجدرانه صاحبا التدخليْن لم يُعرف لهما في الحقيقة في رحاب قصر باردو غير المواقف المثيرة للجدل والمُكرّسة لحال التجزئة والتفرقة بين أبناء البلد الواحد ، لكنّ ما صدعا به بالأمس أكد أنّ رجاحة العقل وإعلاء الصّالح العام عند بعضهم كما "فورمة" لاعب الكرة تحضر وتغيب ، وأنّ معين الخير والأَثرة لم ينقطع بالنّهاية عند سياسيينا باختلاف مشاربهم كلّما تعلّق الأمر بمستقبل تونس تحدّث بالأمس الشيخ الصادق شورو أحد صقور حركة النهضة في جلسة التأسيسي بكلام مؤثّر قوبل بتصفيق كبير من زملائه النوّاب ، فدعا إلى أن يكون قانون العدالة الانتقالية أساسه المغفرة والعفو والصفح الذي يأتي بعد الاعتراف بالذنب وبالإساءة وطلب الصفح والعفو . وقال شورو إنّ كلّ من تعذّبوا وتمّ إيذاؤهم في العهود السّابقة هم أهل صفح وكرم واقتداء بأخلاق الرسول الأكرم محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال "اذهبوا أنتم الطلقاء" مؤكدا في ذات السياق أنّ كل ضحايا التعذيب يصفحون عن جلاّديهم السابقين وتحدّث في ذاتب الجلسة الشيخ الآخر المُثير للجدل الطاهر هميلة المنشق عن حزب المؤتمر قائلا : "كأنّي بقانون العدالة الانتقالية جاء لتصفية الحساب مع بورقيبة" ، مؤكّدا أنّ هذا القانون محشوّ بالحقد والكراهية قبل أن يضيف "إنّنا سنُحاسب بهذا القانون ، ونحن أفسدنا في الثورة أكثر من فساد بن علي في الجمهورية الأولى" موقف النائبيْن شورو وهميلة وكَلاَمُهُما ، شكّلا الرجّة الأبرز فيما سمعنا من مواقف وحديث الكثير من النوّاب والتي لخّصها أحدهم في وصفه لقانون العدالة الانتقالية ب "بوس خوك وروّح" ، وهي العبارة التي تختزل مشاعر ثقافة الانتقام والثأر السياسي التي تسكن عقول الكثير من السياسيين وخاصة من أحزاب اليمين الحاكم إنّ ما حصل في التأسيسي يوم الجمعة يطرح أسئلة عديدة تتعلّق بما يمكن تسميته بالأخلاق السياسية للمشروع الثوري ، وهي مسألة هامة جدا على مستوى بناء الدولة العتيدة المزمع إنشاؤها مكان النظام القديم. فعندما تبدأ المجموعات السياسية التي عارضت النظام السابق وتلك التي تحاول إلباس نفسها الجبّة الثورية بعد الثورة ، باستخدام ذات أسلحة النظام الذي عارضته وعملت على تغييره ، فإنه من الصعب عدم التساؤل حول كيفية تسمية الأمر ثورة إذا كانت هذه الثورة لم تقدم نهجا جديدا يختلف عن نهج النظام الذي تمت إزاحته باسم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. من المكن أن يتفهّم المرء قيام شخص ما بالانتقام لمقتل عزيز عليه ، لكن انتقامَ الثورات لا يكون إلاّ عبر تقديمها نموذجا أفضل سواء على مستوى الخطاب السياسي أو على مستوى السلوك السياسي ، واذا ما فشلت الثورة في ذلك فإنها يمكن أن تُسمّى بأي شيء لكن ليس بثورة. فأهمية الثورة أنها لا تقدم فقط خطابا سياسيا وإيديولوجيا مختلفا عن النظام السابق وحسب ، الأهم أنها تقوم بممارسات على الأرض تقدم فيها المثل والدليل والبرهان القاطع أنها تمثل نهجا جديدا يختلف عن نهج النظام السّابق . فاذا كان هذا النظام يُقصي المعارضين ويعذّب الأبرياء أو يقتلهم بلا محاكمة مثلا فإن الثورة التي يفترض أنها تشكّل مشروع الدولة القادمة أنها لا تلجأ لذات الأساليب التي قامت لمحاربتها وإلاّ ستصبح مشروعية الثورة موضع تساؤل. إنّ نهج مشرّعي قانون العدالة الانتقالية اعتبارَ حقبة تاريخية مهمّة من حياة الشعب التونسي تناهز الستّين عاما هي عُمُرُ دولة الاستقلال ، حقبةً لم يكن فيها غير القهر والاستبداد والفساد كذب على التاريخ وتعكس عقلية "المُنتصرين الفاتحين" ، بل إنّ اختيار التاريخ الرمز وهو غرّة جوان 1955 كنقطة بداية لمشروع القانون وهو يوم عودة الزّعيم الحبيب بورقيبة مظفّرا من منفاه ، يختزل لا فقط أطنانا من الكراهية والحقد على مؤسس تونس الحديثة ودولتها العصرية بل وأيضا دلالات عميقة لا تخفى على عاقل على وقوف الحكّام الجدد على نقيض المشروع المجتمعي التحديثي المدني الذي ارتضاه الزّعيم الراحل لدولة الاستقلال مقابل مشروع الدولة الدينية التيوقراطية التي يعمل هؤلاء على إرسائها عبر حزمة غير قليلة من القوانين أو مشاريعها المثيرة للجدل وآخرها مشروع قانون الأوقاف ومشروع قانون المساجد الذي تروّج له وزارة الخادمي والغريب في كلّ ما يحدث والبلاد على كفّ عفريت جرّاء افتقار الحكّام الجدد لثقافة الدولة وتمسّكهم المرضي بالسلطة ، وعبر سعيهم لتمرير مشروع قانون العدالة الانتقالية المثير للجدل ، بعد تسريب كتاب رئيسهم الأسود ، لا يدركون أنّهم بصدد الإساءة لأهداف الثورة التي يتكلّمون باسمها ، بل وصادرها بعضهم وجعلها ملكية شخصيّة كعيّادي وبادي "وفاة" ، وألحقوا أذى يصعب تقديره الآن بمشروع بناء الدولة التونسية الحديثة وقد علّمتنا تجارب شعوب أخرى ، أنّ الخطر الأكبر يكمن عندما تسيطر ثقافة الغرائز على مشروع التغيير ، عندها لا تؤسس الثورة مشروعَ خلاص للمجتمع بقدر ما تصبح على الأرجح تطبيقا لنظرية ابن خلدون في السلطة السياسية حيث تظلّ الدولة حبيسة العصبيّة الأقوى التي ما إنْ تضعف حتى تحلّ مكانها عصبيّة تمارس ذات النهج وإنْ بمسمّيات أخرى ، وهذا بطبيعة الحال قد يقود المجتمع نحو أيّ شيء لكن ليس نحو الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية … تنويه الآراء الواردة في ركن الرأي الآخر لا تلزم إلا أصحابها