شاهدت اليوم على موقع التواصل الاجتماعي شريطا مصورا تم تسجيله من طرف تلميذة داخل قاعة الدرس أثناء أحد حصص التدريس حيث بدت الفوضى العارمة والتسيب وعدم قدرة المربية على السيطرة على التلاميذ واستهانة التلاميذ بمربيتهم وتطاولهم عليها وعلى أصدقائهم على مرأى ومسمع منها وهي تقف عاجزة عن فعل أي شيء … مما أشعرني بغضب شديد و بنقمة كبيرة على الأوضاع التي تردت إليها العملية التربوية في بلادنا….وأنا أؤكد على كلمة التربية قبل أن أتحدث عن التعليم لأن الثانية لا تحصل إلا بتوفر الأولى… ولكن درجة الاستهتار التي أصبحت متفشية بين رواد المدارس والمعاهد أصبحت تنذر بالخطر… وأنا لا أريد أن ألقي باللوم كله على رواد المؤسسات التربوية من تلاميذ وطلبة وإنما أريد أن أشد الانتباه إلى ما أصبحت عليه المنظومة المجتمعية التونسية برمتها والتي أضحت بحاجة إلى مراجعات جذرية على مستويات متعددة قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى… وهذه المراجعات لا بد أن تنطلق ابتداء من العائلة والتي أصبحت علاقتها مع الأبناء منحصرة على الجانب المادية البحت تقريبا … فالفكرة الرائجة اليوم بين الناس أن الولي الجيد هو ذلك الذي يوفر لأبنائه أفضل وأحسن الظروف المادية… ثياب رفيعة ..جهاز حاسوب محمول ..هاتف جوال أحدث صيحة ..دراجة نارية أو سيارة ..مصروف جيب محترم … حرية مطلقة… أما الجانب التربوي بما يستوجبه من تواصل مع الأبناء وإصغاء وحوار ومتابعة واهتمام ورعاية فإنه يكاد يكون منعدما أو في حده الأدنى… وكيف تتوفر الرعاية العائلية والأب يقض كامل اليوم خارج البيت بين العمل والمقهى و غير ذلك…. ونفس الشيء تقريبا بالنسبة لأغلب الأمهات اللاتي أصبحن بحكم دخولهن لمعترك العمل يقضين أغلب أوقاتهن خارج البيت وعندما يعدن إليه يكن منهكات فما يكدن ينهين أعباءهن المنزلية حتى يتهالكن على السرير ويخلدن للنوم..أما الأبناء فإنهم تركوا إما للمربيات بالمحاضن ورياض الأطفال وبعض الكتاتيب يشكلونهم حسب أهوائهم أو للشارع… دون حسيب أو رقيب؟؟؟ أما الفضاءات المدرسية والبرامج والمناهج التربوية والتعليمية والقوانين المنظمة للحياة المدرسية فإنها أفقدت المنظومة التربوية هيبتها وإشعاعها وقدرتها على التأثير …. ارتجال في ارتجال …واهتراء على اهتراء… مدارس متداعية للسقوط… غياب لأبسط التجهيزات الحديثة في مجال التربية والتعليم في عصر أصبحت فيه الأجهزة الإلكترونية الأكثر تأثيرا في المجتمعات والأقدر على جلب انتباه التلاميذ… ففي مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا لا زال المربون لا يجدون حتى مجرد خريطة ورقية أو بعض وسائل الإيضاح البسيطة من أجل تقريب المفاهيم للمتعلمين وشد انتباههم… لا شيء سوى سبورة متهرئة وبعض القطع من الطباشير؟؟؟ ثم إن غياب الإحاطة النفسية والاجتماعية داخل المؤسسات التربوية وإلقاء كل المسؤولية على عاتق المربين خاصة بالمدارس الابتدائية حيث تختزل الإدارة كلها في شخص المدير بمفرده عقد عملية المتابعة والإحاطة بأبنائنا التلاميذ في ظل ما أصبح يعيشه مجتمعنا من مظاهر انحلال أخلاقي وفساد قيمي خاصة في الأحياء الفقيرة والمناطق المهمشة… أما عن أداء المربين الذين لا يزالون رغم كل ما يقال يمثلون محور العملية التربوية ببلادنا فإن إصابة الكثير منهم بالعدوى من جراء تفشي الأمراض الاجتماعية ببلادنا لأنهم في نهاية المطاف جزء من المجتمع جعل منهم ينظرون إلى التلميذ على أنه مجرد مصدر لكسب للمال أو مجرد رقم في سجل وليس ذات بشرية في حاجة إلى الإحاطة و التربية والتنشئة والمتابعة …كما أن معاناة الكثير من المربين وشعورهم بالظلم والضيم خلق نقمة لدى الكثير منهم وولد لديهم إحساسا باللامبالاة إزاء الفعل التربوي …مما حول العملية التربوية التعليمية إلى عملية روتينية جافة خالية من المشاعر والأحاسيس والتواصل… أما على مستوى القوانين المنظمة للحياة المدرسية فحدث ولا حرج …لأنها أفقدت المربي كل قدرة على الردع وعلى الضرب على أيدي العابثين والمستهترين من التلاميذ ..مما أتاح الفرصة لمن فاته ركب التحصيل العلمي منهم وانقطع أمله من تحقيق النجاح أن يعيث فسادا في القسم ويتطاول على أترابه ومربيه دون رادع … كما أنه لا يجب أن ننسى جانبا مهما يزيد من تهاون التلاميذ واستهانتهم بكل ما يتعلق بالعملية التربوية ..ألا وهو فقد الأمل من الحصول على عمل من خلال التحصيل العلمي وفقد الشهائد لقيمتها وعدم تطابقها مع متطلبات سوق الشغل… فالمدرسة التونسية اليوم لم تعد تمثل ذلك المصعد الاجتماعي الذي أتاح الفرصة للكثيرين من البسطاء ومن العامة في السابق من بلوغ أعلى المراتب بفضل اجتهادهم ومثابرتهم… أما على مستوى البرامج والمناهج التعليمية أي من حيث المحتوى فحدث ولا حرج ولا أدل على تخبط المنظومة التربوية التونسية من تدريسها للرياضيات بالمستوى الإعدادي باللغة العربية مع اعتماد الأحرف اللاتينية في الترميز ..فترى التلميذ تارة يكتب من اليمين إلى اليسار وطورا من اليسار إلى اليمين في نفس السطر وفي نفس المعادلة؟؟؟ أما عن بقية المواد وخاصة التربوية منها "من تربية مدنية وإسلامية" وذوقية "من تربية موسيقى وتشكيلية ورياضة بدنية ومسرح وأدب" فإنها لا تجد نفس الاهتمام والحظوة ممثل بقية المواد مما يبعث برسائل خاطئة إلى المتعلمين… ويجعلهم لا يعيرون اهتماما لكل ما هو مرتبط بالناحية التربوية والأخلاقية والذوقية ويتم صرف كل الجهد في تلقي ما هو علمي مادي بحت مما يصيبنا بالصدمة في كثير من الأحيان من تصرف بعض التلاميذ الذين يعدهم الجميع من النجباء ومما سهل استقطاب هؤلاء من طرف بعض المنحرفين وحتى الإرهابيين كما رأينا في حادثة سوسة… كل هذا وغيره جعلنا نرى مثل هذه الظواهر المبكية المحزنة التي تظهر في هذا الشريط.. والتي تجعل من فتح ملف التربية والتعليم في بلادنا أهم الملفات وأكثرها أولوية على جدول أعمال الحكومة القادمة ..بعد انجلاء غبار الانتخابات … فالملف لم يعد يحتمل التأجيل ..لأننا إن لم نفعل ذلك ونتحرك بسرعة فإننا سنقامر بمستقبل شعب ووطن.