يثير فوز حزب النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي مخاوف الشارع التونسي من عودة الاستبداد إلى البلاد في الوقت الذي يريد فيه التونسيون بناء جمهورية ثانية علمانية محايدة دينياً، تكون فيها مسألة الشريعة الإسلامية أو غيرها من الشرائع شأنا خاصا بكل فرد في المجتمع لا دخل للدولة فيه. ورغم أن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي قال في أكثر من مناسبة “لست مثل الخميني، (روح الله الموسوي) لدينا حزب إسلامي ديمقراطي” لينأى بنفسه بعيدا عن وصف خصومه له بالمتشدد، وليثبت ديمقراطية حركته وتمسكها بخطها المعلن منذ 1981، فإن قضية علاقة الدين بالدولة والعلمانية من المسائل الجوهرية التي مازالت تثير الجدل في تونس وتفرض على حركة النهضة توضيح موقفها منها باستمرار. وينظر الكثيرون من التونسيين إلى الحركة الإسلامية بتحفظ، لأن الشعب التونسي لم يعرف قبل الثورة سوى الحزب الواحد ونظام الرئيس السابق بن علي ولم يطّلع على أطروحات النهضة بسبب الحظر المسلط عليها. فضلاً عن تحفظات الطبقات المتوسطة على حركة اتُّهمَت “بالتطرف والإرهاب” نظرا لما خلّفته أحداث باب سويقة وغيرها في أوائل التسعينات في النفوس، حيث تسبب مناضلو حركة النهضة في وفاة مواطن إثر إحراقهم لمقر للحزب الحاكم آنذاك كما تعمد أعضاء في الحركة رمي مادة محرقة في وجوه أشخاص. واعترفت قيادة الحركة في فبراير/شباط ان بعض أعضاء الحركة أخطأوا في الماضي، لكنهم أصروا على أن القيادات لم يكن لها علم بالموضوع وان تلك كانت أعمال فردية. ونفى راشد الغنوشي بشدة أن تكون الحركة كلفت المجموعة بتنفيذ عملية باب سويقة أو أن تكون علّقت بها قبل وقوعها، ولفت إلى أن المجموعة نفذت العملية من تلقاء نفسها ودون استشارة الحركة مشدّدا على أن “الإرهاب البوليسي” الذي تعرض له أتباع الحركة دفع بعض أنصارها إلى الانتقام بالطريقة المذكورة. وعقب الإعلان الرسمي عن فوز حزب النهضة بالمركز الأول في الانتخابات، تعهد زعيم الحزب راشد الغنوشي بحماية حقوق المرأة وغير المتدينين في تونس. وقال الغنوشي الخميس أمام جمع من مؤيديه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي “سنواصل هذه الثورة لتحقيق أهدافها المتمثلة في أن تكون تونس حرة ومستقلة ومتطورة ومزدهرة، حيث تضمن حقوق الله والرسول والنساء والرجال، المتدينين وغير المتدينين، لأن تونس ملك للجميع”. ويتميز الغنوشي، حسب البعض من المتابعين للمشهد السياسي، بقراءته التجديدية للإسلام السياسي، ومناداته بحقوق المواطنة واقراره بتساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، وقد أصل لآرائه أصوليا وفقهيا في كتابه الشهير “الحريات في الإسلام” الذي يرفضه معظم الإسلاميين غير التجديديين لصبغته التحررية التي يعتبرونها مناقضة في بعض مكوناتها لروح الدين الإسلامي ويرى بعض المحللين السياسيين أن خطاب حركة النهضة مرن يريد طي صفحة الماضي ويعطي تطمينات حول التزامها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ونبذ العنف وخاصة قبولها لمجلة الأحوال الشخصية التي لا تجيز تعدد الزوجات وتقر بالمساواة بين الرجل والمرأة. فقد ورد في صحيفة “لو تون” في فبراير/شباط الماضي على لسان راشد الغنوشي أن مجلة الأحوال الشخصية مستمدة من الشريعة وأن تعدد الزوجات هو أمر ممنوع ومحسوم قانونياً. وأعلن كذلك أن الحجاب هو اختيار شخصي، كما أقر بعدم إمكانية ممارسة عقوبة الرجم وقطع اليد، لكن يرى يرى البعض ان هناك مؤشرات تظهر أنه لم يقع القطع النهائي مع المنظومة الراديكالية منها تصريحات المزدوجة لحمادي الجبالي أمين عام الحركة بنفيه لمشروع تطبيق الشريعة حوار نشر في مجلة “ريالتي” في فبراير/شباط الماضي من جهة وتصريحه بالالتزام بما ورد بها بالحوار ذاته من جهة أخرى. وقال الغنوشي في تصريحات سابقة لوكالة “الأناضول” التركية إن”المجتمع التونسي يعتبر تركيا مثالاً يقتدى به” مذكرا بأن تركيا “بدأت في بداية القرن 19 عملية إصلاحات للمواءمة بين الإسلام والحداثة” وأن “حزب العدالة والتنمية (الحاكم في تركيا) ضامن لتواصل هذه الحركة الإصلاحية”. وبدورهم بعث قياديون في الحركة عبر وسائل الإعلام التونسية بعدة رسائل اعتبر مراقبون أنهم أرادوا من خلالها “تجميل” صورة الحركة لدى من يحمل عنها أفكارا سلبية. وقد ذهب عبد الفتاح مورو وهو أحد مؤسسي النهضة إلى حد القول بأن الحركة ليس على أجندتها إطلاقا منع النساء من السباحة بالبكيني في الشواطئ أو إغلاق الحانات المنتشرة بكامل أنحاء البلاد أو الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. وفي تصريح لموقع “دويتشه فيله” الألماني وصف الباحث المختص في علم الاجتماع السياسي ماهر تريميش النهضة بأنها “من أكثر الحركات الدينية “تقدّميّة” في تونس مقارنة بتيارات إسلامية أخرى متطرفة مثل حزب التحرير الذي يدعو إلى إقامة دولة خلافة إسلامية. واعتبر الباحث أن هجرة عدد من قياديي النهضة إلى أوروبا بداية تسعينيّات القرن الماضي (هربا من اضطهاد نظام زين العابدين بن علي) و”احتكاكهم بديمقراطيّات الغرب” كان له دور هام في “تطوير قراءة الحركة للنص الديني” و”مراجعة قناعاتها الدينية”. وأمام ما تطرحه النهضة من أفكار في برنامجها السياسي للجمهورية التونسية الثانية، تواجه أيضا عديد التحديات التي أفرزتها ثورة 14 يناير وصار من الصعب التغاضي عنها، لعل أهمها البروز غير المنتظر للحركة السلفية الشبابية، وخاصة حزب التحرير الذي رفضت وزارة الداخلية رسمياً الاعتراف به بعدما صرّح أن هدفه الأول هو الخلافة الإسلامية وإلغاء الأحزاب السياسية. وهذا قد يضع النهضة في موقف حرج أمام تنامي هذه التيارات الأصولية السلفية التي قادت تظاهرات نادت بشعارات عنصرية ومعادية للسامية وتهجمت على بائعي مواد كحولية ونسوة غير محجَّبات واعترضت على بث أفلام “تتجاسر على المقدسات” وثارت ضد بعض التظاهرات الثقافية التي ترى أنها تمس بالشريعة الإسلامية وبالضوابط الأخلاقية. ويرى محللون سياسيون أن حركة النهضة طرحت رؤى فكرية وسياسية أكثر انفتاحاً وليبرالية، ولذلك فإن بعض التيارات الإسلامية التونسية سوف تراقب مدى التزام الحركة بضوابطها الشرعية عند عقد تحالفاتها السياسية أو ممارسة حكومتها، لا سيما في إطار التشريع والتقنين.