الرابطة الأولى: النادي الصفاقسي يطالب بصافرة أجنبية في الكلاسيكو    استعمال'' الدرون'' في تونس : وزارة الدفاع تكشف مستجدات المشروع الجديد    مدنين: قريبا تركيز وحدة الاساليب الحسية لتذوق حليب الابل بمعهد المناطق القاحلة    الهند: ارتفاع حصيلة انفجار السيارة إلى 12 قتيلا    أطباء بلا حدود تكشف: الأوضاع الإنسانية بغزة ما تزال مروعة..    نواب ينتقدون مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026: "استنساخ للسابقة واعتماد مفرط على الجباية"    الترجي الرياضي: توغاي يعود إلى تونس.. ورحة بأيام ل"بن سعيد"    لا تفوتوا مباراة تونس وموريتانيا اليوم..تفاصيل البث التلفزي..#خبر_عاجل    محاولة سطو ثانية على لاعب تشلسي... واللاعب وأطفاله ينجون بأعجوبة    عاجل : مداخيل'' البروموسبور'' تحقق قفزة وقانون جديد على قريب    عاجل: هزة أرضية بقوة 5.36 ريختر تُحسّ بها عاصمة بلد عربي    ائتلاف السوداني يحقق "فوزاً كبيراً" في الانتخابات التشريعية العراقية    فنزويلا: مادورو يوقّع قانون الدفاع الشامل عن الوطن    انطلاق معرض الموبيليا بمركز المعارض بالشرقية الجمعة 14 نوفمبر 2025    يوم مفتوح لتقصي مرض الانسداد الرئوي المزمن يوم الجمعة 14 نوفمبر بمركز الوسيط المطار بصفاقس    وزارة المالية: أكثر من 1770 انتدابا جديدا ضمن ميزانية 2026    قفصة: وفاة مساعد سائق في حادث جنوح قطار لنقل الفسفاط بالمتلوي    النجم الساحلي: زبير بية يكشف عن أسباب الإستقالة.. ويتوجه برسالة إلى الأحباء    تونس تشارك في بطولة العالم للكاراتي بمصر من 27 الى 30 نوفمبر بخمسة عناصر    تعاون ثقافي جديد بين المملكة المتحدة وتونس في شنني    أحمد بن ركاض العامري : برنامج العامين المقبلين جاهز ومعرض الشارقة للكتاب أثر في مسيرة بعض صناع المحتوى    "ضعي روحك على يدك وامشي" فيلم وثائقي للمخرجة زبيدة فارسي يفتتح الدورة العاشرة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس    ليوما الفجر.. قمر التربيع الأخير ضوي السما!...شوفوا حكايتوا    تحطم طائرة شحن تركية يودي بحياة 20 جندياً...شنيا الحكاية؟    معهد باستور بتونس العاصمة ينظم يوما علميا تحسيسيا حول مرض السكري يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025    تحب تسهّل معاملاتك مع الديوانة؟ شوف الحل    سباق التسّلح يعود مجددًا: العالم على أعتاب حرب عالمية اقتصادية نووية..    عاجل/ هذه حقيقة الأرقام المتداولة حول نسبة الزيادة في الأجور…    اسباب ''الشرقة'' المتكررة..حاجات ماكش باش تتوقعها    خطير: تقارير تكشف عن آثار جانبية لهذا العصير..يضر النساء    الجبل الأحمر: 8 سنوات سجن وغرامة ب10 آلاف دينار لفتاة روّجت المخدرات بالوسط المدرسي    حادث مؤلم أمام مدرسة.. تلميذ يفارق الحياة في لحظة    عاجل/ بعد وفاة مساعد السائق: فتح تحقيق في حادث انقلاب قطار تابع لفسفاط قفصة..    أحكام بالسجن والإعدام في قضية الهجوم الإرهابي بأكودة استشهد خلالها عون حرس    بش تغيّر العمليات الديوانية: شنوّا هي منظومة ''سندة2''    تحذير عاجل: الولايات المتحدة تسحب حليب أطفال بعد رصد بكتيريا خطيرة في المنتج    عاجل: امكانية وقوع أزمة في القهوة في تونس..هذه الأسباب    فريق تونسي آخر يحتج رسميًا على التحكيم ويطالب بفتح تحقيق عاجل    طقس الاربعاء كيفاش باش يكون؟    تقديرا لإسهاماته في تطوير البحث العلمي العربي : تكريم المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي في الإمارات بحضور كوكبة من أهل الفكر والثقافة    محمد علي النفطي يوضّح التوجهات الكبرى لسياسة تونس الخارجية: دبلوماسية اقتصادية وانفتاح متعدد المحاور    الديوانة تُحبط محاولتين لتهريب العملة بأكثر من 5 ملايين دينار    عاجل/ الرصد الجوي يصدر نشرة استثنائية..    الكتاب تحت وطأة العشوائية والإقصاء    الحمامات وجهة السياحة البديلة ... موسم استثنائي ونموّ في المؤشرات ب5 %    3 آلاف قضية    وزارة الثقافة تنعى الأديب والمفكر الشاذلي الساكر    عاجل/ غلق هذه الطريق بالعاصمة لمدّة 6 أشهر    عاجل/ تونس تُبرم إتفاقا جديدا مع البنك الدولي (تفاصيل)    فريق من المعهد الوطني للتراث يستكشف مسار "الكابل البحري للاتصالات ميدوزا"    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    عاجل/ وزارة الصناعة والمناجم والطاقة تنتدب..    مؤلم: وفاة توأم يبلغان 34 سنة في حادث مرور    عاجل/ وزير الداخلية يفجرها ويكشف عن عملية أمنية هامة..    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرزوقي يكتب نحو شعب المواطنين
نشر في صحفيو صفاقس يوم 01 - 03 - 2015

قد لا نكون بحاجة لإعطاء معنًى جديد لمفهوم "الشعب"، قدر هذه اللحظة العصيبة من تاريخنا المأساوي ونحن نقف عاجزين مذعورين نشاهد الفعل المدمّر لقوى بصدد إرجاع شعوبنا إلى عشائر وطوائف متناحرة…. نحن الذين حلمنا بأن نجعل من هذه الشعوب المحرّرة من الاستعمار و الاستبداد، لبنات أمة بين كبرى أمم الأرض.
في آخر المطاف، ما الشعب؟ بين المغالاة في حبه والمغالاة في كرهه… بين التكبّر عليه والتواضع له… بين التدنيس والتقديس… بين التعويل عليه وبين تجاهله التام… بين ادعاء خدمته واستخدامه… كم من علاقات معقدة ومشاعر متباينة وأفكار مبهمة!
كل هذا يستدعي وقفة تأمل لتفكيك مفهوم بالغ التعقيد نظريا، وله أبعاد عملية بالغة الأهمية في حياة كل فرد منّا.
في مقاربة أولى يمكن القول إن الشعب هو مجموعة من البشر المتشاركين في جملة من الخصائص المتفرّدين بها، إذ لا وجود لشعب إلا بالمقارنة مع شعوب أخرى يتخذ منها موقعا محددا بعوامل التشابه وخاصة الاختلاف عنها.
المقاربة الثانية أن لهؤلاء البشر خصائص عامة قارة وراء الاختلافات السطحية التي تميزهم عن بقية المجموعات البشرية الأخرى.
هم كائنات بيولوجية تتشكل من أحياء يسكنون بيوت الفضاء الحسي، ومن أموات يسكنون القبور وفضاء الذاكرة؛ ويتكون صنف الأحياء من ذكور وإناث، من رضّع وأطفال وشباب وكهول وشيوخ، من أصحاء ومرضى.
هم كائنات ثقافية تسكن لغة محمّلة بمخزون ثقافي هائل، صانعة مصنوعة من قيم وأفكار وخيال وفنّ.
هم كائنات اقتصادية تنتج وتتبادل وتستهلك البضائع والخدمات في إطار علاقة تنافس شديد على موارد نادرة، وعلى الدوام سيئة التوزيع والاستغلال.
أخيرا لا آخرا، هم كائنات سياسية تعيش داخل رقعة جغرافية تحددت بظروف التاريخ، تسميها وطنا تدين له بالولاء والطاعة، ولديها استعداد للدفاع عنه لأنه الضامن لبقائها. هذا الوطن تحكمه دولة تدفع لها الضرائب وتنتظر منها بالمقابل الحماية والخدمات الضرورية؛ وهذه الدولة مسيّرة لمدة تطول أو تقصر، من قبل أفراد يتشاركون في نفس الرؤية للمجتمع، ونفس المصالح، ويشكلون ما نسميه النظام السياسي.
*
ثمة تداخل وترابط بين كل هذه المستويات، حيث لا مجال لوجود شعب بلا بشر أحياء يحفظون ذاكرة أمواتهم، أو بدون ثقافة وحياة اقتصادية، ووجود خارج فعل السياسة.
فكل شخص مفعول به سياسيا من المهد إلى اللحد، حيث تتحكم في أدقّ تفاصيل حياته الشخصية، خيارات تؤخذ من قبل الساهرين على تسيير شؤون الدولة، أو من معارضيهم.
هو أيضا رهان سياسي لأن الدولة أو المعارضة تسعى لدفعه للاصطفاف وراء خياراتها هي؛ تلك الخيارات التي قد تتماشى أولا تتماشى مع مصلحته.
هو أخيرا فاعل سياسي عندما يتحرك لفرض حقوقه أو للمساهمة في رسم المجتمع الأفضل، الذي تتنازع حول تحديد ملامحه وبلورته على أرض الواقع تيارات عقائدية حاملة لرؤى متباينة.
خاصية أخرى بالغة الخطورة للشعب، أنه ليس كتلة متجانسة. هو دوما مجموعات يمكن تصنيفها حسب الطب إلى مرضى وأسوياء، وحسب التربية إلى متعلمين وأميين، وحسب الاقتصاد إلى فقراء وأغنياء، وحسب السياسة إلى مواطنين. أي الفاعلين السياسيين و رعايا أي المفعول بهم سياسيا.
تنبيه هامّ: هذا التصنيف الأخير ليس معياريا من نوع الأخيار والأشرار، بل هو موضوعي. هو لا يمجّد المواطنين ولا يدين الرعايا ، مثلما لا يمجّد الطب الأسوياء أو يدين المرضى. هو يهدف كما يفعل الطب للتمييز بين حالتين موضوعيتين للإنسان، قصد التعامل معهما بما تتطلّبه الوضعية، أي الدفاع عن صحة الأسوياء وعلاج المرضى كي يلتحقوا بصفّ الأسوياء.
أهمّ خاصية هي أن الشعب ليس معطى نهائيا، وإنما هو حصيلة تطوره التاريخي وإلى حدّ ما حصيلة مشروعه المستقبلي إن كان له مشروع.
لننظر مثلا كيف تطور التوازن بين الرعايا والمواطنين لدى ثلاثة نماذج من شعوب العالم، عبر التاريخ.
في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، كان المواطنون هم أصيلو أثينا، الأحرار ، الذكور والبالغون، أي أقلية لا تتجاوز العشرة في المائة من السكان.
في روما كان المواطنون هم الذكور الأحرار من القبائل الرومانية. وقد وقع توسيع هذه الصفة سنة 89 بعد ميلاد المسيح، لتشمل كل سكان إيطاليا؛ ثم توسعت من جديد سنة 212 لتضم كل سكان الامبراطورية الرومانية. لكن حق التصويت للنساء لم يمنح إلا سنة 1946.
في فرنسا ثورة 1789، اعتبرت الدولة الجديدة مواطنين من يعيشون في ظل سلطتها أيا كانت أصولهم، سواءً أكانوا يهودا أو كاثوليك أو بروتستانت. لكن النساء لم يتمتعن بحق التصويت إلا سنة 1944.
الظاهرة التاريخية أن المواطنة في مستواها السياسي، توسّعت وتعمّقت في آن واحد. توسّعت للنساء وللجميع بإلغاء الرق. وتعمّقت إلى أن أصبح بإمكان المواطنين تعيين رأس الدولة وصرفه عن الخدمة، وهو أمر لم يكن حتى قابلا للتخيّل عندما انطلق المشروع التحرري لكل هذه الشعوب.
نفس الظاهرة على بقية المستويات الأخرى حيث توسّع تدريجيا في جلّ البلدان عدد الذين خرجوا من الفقر والجهل والمرض.
بديهي أنه بقدر ما تفوق نسبة الأسوياء نسبة المرضى، والمتعلمين الجهلة، والأغنياء الفقراء، والمواطنين الرعايا، بقدر ما يكون الشعب قويا خلاقا مبدعا؛ مما يعني أن المشروع التحرري الذي يدفع بكل مجموعة بشرية إلى الأمام يؤدي دوما لتقدّم الإنسان وتقدّم الشعب ككلّ.
ثمة إذن حركة تاريخية جبارة تدفع بالمجموعات البشرية، بحظوظ نجاح متباينة وبسرعة مختلفة، نحو أفق تتحقق فيه إنسانية الإنسان، وإنسانية المجموعة البشرية التي ينتمي إليها هو الذي أسميه شعب المواطنين، أي الشعب الذي تتمتّع أوسع أغلبية ممكنة فيه بحقوق الإنسان، وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق السياسية والحقوق الفردية. مما يعني أن المفهوم لا علاقة له كما تصوّر البعض، بمواجهة مجموعة من المواطنين الواعين والنشطين في المجتمع، مع مجموعة أخرى تتسم بالسلبية والاستسلام للطغيان.
حراك شعب المواطنين إذن ليس حركة أرستقراطية جديدة في مجتمع يعاني من كثرة الأرستقراطيات الكاذبة. إنما هو وعي بحركة التاريخ التي تدفع بنا جميعا للوصول إلى هدف لا زال بعيدا. هو الفعل السياسي المجنّد للتسريع بتحقيق الهدف حتى نشكّل جميعا شعبا أرستقراطيا ليس فيه إلا النبل والنبلاء.
ما مواصفات مثل هذا الشعب؟ كل مكوناته أو لنقلّ جلّ مكوناته ( الجنسان ، الأجيال، الطبقات، الجهات ، التيارات العقائدية ) :
1- تعيش بسلام دائم ومتين بينها، نتيجة تعلُّمها فضّ خلافاتها بالوسائل السلمية، مثلما تعيش بسلام مع بقية الشعوب الأخرى.
2- تقبل تعدديتها من باب التسامح فحسب، وإنما تعتبر هذه التعددية ثروة وطنية وتحافظ عليها وتنميها.
3- تمارس وتتمتع بكافة الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
4- تعتبر وتلتزم بكون قائمة الحقوق هذه هي نفس قائمة الواجبات. مثلا حقي في الرأي هو واجب الآخر في احترام حقي في الاختلاف معه، مثلما حق الآخر في الرأي هو واجبي في احترام حقه في الاختلاف معي. فإعلان 10 ديسمبر 1948 في الواقع عندما نقرأه بتمعن، هو إعلان عالمي لحقوق الإنسان وواجباته.
5- تبلور داخلها كل طاقات الخلق والإبداع لتساهم في تقدّم الحضارة البشرية.
*
قبل أن نتحسّر على بعد أغلب شعوبنا من هذا الأفق وكيف أن منها من يتخذ الطريق المعاكس أي نحو التفكّك والتوحّش ، علينا التساؤل عن العوائق التي تسدّ أمامنا الطريق. إنها ثلاثة بالأساس.
الندرة في الموارد و/ أو سوء استغلالها. كل الشعوب تنطلق من حالة نقص في ضروريات الحياة وفي كمية المعلومات الضرورية لتحسين ظروف العيش. هذه الندرة هي التي نحاول القضاء عليها بالإنتاج المادي والفكري. تبقى كل أعمالنا تلهث دوما وراء تزايد البشر وتزايد الحاجيات وتعقيد سبل إرضائها . فالآلة الاقتصادية التي تسعى لتوفير حاجياتنا المادية، مثل الآلة الفكرية التي تنتج لنا الأفكار والقيم والقوانين، دوما دون المستوى المطلوب، ناهيك عن رداءة ما تنتج أحيانا وقدرتها على خلق مشاكل مضافة.
الغريزة البشرية. تجاه هذا الوضع المفروض علينا، نميل بصفة تلقائية إلى محاولة الاستحواذ على أكبر قدر من غنيمة لا تكفي للكل، تدفعنا لهذا غريزة متأصلة فينا، هي الظلم.
كم صدق أبو الطيب في قوله:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذاعفّة فلعلّة لا يظلم
لكن كم كذب أيضا وهو لا يصف إلا النصف الفارع من الكأس. فلو كانت هذه الغريزة هي وحدها الفاعلة لما ألغينا الرقّ وحاربنا الفساد واخترعنا القضاء المستقلّ والضمان الاجتماعي.
ثمة داخلنا مطلب غريزي مناقض لا يقل قوة وهو ما يمكننا من معارضة البيت الشهير دون التعسّف على الواقع:
والعدل من شيم النفوس فإن تجد *** ذا زلّة فلعلّة لا يعدل
صراع آليات التعديل. لمواجهة الندرة وفي إطار الصراع المزمن بين غريزتي الظلم والعدل، تتشكل مجموعات سياسية متصارعة لمحاولة فرض مصالحها ومبادئها، تحت ستار مصلحة عامة كثير اما يتضح أنها تخدم المصالح الخاصة أكثر مما هي تخدم المصلحة العامة. هكذا تتبلور وتتوالى النظم السياسية وهي لا تعكس إلا سيطرة مجموعة على بقية مكونات الشعب. ففي تونس بعد الاستقلال عشنا تحت سيطرة دولة تدّعي أنها دولة الجميع، والحال أنها كانت تتعامل فعليا مع شعب مقسّم إلى مواطنين من الدرجة الأولى (تنظيميا الدستوريون أو البورقيبيون، أيديولوجيا العلمانيون، جهويا سكان منطقة الساحل) ومواطنين من الدرجة الثانية (تنظيميا كل المعارضين، وأيديولوجيا كل العروبيين والإسلاميين، وجهويا باقي سكان جهات الجمهورية.)
هذا التنظيم لم يكن استثناء تونسيا بل القاعدة في كل أقطارنا العربية بحدّة متفاوتة، والقاسم المشترك أن هناك دوما جزء يريد أن يحتوي الكلّ وأن يتكلّم باسمه. مثل هذا التنظيم هو الذي ولّد وسيولّد صراعات تنتهي عاجلا أو آجلا بالثورة ومصير متباين لها.
*
ليس من قبيل التجني على النفس أو على أحد القول إن الخراب المتفاقم حولنا ليس إلا المظهر الخارجي والنتيجة الحتمية لخراب داخل العقول والأرواح. ثمة خراب العقول وقد استشرى التعصب لهذه الأيديولوجيا أو تلك، فصرنا بين فكي كماشة التعصب الديني والتعصب العلماني، و"كل على كلّ زاري وله عدوّ وعليه عاتب" كما يقول ابن المقفع . أهم عنصر لهذا الخراب الفكري هو رفض التعددية. هذا الرفض ظاهرة جديدة علينا، بعنفها وشموليتها، وقد كنا إلى أمد غير بعيد مجتمعات يضرب بها المثل في التسامح. هذا ما أنتج لدينا أحزابا تبارت في رفض الآخر والادعاء أنها وحدها تملك مفتاح كل المشاكل، ناهيك عن تشكلها كتنظيمات هرمية غير شفافة وعرضة سريعة للفساد. ثمة وراء هذا الخراب خراب القيم التي لم تعد تشمل الاحترام والرحمة والمحبة والتسامح. الشيء الذي قادنا للفظاعات التي نراها في موت الأطفال جوعا في مخيم اليرموك، وذبح الرهائن على الهواء، وتبييض الثروات في بنوك نهب الأمم.
النتيجة دوما مقولة "طبّها فعماها" أي أننا أمام آليات سياسية تحاول أن تكون الحلّ لكن جهلها وتجاهلها لعبر التاريخ وتعقيد المجتمعات يجعل منها المشكل الرئيسي، بما يعنيه هذا من آلام فظيعة للملايين وإهدار للطاقات وللوقت، الذي تخصصه الشعوب المتحررة للتقدم المطرد نحو آفاق نبتعد نحن عنها بنفس الوتيرة.
*
كل وضع- وبخاصة الوضع المأساوي الذي نعيشه اليوم- يتطلب إجابات تقطع مع الحلول التي أثبتت عجزها.
في هذه المرحلة من التاريخ نحن بأمس الحاجة لتعديل آليات التعديل السياسية وهي الوحيدة التي نستطيع العمل عليها إذ لا قدرة لنا لا على تغيير طبيعة البشر ولا طبيعة العالم.
نحن بحاجة لحركات سياسية جديدة لا تجتمع حول أيديولوجيات مغلقة وإنما حول أهداف سياسية و حلول عملية للمشكلات الخمس الكبرى: الفساد، التوزيع الظالم للثروة الوطنية، غياب الحريات الفردية والجماعية، رفض التعددية بكل أصنافها، تفاقم العنف داخل المجتمع سواء تشكل إرهابا محضا أو جرائم وانتحارات واعتداءات لفظية كالتي يزخر بها إعلام غير مسؤول وفضاء افتراضي أصبح جزء كبير منه مجاري صرف ومستنقعات قذرة يخشى المرء الاقتراب منها.
إن خطورة الوضع تتطلب من شباب تونس والعرب، التقدم لقيادة المشروع التحرري- وأفُقه شعب المواطنين- عبر بناء شبكات سياسية شابة الوحدة الوطنية عندها خطّ أحمر ،تتجمع لا حول أيديولوجيات لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من أمامها، فكلها مصيرها الفشل عاجلا أو آجلا، وإنما حول أهداف سياسية تلتقي حولها كل الطاقات الخيرة وهي موجودة في كل الأحزاب وكل العقائد ( كما توجد الطاقات الشريرة في كل الأحزاب وكل العقائد) تاركة لكل واحد حق الضمير والمعتقد
على هذه الشبكة السياسية إن أرادت أن تواكب مجرى التاريخ وتطلعات شعوبنا أن تعلن بكل وضوح أنها لا تنوي التطبيع مع النظام القديم وتحسين شروط العبودية، وإنما القطع معه، لكن مع التمسك بالطرق السلمية والتزام خيار القوة الهادئة التي لا تهادن ولا تتشنّج. عليها أيضا أن ترتبط ارتباطا وثيقا وأن تنسق مع شبكات المجتمع المدني التي ستلعب دورا سياسيا بامتياز، قد يؤهلها هي لا الأحزاب، لقيادة حراك شعب المواطنين .
إن التكنولوجيا الحديثة تعطي اليوم وسائل هائلة للتنظم وتبادل المعلومات والخبرات والتجنيد وتبلور سلطة تنبثق من تحت إلى فوق عبر بناء شبكات التعاضد والخدمات في كل المستويات . كل ما يزيد من استخدام هذه الوسائل الجبارة ، كلما ارتفعت قدرة المواطنين الفعليين على توسيع وتعميق المواطنة الحقيقية أي الشراكة في تقرير المصير الجماعي . قيل عن الحرب أنها أمر أخطر من أن يترك للعسكرين ويمكننا أن نقول أن السياسة أمر أخطر من أن يترك للسياسيين.
كل التجديد المنشود في أشكال النضال السلمي لا يكون إلا بتجديد جذري في منظومة الأفكار، أي أن على الحراك السياسي والمدني أن يعكس حراكا داخل العقول يعصف نهائيا بالمنظومات الفكرية الجامدة والشمولية التي تدفع للتعصب والغرور ورفض الفكر الآخر وعدم اعتباره وجهة نظر شرعية تعكس تعددية موجودة إلى الأبد.
سريعا سيتضح أن المرونة الفكرية وحس النقد الذاتي والتفتح الدائم على الآخر، هي أيضا وبالأساس مواقف أخلاقية فلا أفكار فعّالة دون سند أخلاقي متين . هنا يأتي التذكير بأن أهم ما كرهه الناس في السياسة كما تمارس أغلب الوقت ، هو نفاقها المفضوح وهي تدعي الدفاع عن قيم، بيدَ أنها على أرض الواقع لا تمارس إلا المكيافيلية في أحطّ أشكالها، شعارها في ذلك "الغاية تبرر الوسيلة."
إن أي فاعل سياسي يريد الانخراط في حراك شعب المواطنين مطالب اليوم بفهم قوة المطلب الأخلاقي داخل مجتمع مفتوح لم تعد تنطلي عليه الحيل الساذجة. وإن على كلّ شاب طموح يريد أن يصبح زعيما أن يتذكّر دوما أن السيد ليس من يعطي الأوامر، إنما السيد من يعطي المثل.
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.