داهمتني هذه الأيام مشاعر المرارة والدّهشة لما آلت إليه أوضاع الثقافة والمثقّفين في مدينتي، وساءتني الأجواء الملبّدة التي تحفّ بمهرجان صفاقس الدّولي وما يتطاير من هنا وهناك من "معارك" كان من الأنسب توجيهها نحو البناء بدل الهدم، ووجدت نفسي مدفوعا إلى كتابة هذه الأسطر لإيقاف نزيف ينهش جسد الثقافة في الجهة ويسيء إلى مبدعيها. إنّني أتوجّه إلى الرّأي العام الثقافي في جهة صفاقس، داعيا إلى التّعقّل والانصراف إلى التّفكير في مستقبل الثقافة في الجهة في مرحلة تستعدّ فيها صفاقس لحدث جليل وهو عاصمة الثقافة العربيّة. أودّ في البداية أن أعبّر عن اعتزازي بعملي مع جمع من المثقفين/ المبدعين في الدّورة 35 لمهرجان صفاقس الدّولي وأن أثمّن عملهم رغم الصّعاب والإرباكات(من الخارج والدّاخل) فقد عُدّت هذه التّجربة نموذجيّة بتنوّع مشارب الأعضاء، واستطاعت أن تكون وفيّة للرّهانات التي حملتها وحقّق المهرجان عودته إلى حضنه الطّبيعي معها، وهي حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها إلاّ إذا كان من الجاحدين. ونجحت الهيئة في بلورة تصوّر جديد للمهرجان لكن لم تُسعفها الإمكانات الماديّة والظّروف التي مرّت بها تونس خلال الصائفة، وكان من المفترض أن يقع إجلال أعمال الهيئة وتكريم أعضائها بدل تهميشهم ومنح المكانة الملائمة للعناصر النّوعيّة التي عملت بكلّ ما أوتيت من صدق وحرفيّة لبناء عودة المهرجان. وإذ أتفهّم شعور زملائي في الدّورة 35 بالأسى لنكران جميلهم فإنّني أعترف بنزاهتهم المطلقة. وأنبّه بأنّ الهيئة لم تقم بتنظيم 4 سهرات موسيقيّة فحسب خلال هذه الدّورة مثلما يُروّج، فقد حتَّم رهان العودة قيام الهيئة بوضع أنشطة لم يشهدها المهرجان من قبل. إنّ وعي الهيئة بالجانب التّأسيسي لعودة المهرجان دفع إلى وضع تصوّر شامل لمفهوم العودة وإكسابه اللّمسات الثقافيّة والإبداعيّة التي تعبّر عن مشروع للثقافة قبل كلّ شيء. ولهذا اندرجت الدورة 35 لمهرجان صفاقس الدولي ضمن رهانات عديدة من أهمّها استرجاع فضاء المسرح الصّيفي وبعث الجوّ الاحتفالي المهرجاني لعموم سكّان صفاقس ومن جاورها، وتلبية الذّائقة المتنوّعة للمتساكنين وفق معايير فنيّة وجماليّة تراعي الموقف من مسألة الهويّة والانفتاح على عناصر القيم العربيّة الإسلاميّة والكونيّة. إنّ صفاقس مدينة كبيرة جديرة بمهرجان يليق بقيمتها وهو ما لم يتحقّق في الزّمن السابق حيث عرف المهرجان ضيما شديدا مثلما عرفته المدينة في مجالاتها المتنوّعة . وقد عملت الهيئة من خلال تنوّع مشارب أعضائها على الانفتاح على النّسيج الجمعيّاتي ليكون المجتمع المدني النّواة الصّلبة لعمل المهرجان. ورأت الهيئة في المهرجان مشروعا ثقافيّا وطنيّا وليس مجرّد مناسبة لتأثيث سهرات بالعروض الموسيقيّة فراهنت منذ تكليفها بالمسؤوليّة على تمرير هذه الفكرة المركزيّة. ووجدت الهيئة نفسها أمام عمل جبّار لا يرتكز فقط على إعداد البرمجة ولكن يقتضي متابعة استعادة فضاء المسرح الصّيفي وإعادة الصّلة بين متساكني صفاقس والمهرجان وهو ما أملى عليها جملة من الخطوات الرّئيسيّة تمثّلت في: – توفير المحامل السينوغرافيّة لركح المسرح الصيفي من ستائر فاصلة بين الرّكح وخلفيّته وتوفير محامل خشبيّة لديكور الرّكح. – إعداد كساء عملاق لعمل فنّي زوّق الواجهة الأماميّة للمسرح الصيفي. وإيمانا منها بضرورة تحسيس متساكني صفاقس بعودة المهرجان فقد نظّمت هيئة المهرجان مجموعة من العروض التّنشيطيّة في مواقع مختلفة بمدينة صفاقس لإعلان العودة: – تظاهرة "إيقاع العودة": 28 جوان 2013 بفضاءات ساحة الهادي شاكر، أمام محطّة القطار، ساحة باب الدّيوان، شاطئ القراقنة، واحتوت التّظاهرة على عرض راقص بإشراف الفنّان ناجح بن محمود وعرض لفرقة الإيقاع بإشراف كمال الجريبي، وإطلاق الشّماريخ والبالونات وعرض الفروسيّة وعرض طبّال قرقنة وعرض السطنبالي. – تظاهرة "لقاء الجمعيّات": 30 جوان 2013 بالسّاحات المحيطة لمسرح سيدي منصور وهدفت التّظاهرة إلى تنظيف ساحات المسرح بالتّعاون مع الجمعيّات المدنيّة وبلديّة صفاقس. – تظاهرة "بهجة اللّقاء": 30 جوان 2013 في الساحات العامّة والمراكز التّجاريّة وشرّكت هذه التظاهرة الموسيقيين الشبان الذين تزخر بهم مدينة صفاقس من خلال شراكة مع المعهد الجهوي للموسيقى، واحتوت التّظاهرة على توزيع عشرة فرق من العازفين في عشرة فضاءات وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ المهرجانات. – تظاهرة "لقاء الأشرعة": 7 جويلية 2013 في فضاء تبرورة، واحتوت على "خرجة القوارب الشّرعيّة" وعرض الدّراجات الناريّة وعروض موسيقى فولكلوريّة، وشاركت في هذه التّظاهرة مجموعة من الجمعيّات المدنيّة. – تظاهرة " كساء المسرح": 10 جويلية 2013، بفضاء المسرح الصيفي حيث قام الفنّانان برهان بن عريبيّة ومنذر المطيبع بتثبيت الكساء على واجهة المسرح. وقد كلّفت هذه الأنشطة نفقات ماليّة قبل البدء في تنظيم العروض الموسيقيّة، ولكنّها أكسبت المهرجان بعده الإبداعي وحقّقت التّهيئة الضّروريّة لإعلان العودة وبدّدت محاولات عديد الأطراف في عرقلة عمل الهيئة وإرباكها، فقد واجهت الهيئة سلوكيات غريبة هدف أصحابها إلى التّشكيك في عودة المهرجان. وقد استعدّت الهيئة لتنظيم الدّورة في أثناء هذه الأنشطة من خلال إعداد فريق من الشباب المتحمّس ناهز عدده السّتين ليكون خير مثال على الطّابع الشبابي للمهرجان، وقام هذا الفريق بعدّة حصص تدريبيّة بفضاء المسرح وجسّد خلال الدّورة كفاءة عالية وهو علامة من علامات هذا المشروع الثقافي الذي يؤمن بالشّباب. وأرست الهيئة فريقا إعلاميّا شابّا وجد في المهرجان فرصة لصقل حرفيّته وتصوّراته. ونظّمت الهيئة سهرة فنيّة بالتّعاون مع المندوبيّة الجهويّة للثقافة ووزارة الإشراف، وهي سهرة "أوبيرا بيكين" التي كانت بمثابة العرض التّجريبي والتّدشيني لأمل عودة المهرجان للمسرح الصّيفي. ووضعت الهيئة شعارا مركزيّا للدّورة، "والتقينا" فكانت السّهرة الأولى إعلانا لافتتاح المهرجانات في صفاقس، وهي خطوة نموذجيّة أخرى لم يسبق القيام بها. وركّزت الهيئة على الطّابع الفكري والإبداعي فنظّمت تظاهرتين: – لقاء مع الشّاعر البحري العرفاوي: جويلية 2013 بقاعة الأفراح البلديّة. – لقاء مع الأديب الفلسطيني يحي يخلف وحاوره كلّ من محسن البوعزيزي ووحيد اللّجمي: جويلية 2013. وتبرهن مجمل هذه التّظاهرات على الإضافة التي قدّمتها هيئة المهرجان لتكون الدّورة 35 منعطفا لتكريس البعد الثقافي والإبداعي للمهرجان، ولاشكّ أنّ هذا المنعطف لا يمكن أن يقف عند أهميّته وجدواه إلاّ من كان مؤمنا بالثّورة وبالمشروع الثقافي الوطني. إنّني أدعو المثقّفين إلى الابتعاد عن لغة تبخيس الاجتهاد الثقافي والسّير في اتّجاه ما طالبتُ به في افتتاح مهرجان صفاقس الدّولي وهو "العدالة الثقافيّة" فمن غير المعقول أن تسند لمهرجان صفاقس الدّولي ميزانيّة شحيحة لا تعكس وزن الجهة وقيمتها وتمنع المثقّفين عن بناء صرح مشروع ثقافي وطني. كما أترفّع عن الخوض في الاتّهامات التي توجّه إلى هيئة الدّورة 35 لأنّها مجرّد رصاصات طائشة ولكنّني أدعو إلى احترام الشخصيّات الثقافيّة التي تعدُّ منارات لهذه الجهة ورأس مالها الرّمزي، وإذا كان من حقّ كلّ فرد أن يعبّر عن رأيه فإنّ من واجبه التّحلّي بأخلاقيّات هذه الحريّة التي لا تعني التّطاول والثّلب وإلقاء التّهم جزافا. هذا وإنّ اسقالتي من إدارة مهرجان صفاقس الدّولي لم تكن وليدة خلاف أو شقاق مع زملائي في الهيئة وإنّما تكريسا لاتّفاق مبدئي بالتزامي بإدارة الدّورة 35 فحسب وتفرّغي لمسؤوليّاتي الأخرى وإيمانا منّي بضرورة التّداول على المسؤوليّات. وقد قدّمت استقالتي للسيّد والي صفاقس في شهر سبتمبر 2013 – وسبق لي أن أعلمت قبلها زملائي بمغادرتي للمهرجان- وقد تفاعل السيد والي صفاقس مع تشخيصي لوضع الدّورة 35 وتعهّد بالمساهمة مع أطراف أخرى في الجهة بتذليل الصّعوبات الماليّة. هذا وإنّ القول بأنّ ميزانيّة المهرجان بلغت ال 300 ألف دينار هو قول مضلّل للحقيقة، فالميزانيّة المرصودة من وزارة الإشراف والمندوبيّة الجهويّة للثقافة بلغت 88 ألف دينارا بالإضافة إلى 5 آلاف دينار منحة ولاية صفاقس و20 ألف دينارا منحة بلديّة صفاقس أي بجملة 113 ألف دينارا من الجهات الرّسميّة بينما تكفّلت الهيئة بالعمل على تجميع المنح من المؤسّسات الاقتصاديّة ومن خدمات المؤسسات الإشهاريّة قصد خلق توازن مالي في حجم المصاريف الضّخمة لمهرجان كبير، ويحسب للهيئة مجهودها في ذلك. فماذا تساوي ميزانيّة مهرجان صفاقس الدّولي في الدّورة 35 أمام ميزانيّة مهرجاني قرطاج والحمّامات؟؟؟ إنّني أدعو أصدقائي المثقّفين إلى الرّصانة والتّرفّع عمّا يسيء لصفاقس و أعبّر عن احترامي للإرادة الصّادقة لكلّ مثقّف يعمل لأجل تطوير مهرجان صفاقس الدّولي دون وصاية فمن حقّ كلّ المثقّفين المساهمة في بناء تصوّر مستقبلي للمهرجان، فبلادنا تحتاج إلى كلّ الطّاقات الثقافيّة ولا تتقدّم الأمم إلاّ برموزها ومثقّفيها ومن شأن المهرجانات أن تفرز هذه الرّموز حين تبلور تراكم الفكر والممارسة، لذلك فإنّ الصّراع في السّاحة الثقافيّة هو أمر منطقي ولكن عليه أن يتقيّد بوحدة الرّهانات الوطنيّة، وتحتاج صفاقس اليوم إلى كلّ الكفاءات ولا إلى التّطاحن والاحتقان. د. نزار شقرون مدير الدّورة 35 لمهرجان صفاقس الدّولي