فتح تمرير الفصل 73 من الدستور في جلسة المجلس التأسيسي يوم الاثنين الخاص بشروط الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية بابا واسعا لسجالات سياسية وقانونية حول "ازدواجية الجنسية" وفيما إذا كان يسمح لحامل جنسية ثانية غير جنسيته الأصلية من حق الترشح لأعلى منصب في الدولة . وذهب البعض لاعتبار تمرير هذا الفصل من باب الترضيات السياسية واستهتارا مفضوحا بسيادة الشعب وكرامة المنصب الرئاسي وما يفرضه هذا المنصب من مشاعر الولاء الحصري للوطن الواحد والحقيقة أن فكرة الحصول على جنسية أجنبية خاصة من قبل بعض السياسيين ورجال الأعمال تعبّر في الأصل عن تراجع في قيم ومشاعر الإنسان العربي عموما نحو وطنيته ، وباستثناء بعض الذي قادتهم ظروفهم الحياتية إلى الغرب واضطروا للحصول على جنسية البلدان التي يعملون فيها فان "وصفة" الجنسية المزدوجة تحوّلت إلى "وسيلة" للحصول على ملاذات آمنة وامتيازات خاصة ، وهذه كشفتها حالات الهروب التي قام بها سياسيون معروفون ورجال أعمال "متهمون" بقضايا فساد في أكثر من دولة . وأحد أبرز الأمثلة من بين هؤلاء في واقعنا التونسي ذلك الدكتور المقيم في لندن صاحب المال والأعمال وقناته التلفزية غير المستقلّة التي يطلّ عبرها كلّ يوم تقريبا على التونسيين بكل تعال وصفاقة ليخوض في شؤونهم وحياتهم ، ويطرح نفسه عليهم رئيسا افتراضيا بانتظار تزكيتهم له رسميا عبر انتخابات حرّة يتقدم لها يتنازل بعدها عن جنسيّته البريطانية إن هم انتخبوه فعلا ، وهو ما سهّله عليه غالبية المؤسّسين في التأسيسي بالأمس وأحدث شرخا كبيرا في أجواء التوافقات المعتمدة بين مختلف الكتل البرلمانية . وهذا يعني بكلّ بساطة أنّ المؤسسين الحاليين وهم رمز الشرعية والسيادة جعلوا من الجنسية التونسية سلعة "تحت الردّة" كما نقول في لغتنا الشعبية ، أو بضاعة رخيصة في سوق النّخاسة السياسية ، لا تساوي شيئا أمام الجنسية الأخرى للمترشح لمنصب الرئاسة ، بما أنّها مكسب من تحصيل الحاصل ولا تعني لحاملها في قضية الحال غير كسب المغانم والمنافع والتسلّق إلى مناصبها العليا بالنظر لاستحالة الحصول على هذه المناصب في بلد الجنسية الثانية والحقيقة أنه ودون أن نحكم على كل من يحمل جنسية أجنبية إلى جانب جنسيته سواء أكان ذلك لأسباب مشروعة ومفهومة أم غير ذلك ، فإن منع من يحمل أي جنسية أخرى من تولي المنصب الرئاسي أو ما هو في حكم هذا المنصب يضع حدا "لمخاوف" كثيرة ويدرأ أيضا مفاسد لا يمكن حصرها خاصة حين نتحدث عن إدارة الشأن العام وضوابطه وشروطه مع التزامات وحصانات تتعارض مع مبدأ المسؤولية ناهيك عن قيم الوطنية التي قد تتحول في لحظة ما لدى هؤلاء إلى "فلكلور" من الماضي البعيد. ومنطق الأشياء يفرض أنّه من الآن فصاعدا يتوجب على كل تونسي يحمل جنسية أخرى أن يفصح عنها قبل أن يتولّى أيّ منصب عام فما بالك بمنصب الرئاسة ، كما يتوجب عليه التخلي عن جنسيته الأخرى كشرط لتوليه هذا المنصب أو الترشح له ولا يخفى على أحد هنا أن هناك دولا كثيرة في العالم تمنع مواطنيها من الحصول على جنسية أخرى إلاّ إذا تنازلوا عن جنسيتهم الأصلية ، وهناك دول أخرى تضع شروطا صعبة أمام كل من يريد الحصول على جنسيتها ومن بين هذه الشروط "إيداع" مبالغ مالية كبيرة أو إقامة مشروعات كبيرة . وقد سمحت هذه الشروط لبعض "السياسيين ورجال الأعمال العرب" بالحصول على "ملاذات" احتياطية يهرّبون إليها إذا ما تورطوا في قضايا فساد في بلادهم وتحميهم من المحاكمة أو المطالبة بالتسليم من قبل حكوماتهم. لا أدري بالطبع كيف يمكن -الآن- أن نحسم الجدل حول مصير العديد من الوزراء والنواب الذين يتمتعون "بجنسيات" أخرى خاصة وأنّ ثمة اختلافات بين فقهاء القانون الدستوري حول هذه المسألة ، لكنني أعتقد أن ما أقدم عليه المجلس التأسيسي من تشريع اللاّشرعي بخصوص شروط الترشح لرئاسة الجمهورية لا يمكن أن يؤدّي بنا إلى الطريق الصحيح ، وكان عليه على الأقل اشتراط التخلّي عن الجنسية الثانية مسبقا لقبول الترشح انسجاما مع النص الدستوري الجديد الذي يحمل اسم "دستور الجمهورية التونسية" وذلك بهدف إزالة الالتباس ورفع شأن الجنسية التونسية ومشاعر الوطنية الصادقة والولاء التي تختزلها ، وبالتالي طيّ صفحة "ازدواجية الجنسية" لمن يتبوأ أبرز موقع في الدولة نهائيا وإلى الأبد … تنويه : الآراء الواردة في ركن الرأي الآخر لا تلزم إلا أصحابها