13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    سوسة: الاطاحة بمنحرف خطير من أجل ترويج المخدرات    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    العاصمة: وقفة احتجاجية لعدد من اصحاب "تاكسي موتور"    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    600 سائح يزورون تطاوين في ال24 ساعة الأخيرة    الوكالة الفنية للنقل البري تصدر بلاغ هام للمواطنين..    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    متابعة/ فاجعة البحارة في المهدية: تفاصيل جديدة وهذا ما كشفه أول الواصلين الى مكان الحادثة..    الإعداد لتركيز مكتب المجلس العربي للاختصاصات الصحّية بتونس، محور اجتماع بوزارة الصحة    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    فاجعة المهدية: الحصيلة النهائية للضحايا..#خبر_عاجل    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    صدور قرار يتعلق بتنظيم صيد التن الأحمر    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    عاجل/ منخفض جديد وعودة للتقلّبات الجويّة بداية من هذا التاريخ..    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. من أجل تحقيق التأهل إلى المونديال    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    جندوبة : اندلاع حريق بمنزل و الحماية المدنية تتدخل    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    "ألفابت" تتجه لتجاوز تريليوني دولار بعد أرباح فاقت التوقعات    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    الإعلان عن نتائج بحث علمي حول تيبّس ثمار الدلاع .. التفاصيل    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    تواصل نقص الأدوية في الصيدليات التونسية    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    قرابة مليون خبزة يقع تبذيرها يوميا في تونس!!    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زهير الخويلدي يكتب للوسط التونسية عن فلسفة الحرب

ير" من الممكن جدا أن تكون الحرب هي السياسة المطبقة بوسائل أخرى ولكن السياسة نفسها أليست هي الحرب مطبقة بوسائل أخرى؟"[1]
استهلال:
شغلت مشكلة الحرب والسلم الفكر البشري منذ مغامراته الأولى ومنذ معايشته للأشكال الأولى من التصادم والتقاتل التي عرفتها البشرية مثلما شغلتنا نحن العرب في هذا الهزيع الأخير من زمن العولمة الاعتداءات المتكررة والاستهدافات التي يتعرض لها الوطن وخاصة عمقه الاستراتيجي في لبنان والعراق وفلسطين بشكل متعمد ومبيت.وسبب هذا الانشغال أن هذه الحالة الاجتماعية هي ظاهرة عامة ملتصقة بالنشاط البشري وسمة بارزة دائمة الحضور في الحياة السياسية للدول والشعوب,تمثل في الوقت الراهن تحديا حقيقيا ومعضلة كبرى وتثير فينا مشكلا فلسفيا له علاقة بالحياة والموت وتهتم به الاستراتيجيا والايتيقا والتحليل النفسي وعلم المستقبليات وعلم الاقتصاد وعلم الحرب Polémologie. هكذا عشنا الحرب في وجداننا القومي في كل لحظة من تاريخنا منذ الغزوات الأولى للروح العربية والفتوحات الاسلامية مرورا بالحروب الصليبية ومعارك استعادة بيت المقدس وصولا الى حروب التحرير والاستقلال التي نعيشهاالآن,اننا منخرطون كرها وبالرغم عنا فيها ومغمورون بأحداثها وسحرها ولكننا نبحث بشكل دائم عن السلم والحوار والتفاوض ونقدم من أجل ذلك التنازل تلو الآخر ونميل الى مهادنة الأعداء وارضائهم طلبا للأمن والاستقرار وعبثا نحاول لأننا نخسر دائما المعركتين:خسرنا معركة السلام التي أدت الى حروب متناسلة كارثية عصفت بالأخضر واليابسة, وخسرنا أيضا جل المعارك العسكرية التي خضناها(1948, 1967, حروب الخليج1991, 2003) وان انتصرنا فيها( حروب الاستقلال, عبور 1973,تحرير جنوب لبنان وملحمة 2006)كما نفوت بالسياسة والدبلوماسية ما نحرزه بالسلاح وبالقوة.لا شك أن هذه التعثرات ليست مدعاة لجلد الذات والتشاؤم بل فرصة للبحث عن كيفية المصالحة بين العرب ومشكلة الحرب والسلم من أجل تحقيق نصر حاسم وتثبيت سلم أبدي يعيد ادخال هذا المحيط الجيوسياسي العربي الاسلامي الى التاريخ الكوني من بوابته الرئيسية وليس من الباب الخلفي حتى لا نكون مجرد مظلومين وضحايا نثير شفقة أصحاب القلوب الطيبة والنفوس الرحيمة.
هذه المصالحة لن تتحقق الا اذا استنطقنا ظاهرة الحرب من حيث تعريفها ومفهومها وفرزنا أنماطها ودققنا في الآليات الدافعة اليها والفاعلة فيها وبينا رهاناتها ومختلف تجلياتها واستتباعتها لأن تأثير الحرب في حياة الأفراد والدول بالغ الأهمية يمكن أن تكون جزء من تدبير الإله للكون وشكل ارادته وجزائه ويمكن كذلك أن تكون القدر الذي يحدد مصير الانسان أو يجسد من خلاله حريته فهو حيلة للعقل ومحكمة التاريخ التي تؤدي الى الانحلال والتقهقر أو الى التلاحم والتكون والتقدم.
على هذا النحو فإن الفلسفة لم تسكت عن الحرب ولم تترك أمرها من مشمولات علم السياسة وعلم الحرب لتهتم بالسلم ولكونها من الأمور غير المعقولة تسبب الفوضى والقتل المؤسس وتؤدي الى الجنون بل هي احتفلت بهذه الظاهرة منذ بواكيرها الأولى وبحثت في مشروعيتها وحاولت تعقلها وفهمها من أجل الاضطلاع بمشروع الوجود ووجدت أنها هي التي تدفعنا الى التفكير في المعنى لما تثيره فينا من آداب الشدة ولكونها وضعية قصوي يعيشها الانسان وتضعه أمام خيارين لاثالث لهما وهما الطاعة الفورية أو الموت الفوري علاوة على أن السلطة العسكرية هي الشكل الأقصى لكل السلطات.
من هنا تطرح مشكلة الحرب في اطار علاقة الفرد بدولته والتي تتراوح بين التضحية والفداء من جهة والعصيان والخيانة من جهة مقابلة.لكن كيف يمكن للدولة أن تجبر مواطنيها على الخدمة العسكرية لقتال العدو وبالتالي تجعلهم يتعرضون للموت أو الخطر في حين تبرر ذلك بقولها أن غايتها هو تحقيق سلامة الأفراد والمحافظة على ممتلكاته وصيانة ثرواتهم؟ هذه الوضعية العبثية تضع نفسها في احراج منطقي واضح للعيان: إن كان الهدف من وجود الدولة هو المحافظة على حقوق الأفراد فإنه من الخلف أن نطلب منهم التضحية بهذه الحقوق والمشاركة في الحرب لضمان حماية الدولة.
وتطرح كذلك في اطار علاقة الدولة الواحدة مع الدول الأخرى وامكانية اعلان حق عالمي بين الشعوب يضمن وجود حالة من السلم الدائم. والحق أن أمل السلام كان يراود الانسان منذ أقدم العصور وكان الشوق الى تحقيقه شعورا عاما ومتبادلا بين البشر ولكن جميع المحاولات فشلت وجميع الاجتهادات تبخرت دون معرفة الأسباب والعوامل وكأن الحرب هي الظل الذي يلازم الحياة الانسانية والملتصق بالتاريخ ولا يبارحه أبدا. ترى أيكون السلام مستحيلا بحكم طبيعة الانسان النزاعة الى الصراع والقتال أم على البشرية ألا تيأس وأن تواصل بذل الجهد من أجل تحقيق السلم بماهو حلم سحري عجيب؟ إن استحال علينا انكار دور الحرب في تطور الحضارة البشرية نظرا لأن انجازات الانسان لم تأتي عن طريق الانسجام والتعاون بل نتيجة النزاع والتدافع فهل يمكن أن نستخلص من ذلك ضرورة ادانة الحرب لما تخلفه من دمار وقتل وما تثيره من رعب كوني؟ ماهي الدواعي والأسباب التي تؤدي الى اندلاع الحروب؟ لماذا تجد بعض الدول نفسها مضطرة في غالب الأمر الى خوض الحروب دون رغبتها؟ من هي الجهة التي ينبغي أن تحاربها هذه الدول؟ هل تحارب الجيش النظامي والمؤسسات الحربية أم تحارب كل فئات الشعب بما في ذلك الأكفال وذوي الاحتياجات الخاصة؟ ماهي الطرق والأساليب التي تتبعها أثناء هذه الحروب؟ بماذا ينبغي أن تحارب هذه الدول ؟ هل ينبغي أن تحارب بجيشها الوطني أم بالاعتماد على الجيوش الأجنبية وبعض المرتزقة من المأجورين؟ كيف نعرف الحرب؟ وماهي شروط الامكان التي ينبغي أن تتوفر لإقامة سلم دائم؟ هل ينبغي علينا أن نعرف الحرب لكي نعرف السلم أم أن الحرب هي الاستثناء والسلم هو القاعدة؟ لكن ما معنى قول البعض بأن السلم هو هدنة مؤقتة بين حربين أو شكل من أشكال الحرب لا يحصل الا نتيجة توازن في القوى المتواجدة؟ ثم ما علاقة الحرب بالسياسة؟ هل الحرب هي مواصلة للسياسة بطرق أخرى أم أن السياسة هي مواصلة للحرب بطرق أخرى؟
تنقسم خطة البحث في هذا العمل الى ثلاث تمفصلات:
- التبرير الفلسفي للحرب والنظر اليها من جهة الغاية والوسيلة والقيمة والمنفعة.
- الإدانة الفلسفية للحرب والنظر اليها من جهة الاستتباعات والإنعكاسات الخطيرة.
- التدبير الفلسفي لأمور السلم باعتباره الشرط المانع والمعطل لإندلاع الحرب.
ما نراهن عليه عند معالجة هذه الاشكاليات هو تفادي الحرب غير العادلة والسلم الذي يؤدي الى استسلام والتشريع لحق الدفاع عن النفس عند كل اعتداء مع الجنوح الى المصالحة والصفح.
I/ التبرير الفلسفي لظاهرة الحرب:
" الحرب أب وملك كل شيء" – هراقليطس-
"ينبغي ألا ينظر إلى الحرب على أنها شر مطلق ,على أنها مجرد حادث خارجي عارض لها هي نفسها من ثم سبب عارض وليكن:ألوان الظلم,أو أهواء المهيمنين على السلطة...إلخ,أو باختصار هذا السبب أو ذاك من الأمور التي كان ينبغي لها أن توجد."[2]
جاء في لسان العرب أن:" الحرب: نقيض السلم,أنثى وأصلها الصفة كأنها مقابلة حرب وتصغيرها حريب بغير هاء رواية عن العرب لأنها في الأصل مصدر...تحمل على معنى القتل أو الهرج وجمعها حروب. ويقال:وقعت بينهم حرب...وقد أنثوا الحرب لأنهم ذهبوا بها الى المحاربة وكذلك السلم والسلم ويذهب بها الى المسالمة فتؤنث. ودار الحرب: بلاد المشركين الذين لا صلح بينهم وبين المسلمين.وقد حاربه محاربة وحرابا وتحاربوا واحتربوا وحاربوا ... ورجل حرب ومحرب بكسر الميم ومحراب:شديد الحرب,شجاع.وقيل: محرب ومحراب: صاحب حرب. وقوم محربة ورجل محرب أي محارب لعدوه,معروفا بالحرب عارفا بها.وأنا أحرب لما حاربني أي عدو(لمن عاداني).
والحرب بالتحريك:أن يسلب الرجل ماله.حربه يحربه اذا أخذ ماله.الحرب:أن يؤخذ ماله كله. والحريب:الذي سلب حريبته وتباع داره وعقاره.المحروب:حرب دينهأي سلب دينه. والحرب بالتحريك:نهب مال الانسان وتركه لا شيء له. والحارب المشلح أي الغاصب الناهب الذي يعري الناس ثيابهم. وحرب الرجل:اشتد غضبه,وحربت عليه غيري أي أغضبته.
التحريب:التحريش,فخلفتني بنزاع وحرب أي بخصومة وغضب...والحرب كالكلب وقوم حربي كلبي والفعل كالفعل..."[3]
ما يهمنا من هذا التعريف هنا هو ارتباط الحرب بالمعرفة والدهاء والمكر والدراية وهي ترمز الى الرجولة والاقدام والشجاعة والغضب كما ترتبط الحرب بالقصاص من العدو وعدم الصلح مع الظالم أي رفض مسالمة المعتدي الغاصب وهذا كله يدور في فلك مدح الحرب والتشريع للانخراط فيها. والحق أن كل الحروب التي عرفها التاريخ البشري هي أشكال من الصراع المسلح والاقتتال بين مجموعات منقسمة الى معسكرين:الحلفاء والأعداء. فالحرب نوع من العلاقة الاجتماعية داخل الدولة الواحدة وبين الدول تتميز بالتمايز والاختلاف والصراع التي قد يصل الى حد النزاع والتصادم والتقاتل. بيد أن الصراع الحربي ليس مجرد صراع أجيال أو صراع بين الطبقات وشرائح المجتمع بل صراع مسلح ينتهج الموت والدمار ولا ينتهي الا بتجريد العدو من سلاحه والتفوق عليه عبر الاسراع في مهاجمته كحل دفاعي.
كل أمة ترغب في الظهور الى الوجود وكل دولة تسعى الى السؤدد والنهوض تسعى الى تأكيد فرديتها وروحها الخافقة بالظهور على مسرح التاريخ من خلال خوضها لعدة حروب وارادتها التوسع والزيادة في مجال نفوذها ودائرة سيطرتها عبر قتالها للأمم الأخرى وبسط سيادتها على العالم.من هذا المنظور ترتبط السياسة بالقوة وتظهر القوة في الاعتناء بالجيوش وشن الحروب,"إن المير الذي يفكر بالترف أو الرخاء أكثر من تفكيره بالسلاح كثيرا ما يفقد امارته.ولا ريب في أن ازدراء فن الحرب هو السبب الرئيسي في ضياع الدول وفقدها وان التمرس فيه واتقانه هو السبيل الى الحصول على الدول والامارات."[4]تبين اذن أن الحرب فضيلة وأن السلم رذيلة ينبغي على السياسي ألا يغتر به لأنه يجلب الفساد والهلاك لذلك ينبغي"على الأمير أن لا يستهدف شيئا غير الحرب وتنظيمها وطرقها وأن لا يفكر أو يدرس شيئا سواها اذ أن الحرب هي الفن الوحيد الذي يحتاج اليه كل من يتولى القيادة."[5]
هكذا كانت الحرب بالنسبة الى السياسي عدل وحق وخير لأنها تجلب لها غنائم والمنافع وتعود عليها بالفائدة. فالحرب هنا حقيقة من الحقائق البشرية التي تلعب دورا حاسما في تطور الدول ورقي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية للشعوب وهي عامة على كل شيء وتسري على كل الظواهر وتطهر جميع الأدران والشوائب لكون جميع الأشياء تتكون وتفسد بالتنازع ولكونه تاريخ العالم هو محكمة العالم.فالحق هنا هو القوة والقوة هي التي تحرك العالم بما فيه الحياة الاجتماعية للإنسان وكان النشاط الحربي واستعداد الأمة للقتال نوع من الصحة الأخلاقية للشعوب.فهيجل يرى أن كل الحروب التي اندلعت في العالم وجدت بشكل كامن وأن العلاقات بين الدول هي معفاة من الأخلاق أي لاأخلاقية وبالتالي ينبغي أن نكف عن النظر الى الحرب على أنها شرا أخلاقيا لأن هناك لون من ألوان الحرب هو بمثابة القوة المحركة لتطور الفكر والمجتمع والتاريخ لأن الحرب تكون مفيدة لصحة الشعب الأخلاقية تنتج العديد من الفضائل الاجتماعية والعسكرية مثل الشجاعة والنبل والتضحية بالنفس من أجل الآخر والاحساس بأهمية الانتماء الى المجموع . الحرب تكون مفيدة لصحة الشعب الأخلاقية لأن "فساد الدول قد يوجد نتيجة معايشتها لفترة طويلة من السلم والسكون والركود تماما مثل تعكر مياه البحر وتلوثها لانعدام هبوب الرياح." فالحرب هي كالريح التي تهب فتحفظ ماء البحر من التلوث والفساد بعد أن مرت عليه فترة طويلة من السكون والركود". اذا كانت الحرب ضرورة وتمثل احدى الظواهر البشرية التي لازمت الإنسان منذ فجر التاريخ حتى الآن ولم تكن مجرد شيئا غفويا أو طارئا أو مصادفة فإنه يمكن أن تفسر تفسيرا عقليا وينظر اليها على أنها تحقق فعلي ونشاط عيني للروح.اذا أردنا فهم الحرب وتحليل طبيعتها وشرح وضعها والوقوف على كنهها فأنه يتعين علينا ابراز دورها وتتبع وظيفتها في تقدم العلوم وصعود الأمم وتكون الدول فكل الانجازات الكبيرة لم تأتي عن طريق الانسجام بين البشر والتعاون بين الشعوب بل نتيجة النزعات وعن طريق الحروب التي نشبت بين الجيوش لأن "الطبقة العسكرية هي الطبقة الكلية المكلفة بالدفاع عن الدولة فواجبها أن تجعل المثال بداخلها واقعا,أعني أن تضحي بنفسها."[6]
عندما يحارب الفرد في سبيل الدولة ويلتحق بالخدمة العسكرية ويضحي بنفسه فإنه يثبت استعداده لتخطي القيم المادية المتناهية(الملكية الخاصة,الثروة,الأسرة...)وتجاوز مصالح المجتمع المني الضيقة من أجل أن يلتحم بغيره من المواطنين ليشاركهم في تحقيق هدف أسمى وهو بقاء الدولة. تبرهن الحرب أن ما يؤمن به الفرد وقت السلم من أشياء مادية وقيم دنيوية ورغبات جسدية هي قيم فانية وأشياء زائلة ومتناهية وأن القيم الروحية والرغبات المطلقة والأفكار المثالية التي تبقى وتتأبد لا تظهر الا وقت الحرب. تؤكد الحرب أن الأشياء المادية زائلة وعابرة وأن العالم الشخصي ضيق ومحدود فتزعزع الملكية الفردية وتعرض أنانية الانسان ومصالحه الضيقة للخطر وتثبت أن المصير المحتوم لكل ماهو جزئي هو الفناء والاضمحلال فترفع الفرد من وضع العالم الخاص الى موقف أعلى.
تجعل الحرب الشعوب تقف موقف اللامبلاة من الوجود العرضي والمؤسسات المتناهية عندما تعاج تفهات الحياة الزمانية وتكشف عابرية القيم المادية فهي ذلك المغزى الرفيع واللحظة الأتي يبلغ فيها الجزئي الكلي ويتحقق بالفعل.هكذا يكون للحرب فائدة ومنفعة تشبه فائدة ومنفعة الأزمات فهي عندما تمر بمجتمع معين تبرز تماسك أفراده وتضامن أسره وقوة علاقاته وصلابة طبقاته واستعدادها للتضحية بمصالحهم الشخصية. علاوة على ذلك تبقى الحرب على طبيعة الملكية كشيء خارجي يرتبط بالذات الفردية ورغباتها اللاعقلانية وتكشف تفاهة الحياة نفسها وتبين مخاطر السلم الذي يدفع المجتمع المدني لتدعيم نفسه بجعل الثروة والملكية الخاصة هي الهدف الأسمى فيصاب بالترهل والتخمة والوهن فتأتي الحرب لتمكن المجتمع من استعادة عافيته الأخلاقية. " الحرب تعالج-على نحو جاد- تفاهة الخبرات الزمانية والأشياء العابرة,هي تفاهة كانت في أوقات أخرى موضوعا شائعا للمواعظ المنمقة, وهذا ما يجعلها تمثل اللحظة التي تبلغ فيها مثالية الجزئي حقها وتوجد بالفعل.فللحرب ذلك المغزى الرفيع,اذ بفاعليتها...تحافظ الشعوب على صحتها الأخلاقية حين تقف موقف اللامبالاة من المؤسسة المتناهية,تماما مثلما أن هبوب الرياح يحفظ البحر من التلوث الذي يوجد نتيجة لفترة طويلة من السكون,كذلك فإن فساد الأمم قد يوجد نتيجة لفترة طويلة من السلام..."[7]
الحرب تملك قوة سلب ونفي هائلة تجعل الفرد المواطن يتحقق من أن وجوده يرتبط بكل أوسع وأن عالمه الخاص:أسرته وأمواله وممتلكاته مرتبط ارتباطا وثيقا بسبب الوجود العام للدولة ويمكن أن يندثر اذا لم يساهم في الدفاع عن وجود هذه الدولة.على هذا الأساس فإن الحرب ليست هي الصحة في الدولة وانما عبرها تمتحن صحة الدولة فهي حينما تجعل المواطنين يواجهون شبح الحرب فإنها تجعلهم يشعرون بقوة سيدهم المسيطر:الموت.ان قوة الدولة تمتحن في حالة الحرب ورحاها وليس في حالة السلم التي حالة الاستمتاع والنشاط في عزلة رغم أن غايتها ليست سياسية أي ليس التوسع أو الغزو أو السيطرة بل العمل على تجميع المواطنين وتكتيلهم حول مبدأ أعلى واسقاط ما بينهم من حواجز وازالة الحيطان المادية التي شيدتها المصالح الشخصية بالكشف عن نسبية وتناهي الوجود البشري.
تطلب الحرب تضحية الأفراد بأنفسهم من أجل الدولة والتخلي عن مصالحهم الذاتية والدخول مع غيرهم في كل واحد ولكن التضحية تطلب المخاطرة بكل شيء والتحلي بفضيلة الشجاعة, والشجاعة ليست خصلة نفسية ولا مجرد الاقدام والجسارة والجرأة ولا الحماس الشخصي والجلد والتحمل والبسالة دفاها عن الشرف والكرامة فهذه مجرد صفات فردية ترتبط بالآراء الذاتية بل الشجاعة الحقة هي صورة عليا من صور التضحية بالنفس ولحظة الإتحاد مع الكل وانضمام الفرد الى المجموع والإستعداد الكامل للتعاون الوثيق مع الآخرين. صحيح أن الحرب تثير فينا فضيلة الشجاعة ولكنها ليست انعدام الخوف وشجاعة القلب عند احتقاره للموت وحفاظه على الولاء واستعداده للتطوع بل هي تماسك الكل وتضامن الأفراد داخل التخطيط العام الذي تقوم به الدولة. "إن القيمة الداخلية للشجاعة بوصفها استعدادا للروح انما توجد في الغاية المطلقة الأصيلة وهي:سيادة الدولة.والعمل الشجاع هو التحقيق الفعلي لهذه الغاية النهائية,الوسيلة الى تحقيق هذه الغاية هي التضحية بالوجود الشخصي..."[8]
اللافت للنظر أن الحرب هنا ضرورة تاريخية من أجل نبذ الآراء الشخصية والنزعات الفردية واحياء الأفكار المثالية والقيم المطلقة وكذلك من أجل حيلولة دون اندلاع الإضطربات الداخلية والفتن المحلية ولتعزيز سلطة الدولة,علاوة على ذلك فإن بعض الشعوب تلجأ الى الحرب حتى تكافح من أجل استقلالها وتستعيد حريتها فتكون هذه الحرب حرب تحرير. من البين أن الحرب حيلة العقل لكونها تكشف الجانب المزدوج من الطبيعة البشرية وتبرز الأفضل من أجل تثبيته وتدعيمه وكذلك الأسوأ من أجل تقويمه وتصحيحه وهي أيضا صراع من أجل انتزاع دولة ما الإعتراف بها كدولة من مجموعة الدول الأخرى,اذ"عندما تنشب الحروب والمنازعات في مثل هذه الظروف نجد أن السمة التي تضفي مغزى من قبل تاريخ العالم هو القول بأنها صراعات من أجل الاعتراف بشيء ذى قيمة ذاتية نوعية خاصة."[9]
على هذا النحو ان السلام الدائم ليس الا حلما ولهذا فإن الخلافات بين الدول يمكن أن تحل عن طريق الحرب والحرب الضرورية هي التي تكون من أجل خدمة العقل أي هي معركة من أجل المبدأ والدولة التي تنتصر في هذه الحرب تبين فشل المبدأ التي تمثله الدولة المنهزمة.لذلك"تبدو الحرب شيئا طبيعيا تماما ولا شك أن لها أساسا بيولوجيا وجيها وفي الممارسة لا يكاد يكون من الممكن تفاديها"[10].
لكن هل من المعقول أن تكون مثل هذه الأفكار أفكارا طبيعية وجيهة؟
II/ الإدانة الفلسفية لظاهرة الحرب:
"الحرب هي حركة عنيفة الغاية منها الضغط على الخصم حتى يخضع لمشيئتنا..."[11]
لفظ الحرب متأتي من الكلمة الألمانية Krieg نجده أيضا في الكلمة الانجليزية Warوقد ميز الإغريق بين Agon وPolé التي تفيد تنافس يخضع لقواعد وPolemos التي تفيد نزاع مسلح يؤدي الى الفوضى, أما اللاتين فقد ميزوا بين Huctatio وBellum ,كما تدل كلمة الحرب في لسان العرب على معاني السلب والعداوة والكرب والتحرش بالآخرين. ولا تمثل الحرب هدفا في حد ذاته ولا ظاهرة مستقلة بل هي وسيلة لخدمة أهداف تتجاوزها سواء كانت من طبيعة دينية أو سياسية أو حتى علمية.واذا كان كلاوزفيتش يعرف الحرب بأنها مواصلة للسياسة بطرق أخرى فإن خضوع السياسة كليا لها هو أمر مستحيل لأن السياسة هي الملكة العقلية والحكمة العملية التي توجه الفعل الانساني بينما الحرب هي وسيلة عسكرية غايتها اخضاع الخصم وتجريده من قوته تعبر عن نزاع نوعي وخصوصي بين البشر وعن الصراع الكوني من أجل البقاء.
اللافت للنظر أن الحرب ليست علاقة نزاعية بين شخصين بل مواجهات عسكرية شاملة ومتواصلة بين دولتين لا تنتهي الا بانتصار واحدة وانهزام أخرى وتوقيع هدنة بين الطرفين يتوقف بعدها القتال فترة من الزمن. تنتج الحرب العديد من الضحايا ويقترن فيها القتل بالمؤسسة العسكرية ويترتب عنها دمار شاملا ورعبا كونيا وتدميرا هائلا لكل البنى التحتية التي تمثل مظاهر الحياة في المجتمع.
· كلاوزفيتش يرى أن الحرب عمل عدواني يستهدف اخضاع العدو لارادة المعتدي.
· رايت يقر أن الحرب هي الظرف المناسب الذي يسمح لحل النزعات بين المتخاصمين بالقوة العسكرية.
· بوتول يؤكد أن الحرب هي كفاح مسلح ودموي بين مجموعتين منظمتين.
سواء كانت الحرب نشاطا حرا للروح أو شكلا نافعا من عقلنا وشرطا لوجودنا مرتبطة بغريزة الطبع وتضع طموح الانسان نحو الحرية موضع رهان فانها حربا ضارية تترتب عنها نتائج اجتماعية مأساوية وانعكاسات بيئية ونفسية خطيرة. يمكن أن نميز بين الحروب بين الدول وهي حروب انبثاق وانصهار والحروب الأهلية وهي حروب انهاك واستنفاذ.
تحاول الفلسفة أن تحكم على الحرب من وجهة نظر الأخلاق والحق لتميز بين الحرب العادلة والحرب غير العادلة. فتكون الحرب عادلة اذا كانت الغاية منها اقامة سلم أبدية دون اكراه واذا كان السبب عادل ووجيه ومعلنة من طرف سلطة مشروعة وتحارب الكذب والنفاق والظلم والاستعمار وتدون غير عادلة اذا كانت من أجل النهب والسلب وارتبط بنزعة استعمارية تسعى الى التوسع والهيمنة. من جهة تبدو الحرب مقدسة اذا كانت دفاعا عن النفس ورد اعتداء ومن جهة مقابلة تبدو محرمة ومدانة أخلاقيا اذا كانت حربا ظالمة وتسبب الكثير من المجازر والكوارث واذا ما حكمنا عليها بموضوعية وتجردنا من كل الميولات الذاتية والانطبعات الشخصية فإن الحرب مهما كان نوعها لا يمكن أن تكون بأي شكل حربا نظيفة مشروعة.
ماهو بديهي أن الحرب تعلمنا العنف وتشجع على التطرف في رد الفعل والتعصب في الموقف وتضع أهواء الطبيعة البشرية الهشة متفقة مع وحشية الأحداث عندما تجعل سهولة الحياة اليومية تختفي لتبرز للعيان حياة معقدة صعبة غابت عنها الملامح الأساسية البسيطة لحياة كريمة وحضر البؤس والصراع على المياه والقمح ومصادر الطاقة.ترتبط الحرب بالموت والقسوة وتعادي معاداة شديدة الحياة لأن رحى المعارك لا يترك وراءه الا الجثث المشوهة والأرواح المزهوقة ظلم,"ان الدمار الشامل الذي يحدثه الإنسان أقوى عشرات المرات من الدمار الذي تحدثه الطبيعة لأن الإنسان يريد هذا الدمار ولذلك ينظمه بذكاء..."[12]
إن اختراع البارود والبندقية والسلاح الفتاك لم يجعل الحرب أكثر انسانية عندما قلل من المواجهة المباشرة بين الأفراد أثناء المعارك وعندما حرم النبلاء والطبقة الحاكمة من ميزة السيطرة على العتاد والانفراد بامتلاك وسائل القوة بل ضاعفت من كمية القنابل والقذائف التي تطلق في برهة من الزمن وزادت من معدل القتلى والضحيا في كل معركة.إن ما يسمى اليوم بالحرب النظيفة هو في الحقيقة حرب الأرض المحروقة التي ازدادت وحشية وضراوة بخيث أن عدد الأبرياء الذين يتساقطوا أكبر بكثير من عدد العسكريين والمقاتلين الذين تتم تصفيتهم. إن السلاح النووي الذي وقع استعماله في الحرب العالمية الثانية مازال وصمة عار في جبين الانسانية لحجم الدمار الذي خلفه وقوة الطاقة التدميرية التي استخدمت والخدش الأخلاقي الذي أحدثه للكرامة الإنسانية لأن العالم الذي اخترع القنبلة النووية كان في تصوره أن يتم استخدامه في الجوانب الإنسانية وخاصة توفير الكهرباء والطاقة الحرارية وليس للفتك بالأرض والعباد. غير أن هذا السلاح النووي الذي ارتبط ظهوره بصعود التقنية أصبح يثير العديد من الأسئلة والتأملات المرتبطة بغائية الحياة ومستقبلها على المعمورة ومسألة المصير والمعنى من الوجود وضرورة تحمل مسؤولية الأمانة والاستخلاف والتعمير في الكون.
إن الكشف عن أسباب ودواعي ااندلاع الحروب هو مقدمة لازمة وضروريةو لرفضها وادانتها والعمل على تفاديها وتوقيفها,والحق أنه توجد عدة أسباب تقف وراء تفجر الأوضاع يمكن أن نذكر منها: - أسباب طبيعية بيولوجية:
فقد بين داروين في كتابه أصل الأنواع أن الكائنات الحية تصارع من أجل البقاء وتستعمل في هذه المعركة جميع الأسلحة المتوفرة بيدها لأن قانون الحياة هو الصراع من أجحل البقاء وذكر أن البقاء للأصلح وأن العدوان غريزة طبيعية,فالكائن الحي عدواني بطبعه ويفسر هوبس المنافسة والاحتراس والاعتداد بالنفس كثلاث علل رئيسية توجد في الطبيعة البشرية وتؤدي الى التنازع.
- أسباب ثقافية سياسية:
تشجع بعض الثقافات والايديولوجيات على العنف والارهاب والاعتداء على الآخر عندما تحاول بعض الدول فرض نموذجها السياسي بالقوة وتسعى الى تصدير أفكارها الى العالم الخارجي عن طريق الحروب وتوسع مجال نفوذها وسيطرتها بالغزو والكراه.
- أسباب اقتصادية:
إن الصراع حول الموارد الطبيعية وحول الأسواق والعمالة هو لغة العصر وذلك لبروز قانون الندرة والاحتكار ولسيطرة بعض الشركات متعددة الجنسيات على منابع الطاقة والغذاء والبضائع المصنعة لذلك تخوض بعض الدول حروب بأكملها بدعم من هذه الشركات من أجل فتح الحدود المغلقة وتحرير التجارة العالمية وغزو الأسواق وترويج البضائع ووضع يدها على مدخرات وخيرات الدول النامية.
- أسباب نفسية :
فرويد أكد أن الميل الى العدوان لدى الأفراد والشعوب ناتج عن تغلب غريزة التاناتوس (حب الموت) على غريزة الإيروس(حب الحياة) وانتصار دوافع الكره والتباغض على دوافع التواصل والتحابب,اذ يصرح في هذا الشأن:"كلمة شبق هي في محاورة المأدبة غرائز تسعى الى التدمير والقتل والتي نصنفها حقا على أنها الغريزة العدوانية أو التدميرية."[13]
- أسباب اجتماعية:
إن الانسان هو لااجتماعي بطبعه لأن وضعه الاجتماعي هو وضع الصراع والنزاع فهو يتميز في تعامله مع الآخرين بالعدوانية والنفور وبعدم تخليه عن استقلالية ارادته لإشباغ رغباته وارضاء أهوائه وهو نتيجة لااجتماعية الاجتماع البشري كما بين كانط وكذلك بسبب التنافس والجشع وحب التملك.
اننا عندما نقتصر على الادانة الأخلاقية للحرب نكتفي بالصراخ بأعلى صوت لنلعن الحرب والداعين اليها والمساهمين فيها لما تجلبه من خراب ودمار ولكونها شر من صنع الشياطين تسبب الهلاك لجميع الأطراف وذلك كله لايعني شيئا على الإطلاق ولا هو يعمل على منع ظاهرة الحرب بل انها صرخات متألم يكتفي بأن يلعن المرض دون أن يحاول فهمه وتشخيص عللع وأسبابه حتى يتمكن من علاجه. من هذا المنطلق لابد أن يعمل المفكر الفيلسوف على معرفة أسباب وقيمة الحرب ويحدد الضمانات التي ينبغي أن تتوفر حتى يتم تلافيها وتحقيق السلام الدائم. من الواضح هنا أن الحرب رذيلة والسلم فضيلة وأنه ينبغي أن يعمل الجميع على وقف الحر واقامة السلم ولكن كيف يمكن تحقيق مثل هذا المطلب؟
III/ التدبير الفلسفي لأمور السلم:
"الحق المدني وحق الشعوب...يتطور باتجاه السلام الدائم الذي يستطيع البشر أن يعدوا أنفسهم به بشرط واحد هو أن يستمروا في التقارب."[14]
والحق أن الأمل في السلام كان يراود الانسان منذ أقدم العصور وكان الشوق الى تحقيقه عاما وعارما بين البشر وساهمت فيه الأساطير والأديان والفلسفات. لقد كان اله الحرب Arsعند الاغريق تحت مساعدة ومراقبة اله السلم Irens, كما أن أول معاهدة سلام في التاريخ هي تلك التي وقعها فرعون مصر رمسيس الثاني وحيتيثار ملك الحيثيين في القرن 13قبل الميلاد. اضافة الى أن النصوص الدينية التي تدعو الى السلام جاءت لتنسخ النصوص التي تدعو الى القتال,فمثلا في المسيحية نادى بولس الرسول الى أهالي كورنثوس: "سالموا جميع الناس" لأن" المحبة هي تكميل الناموس" و"البشر أسرة واحدة فقد عمدنا جميعا روحا واحدة لنؤلف جميعا جسما واحدا ينتظم اليونانيين والعبيد والأحرار". وهذه الرسالة جاءت لتنسخ ما ذكر في انجيل لوقا(الاصحاح13:45-50) عن السيد المسيح:" لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض ما جئت لألقي سلاما بل سيفا...جئت لألقي نارا على الأرض...أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا أقول لكم...دع من لا يملك سيفا يبيع ثوبه ويشتري سيفا".نفس الأمر يتبن لنا عندما نعود الى القرآن فأيات الحرب والسلم هي من الآيات المتشابهات,فنحن نجد آيات تدعو الى الجهاد والقتال مثل قوله تعالى في سورة التوبة36:"قاتلوا المشركين كافة" وفي سورة النساء76:"قاتلوا أولياء الشيطان" ولكنه عز وجل ربط الحرب بعدة شروط منها منع اندلاع الفتنة في سورة الأنفال39:"قاتلوهم حتى لا تكون فتنة", وفي حالة الدفاع عن النفس ورد الاعتداء في سورة البقرة:"قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا", وقد ذكر القتال وهو شيء منفر مكروه:"كتب عليكم القتال وهو كره لكم". بيد أن الاسلام الحنيف يجب ما قبله ويدعوا الى الاخاء واللين والرفق واليسر والسماحة ويشرعن حق الاختلاف وحرية المعتقد ويدعو الى التدافع والتكاتف والى السلام,اذ يقول الله تعالى في سورة البقرة208:"يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة", ويقول عز وجل في سورة الأنفال61:"وان جنحوا الى السلم فاجنح لها".
أما في الفلسفة فقد دعا الرواقيين منذ أقدم العصور الى تحرير البشرية مما يكون سبب تنازعها واختلافها من فروق اللغات والأديان والأوطان ونظروا الى الناس جميعا وكأنهم أسرة واحدة يحكمها قانون العقل المستقيم وتسيرها الأخلاق الطبيعية. وفي القرن 16 هاجم ايرازم الحرب ووصفها بأنها انتحار جماعي في كتابه:"الانسانية ضد الحرب" ودعا كل انسان الى بذل أقصى جهد من أجل ايقافها أينما اندلعت لتعارضها مع المبدأ الذي خلق من أجله الإنسان,فالإنسان لم يخلق من أجل الدمار والهدم والخراب بل من أجل المحبة والصداقة وخدمة غيره من البشر.كما بين منظرو مدرسة الحقوق الطبيعية وخاصة غروسيوس أن الحرب ترمز الى حالة الطبيعة التي تظهر فيها العلاقات بين الناس علاقات عنيفة أما في الحالة المدنية فينبغي أن يعم السلام والأمن لأن العلاقات بين المواطنين يتكفل القانون بتنظيمها تنظيما عقلانيا.ما يجدر ملاحظته أن معارضة الفلسفة للحرب بلغت أوجها مع كانط في كتيبه الصغير :"مشروع السلام الدائم"الذي ظهر سنة1795والذي أعاد التذكير فيه بمشروع الأب دي سانت بيير1658-1743 الذي أكد على ضرورة انشاء حلف دائم بين كل الدول لحمايتها من الحروب وضمان أمنها ضد كل اعتداء أجنبي.
لقد تضمن كتيب كانط ست مواد تمهيدية تصوغ الشروط السلبية للسلام وهي:
1- لا يجوز أن تتضمن معاهدة السلام أي بند سري للإحتفاظ بحق استئناف الحرب.
2- لا يمكن امتلاك دولة مستقلة عن طريق الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة.
3- الجيوش الدائمة يجب أن تزول نهائيا مع الزمن.
4- لا يجوز اقتراض ديون زطنية من أجل مصالح خارجية للدولة.
5- لا يجوز لأية دولة أن تتدخل في نظام أو حكم دولة أخرى.
6- لا يجوز لدولة في حرب مع دولة أخرى أن تقوم بأعمال عدوانية من شأنها أن تجعل من المستحيل عودة الثقة المتبادلة بينهما لدى عودة السلام:مثل الاغتيال,دس السم,خرق امتياز ممنوح, التحريض على الخيانة.
أما الشروط الايجابية لإقامة سلم دائم فهي عند كانط ثلاث:
1- يجب أن يكون النظام السياسي لكل دولة هو النظام الجمهوري.
2- يجب أن يؤسس القانون الدولي على اتحاد بين الدول الحرة.
3- يجب أن يقتصر القانون الدولي على شروط الضيافة العامية.
ما نلاحظه أن التقارب بين الشعوب والحوار بين الدول والتفاهم بين الأديان والاحتكام الى قيم الانصاف والصداقة وحسن الضيافة والصفح والمصالحة هي شروط الامكن الحقيقية لإرساء قاعدة لسلام مقبول في المعمورة.
رغم تأكيد كانط على الدور الذي ينبغي أن يلعبه الفلاسفة في تنوير الحكام فيما يتعلق بمخاطر الحروب ومنافع السلام ورغم الجهود التي بذلها لبلورة الشروط المادية والطبيعية الكفيلة بضمان السلم الا أنه ظل يعتبر هذا الأمر مثلا أعلى منشودا وغاية بعيدة المدى وأملا بالنسبة للبشرية لا تستطيع الوصول اليه الا اذا انتظمت الأمم في هيئة دولية تتولى منع اندلاع الحرب والمحافظة على السلم. لكن ماهي المحصنات والضمانات التي ينبغي على الفلسفة أن توفرها حتى تتأبد حالة السلم؟ ثم ماذا ينبغي عى الدول أن تفعل في حالة السلم حتى لا تتحول الى حالة مرض ووهن تعوق البشر من تنمية قدراتهم وتطوير طاقاتهم نحو ماهو أفضل؟ هل يكفي أن نربط السياسة بالأخلاق والحكم بالنظام الديموقراطي الذي يحترم حقوق الانسان لكي نحافظ على سلم دائم؟
خاتمة:
" ومن الواضح أن الغرب يتحدث عن السلام ويفكر في الحرب مثل اسرائيل تماما.ومراكز الأبحاث تعلم ذلك.ومازالت تخطط للحرب باسم الحرب على الارهاب,بالغزو مرة وبمشاريع الشرق الأوسط الكبير والشرق أوسطية مرة أخرى.فمتى يتغير الغرب ذهنيا؟ ومتى يعترف بالآخر المساوي له والكفء في الحوار معه.ومازالت المركزية الأروبية مصدر العنصرية الدفين هي التي توجه مراكز الأبحاث طالما ظل الاستقطاب قائما بين المركز والأطراف."[15]
تتراوح الحرب بين التبرير الفلسفي والادانة الأخلاقية وهي ظاهرة ملتصقة بالتاريخ ومرتبطة بمسيرة الدول وحركية الشعوب تسبب الويلات والمآسي وينتج عنها عدة منافع وفوائد ومضار ولكن مضارها أكثر من منافعها, وقد سعا الناس منذ بداية تواجدهم الى ايقافها وحاولوا احلال السلام فيما بينهم ولكنهم فشلوا وظل السلم مجرد حلم يتخيلونه في أذهانهم ولا يعيشونه في الواقع بينما أصبحت الحرب اللازمة الضرورية لسير الأحداث في التاريخ لا نكاد نستيقظ لنسمع خبر تفجر نزاع جديد والغاء لإتفاقية هدنة لم تدم الا زمن قصير ورغم ذلك يبقى التصور الخاطىء للسياسة هو التعطش الى الحرب والتصور الصحيح لها هو الجنوح الى السلم.
في الواقع لا يجوز أن نتحدث عن الحق في الحرب لأن المفهومين لا يمكن أن يوجدان جنبا الى جنب فحضور واحد منهما يلغي وجود الآخر بشكل آلي فإما الحق أو الحرب وليس الإثين معا فنتحدث عن حرب الحق وحق الحرب ثم من له المشروعية في اضفاء صفة الحق على الحروب ومن خول له ذلك ربما سيكون القوي لا لشيء الا لأنه قويا ولكن ماهو دور الضعيف في ذلك.سواء كانت الحرب من أجل الهجوم أو من أجل الدفاع وسواء كانت طويلة الأمد أو قصيرة لا تستغرق الا بضعة أيام وسواء كانت حربا أهلية أو حربا ثورية فانها اطلاق العنان لممارسة العنف ومجال للتخويف والارهاب والاقصاء والتمييز,والخاسر الأكبر من اندلاعها هو الانسان والحياة على الأرض بحيث يصعب بعد ذلك اخمادها,اذ كيف يمكن ايقاف الحروب وبعض الدول الكبرى ترى أن احلال السلام لا يكون ولن يتم الا بشن حرب حاسمة؟ فكيف نؤسس السلم بتغذية روح القتل والكراهية بين الشعوب؟ وكيف ننبذ الحرب ونحن مكرهين على خوضها سواء للدفاع عن النفس أو للتعبير عن نبذ الحياة والصحة الأخلاقية للشعب ولتقوية روح التضامن في الدولة؟ وكيف نحب بالسلم وهو دليل مرض واحتضار ومصدر وهن وضعف ؟ أليست الأنظمة السياسية بتغرطرسها واحتكامها المستمر الى منطق القوة هي المسؤولة عن هذه الحروب؟ كيف نفسر ماقاله سارتر من أن كل انسان هو مسؤول عن أي حرب كما لو أنه هو الذي ساهم في اندلاعها؟ ماذا يقدر الفرد الأعزل أمام هذه الحروب التي قد تتطور لتصل الى النجوم حتى وان كان يعرف أنه مسؤول عنها؟ ألا نرى أن العلاقات بين الدول مازالت تعيش في حالة الطبيعة حيث حرب الكل ضد الكل؟ فمتى نشهد انتقال هذه الدول من حالة الطبيعة الى الحالة المدنية؟
المراجع:
- ابن المنظور لسان العرب المجلد الأول دار صامد بيروت الطبعة الثالثة 1994
- هيجل أصول فلسفة الحق ترجمة لإمام عبد الفتاح إمام مكتبة مدبولي القاهرة
- ميشيل فوكو يجب الدفاع عن المجتمع ترجمة الزاوي بوغرة دار الطليعة بيروت 2003
- كانط مشروع السلام الدائم ترجمة نبيل خوري بيروت 1985
- جان بول سارتر نقد العقل الجدلي الجزء الأول غاليمار باريس 1960
- فرويد أفكار لأزمنة الحرب والموت ترجمة سمير كرم دار الطليعة بيروت 1986
- حسن حنفي مقال: الإرهاب...الإرهاب جريدة الزمان العدد 2233 التاريخ 08/10/2005
Clausewitz .C. De la guerre Collection 10-18.1965
*كاتب وباحث في الفلسفة
نشر على الوسط التونسية بتاريخ 26 ديسمبر 2006
------------------------
المراجع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.