تضمّنت إحدى الصحف اليومية الصادرة بتاريخ 10 مارس 2007 مقالا بعنوان «الدروس الخصوصية، عروض موازية، بيع مشروط واتهامات متبادلة» وخُتم ذات المقال بما يلي: «عروض موازية، بيع مشروط، إتفاقيات تبادل ثنائي واشتراء علامات (المقصود هنا شراء أعداد) هل تحوّل الى سوق؟ وأي الحلول أقرب لتنظيم رغبة التميّز وتحسين المداخيل». ولم يحد هذا المقال في مضمونه عن عديد المقالات الصّحفية التي تناولت ملف الدروس الخصوصيّة سابقا حيث أبتعد كل البعد عن طرح الأسباب الحقيقية لتفشّي مثل هذه الظاهرة، وعن الخطر الكبير المصاحب لتوسّع انتشارها، بل حاول وبكلّ بساطة حصر القضية في مسألة تنظيم البحث عن التميّز !! بالنسبة للتلميذ والمتاجرة بالاعداد وتحسين المداخيل بالنسبة للمدرس وهذا التصوّر تجاوز كلّ الضوابط في الاساءة للمدرس واهانته، فعندما يُقدّم، في عنوان المقال وخلاصته مرورا بمضمونه، على انه تاجر يبيع الاعداد ويعقد الصفقات فإن صاحب المقال لا يستهدف كرامة عشرات الالاف من المدرسين فحسب بل ينفي عنهم الضمير المهني وكل علاقة لهم بصفة المربّي وبشرف مهنة التربية والتعليم. كما يساهم هذا المقال في الحملات التي تستهدف المدرّسين والتي تحاول تحميلهم مسؤولية كل الاخطاء والامراض الناتجة عن سياسات وخيارات تربوية وتعليمية لم يشاركوا ولم يساهموا في وضعها لا في مستوى توجهاتها العامة ولا في مجال أكثر المسائل ارتباط بالمدرّس كالبرامج والمناهج ونظم التقييم والتأديب وتسيير المؤسسة التربوية، لنعد الان الى جوهر المسألة. إنّ الدّارس لظاهرة الدروس الخصوصية لا بدّ له ، في إعتقادنا، من الوقوف على جملة من الحقائق المميّزة لها وهي حقائق، يُعتبر الإقرار بها والوقوف عندها وتمثلها شرطا أساسيّا لفهم الظاهرة في عمقها ورصد الاسباب الحقيقية لبروزها وانتشارها. أوّل هذه الحقائق أن الالتجاء الى الدّروس الخصوصية لم يعد مقتصرا على الفئات الغنيّة، بل شمل أيضا الفئات المتوسّطة والفقيرة. والحقيقة الثانية أنها لم تعد حكرا على تلاميذ أقسام البكالوريا بل مست تلاميذ جلّ مستويات مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي من السنة الاولى أساسي الى الأقسام النّهائية في الثانوي وكذلك طالت معظم المواد المدرّسة تقريبا وخاصة الاساسية (اللّغات والعلوم). أمّا ثالث هذه الحقائق فهي تزامن انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية مع تراجع حادّ في مردود المنظومة التعليمية خاصة في مجال حيث أصبح خريجو هذه المنظومة يتميّزون في الغالب بتدنّي مستوى التحصيل الدّراسي لديهم وبضعف التكوين المعرفي والعلمي وهذا يبرز بجلاء خاصّة في أوساط الطلبة وخرّيجي الجامعات. أمّا الحقيقة الأخيرة فهي أنّ الدّولة كمسؤول أوّل في البلاد عن التربية والتعليم ووزارة التربية والتكوين كمسؤول مباشر لم تعملا على معالجة الظاهرة معالجة جذريّة، بل ساهمتا في تفاقمها ووضعا الأوامر والقوانين التي تشرّع الدّروس الخصوصية. إن المتأمّل في الملاحظات الثلاث الاولى الواردة أعلاه يستنتج ضرورة ان السبب الرئيسي والاساسي الذي فتح الباب واسعا امام الدروس الخصوصية يرجع الى أخطاء وإخلالات كامنة في السياسة التعليمية المعتمدة إذ ان تدنّي المستوى المعرفي للتلاميذ وشمول الدروس الخصوصية لجميع المواد وانتشارها في أوسع الفئات لتصبح ظاهرة اجتماعيّة عامّة يؤكدّ أنّ الخيارات المعتمدة في التعليم العمومي باتت غير قادرة على توفير الحدّ الأدنى المعرفي الذي يمكّن المتعلّم ليس فقط في مواصلة مساره الدراسي وإتمامه بنجاح بل أيضا التميّز في الدّراسة دون الحاجة للّجوء الى الدّروس الخصوصية للتحليل على هذا الرأي يكفي ان نشير الى واقع مؤسساتنا التعليمية من مدارس ومعاهد وما تعانيه من اكتظاظ ونقص في وسائل العمل والتجهيزات الضرورية والعصرية وغياب الوسائل التكنولوجية الحديثة وقلة المخابر وقاعات المراجعة واعتماد جلّ هذه المؤسسات على عدد محدود جدّا من الاطار التربوي والعملة لا يتناسب بالمرّة مع عدد التلاميذ مما ساهم في انتشار ظواهر التسيّب وقلّة الإنضباط والعنف وعدم احترام المعرفة والمدرسة والمدرّس لدى المتعلمين. اما البرامج المعتمدة فباتت تتميّز بالتغيير المتواصل والسّريع وهو ما من شأنه ان يعقّد مهمّة المدرّس والمتعلّم معا في التعامل معها، كما ان كثرة المواد المدرّسة للتلميذ وخاصة في الاساسي طبعت التعليم بتغليب الجانب الكمّي على حساب الجانب الكيفي حيث نجد التلميذ يدرس عددا كبيرا من المواد وكمّا هائلا من المعلومات داخل نفس المادّة في مدّة زمنية محدودة لتكون الحصيلة في النهاية تلميذ يطلع على الكثير ولا يستوعب إلاّ القليل القليل، كما أنّ عدم مراجعة مضامين البرامج والمناهج المعتمدة في اتجاه يضمن تكوين تلميذ قادر على التفكير المنطقي السليم وعلى النقد وتحليل الظواهر ومستوعب للاساسي من المعارف خاصة في مجالي العلوم واللغات سيؤبّد المشكل القائم والمتمثل في تردي نجاعة المنظومة مما يجعل الدروس الخصوصية ظاهرة يصعب القضاء عليها، ويتأكد هذا الاستنتاج لو اضفنا الى كلّ ما سبق تأثير القرارات الارتجالية المتخذة في شأن التعليم كوضع هيكلة للتعليم والتوجيه المدرسي يتم التراجع فيها سنة واحدة فقط بعد اقرارها وكذلك مراجعة آليات الارتقاء ليصبح شبه آلي خاصة في الاساسي أضف الى ذلك إقرار مناظرة التاسعة أساسي ثم إلغاؤها دون مبّررات مقنعة وكذلك احتساب 25 من المعدّل السنوي في إمتحان البكالوريا. إن معالجة المشاكل المتراكمة في التعليم ومنها مشكل الدروس الخصوصية لا يمكن أن تتمّ إلا بمراجعة جذريّة للسياسة التربوية المعتمدة في اتجاه يقطع مع كلّ محاولة تهدف لجعل التعليم مجالا للاستثمار الخاصّ وهو ما يفرض اعادة الاعتبار للتعليم العمومي ومؤسسته وذلك بتوفير كل الامكانيات المادية والمعنوية التي تضمن تعليما اجباريا مجانيا للعموم بخلق اجيال صلبة التكوين المعرفي / العلمي معتدّة بذاتها وبهويتها ومتفتحة على النيّر من التراث والحضارة الانسانية، اجيالا قاطعة مع السلبية والتواكل الذان يعتبران أخطر نتائج للدّروس الخصوصية المسداة حاليا. ختاما أقول. إذا كانت تكاليف التعليم باهضة فإن تكاليف الجهل لا تُقدّر بثمن.