مع مرسوم العفو العام -الأوّل بعد الثورة- انطلق الجدل بين من يرى أن الطريقة الأسلم لغلق ملفات الماضي هي التعويض للمتضررين و إرجاعهم لأعمالهم و عفي الله عمّا سلف و بين من بدأ يتحسس طريق الإنصاف الشامل المبني على المعرفة الكاملة للحقيقة و تعويض المتضررين و محاسبة الجلادين. وبدأت إرهاصات الحديث عن العدالة الانتقالية و كان لمركز الكواكبي السبق الأكاديمي و لجمعية العدالة و رد الاعتبار السبق في تأسيس جمعية ضحايا تجعل صوتهم أصيلا عنهم بدل أن يناول الآخرون بقضاياهم "مخلصين أو متمعّشين" و بدأ اللاعبون الأساسيّون يتبينون في مشهد العدالة المنشودة . . المجتمع الدولي من المفوضية السامية لحقوق الانسان و برنامج الاممالمتحدة للتنمية الى المنظمات الدولية و لعل أهمها المركز الدولي للعدلة الانتقالية . جمعيات الضحايا كجمعية العدالة و رد الاعتبار و جمعية انصاف لقدماء العسكرين و بعد ذلك تأسّست جمعة الكرامة للمساجين السياسيين المصنّفة من المتابعين للشأن الحقوقي بالقريبة من النهضة لتلتحق بعض الجمعيات الحقوقية بالاهتمام بالعدالة الانتقالية تباعا . الأحزاب السياسية التي رأت مصلحة حزبية في الإبحار في مسارات العدالة الانتقالية اما للاستفادة الانتخابية بإبراز قدر تضحياتها تحت حكم الدكتاتوريات المتعاقبة أو للضغط على رموز النظام السابق من اجل تحقيق مصلحة حزبية أو في الجانب الاخر من أجل تعطيلها لدفع الضرر عن الأزلام. ورغم أن الساسيين غرباء و متطفلين على العدالة الانتقالية بل و مشوهين لها الا انّهم صاروا اللاعب الأهم باستغلال و استعمال أجهزة الدولة في حسابات ضيقة و بتأثيرهم المباشر على الجمعيات المرتبطة بهم. و يتساوى في ذلك أحزاب السلطة و الأحزاب المرتبطة بالمنظومة السابقة و التي حافظت على الكثير من مواقعها في الادارة و في "المجتمع المدني" كانت حكومة الغنوشي ثم السبسي معنيتان بتأمين الإفلات من العقاب لرموز النظام السابق أكثر مما كانت مهتمة بانجاز العدالة مما جعل تلك الفترة تتميز"بحسب المتابعين" بإتلاف كمّ كبير من الأرشيف فتم تقديم الجناة إلى العدالة بملفات ضعيفة لا تؤدي الا للتبرئة أو لأحكام مخفّفة. و مع انتخابات اكتوبر 2011 اعتقد الكثيرون ان ملف العدالة الانتقالية سيصير أولويّة وطنية باعتبار ان- ما كان يُعتقد انها احزاب ثورة و قطيعة مع المنظومة القديمة- تصدّرت المشهد إلاّ أنّ الحكّام الجدد أدركوا قوة الأزلام فاختاروا تجنب المواجهة معهم عوض استثمار اللحظة التاريخية للانتصاف منهم و محاسبتهم . و ما كان ممكنا بعد الانتخابات صار صعبا بمرور الوقت ثم أقرب للمستحيل مع ضعف حكومتي الترويكا و ارتكابهم لاخطاء تجعلهم مشمولين بالمحاسبة من مثل احداث الرش بسليانة و ما يُتواتر الحديث عنه من استمرار التعذيب و المعاملة السيئة بمراكز الايقاف أثناء ادارتهم للدولة . سقطت الحكومتين و اقتربت انتخابات جديدة مما جعل هذه الاحزاب تبحث عن انجازات في اللحظات الاخيرة تعنون بها حملتها الانتخابية و كان تسريب الكتاب الاسود ليضع الجميع اما مسؤولية الكشف عن الحقيقة او التفويت في هذه المهمة للتسريبات و المبادرات الفردية. مما جعل" المتوافقون حديثا ضمن حوار وطني جمع الخصوم في مسار مصالحة لا محاسبة فيها " يتفقون على انجاز عدالة انتقالية على مقاس التوافق بهيئة توافقية و بأهداف لا تغضب الضحية و لا تهدد الجلاد . فوُلدت من رحم كل هذا هيئة مشوهة و محل انتقادات واسعة وحّدت الضحايا من جديد باعتبارهم اصحاب مصلحة في نجاح المسار الذي ينهار امام أعينهم على موقف شبه موحّد عنوانه الاساسي دعم للهيئة مشروط بالحياد و الجدية في تناول الملفات و تلويح بالمقاطعة و تأسيس مسار مواز اذا سارت عكس الاتجاه الذي أسّست من أجله و تدعّمت قناعتهم أيضا أن السياسيين اذا دخلوا العدالة الانتقالية أفسدوها و حولوها الى اداة من أجل مصلحة انتخابية و حزبية ضيقة الان صار لزاما على الضحايا ان يشكلوا جبهة متنوّعة و موحّدة هدفها الاساسي احداث مرصد يتابع هيئة الحقيقة و الكرامة للتنبيه للاخلالات و تثمين الايجابيات و ربما يصير دورها ان آل المسار الى الفشل تقديم بدائل ناجعة وواقعية تحمي الحقيقة و الحقوق . محمد حمزة