الطفولة هي السفينة والقبطان والمجداف، هي رمز الخلق والإبداع، هي التنوير والتعمير والتبشير بغد يبشّر بتجدّد الدماء، وتجدّد الوعي وتواصل الأجيال وبناء الجسور، والاستنهاض من تحت الإسمنت المنثور.. تصطدم الكلمات هنا على الورق، وتحتاج اللغة المعدنية إلى عملية تهوئة، تتصلب شرايين المفردات وهي تبحث في قاموس الطفولة، عن بقايا شعاع أمل أمام جدار الصمت اللغوي، وأمام جدار الفصل الاصطناعي، وأمام أنظمة منع التجوّل الفكري، ليكون المشهد مأزقا أمميا، حين تصبح الطفولة هدفا للتدمير العشوائي، وفريسة للقصف "الذكيّ"، والتدمير المنهجي، ليتحوّل الإنسان المدني، إلى كائن حجري، تتجمّد فيه قيم العقل وقيم العدل وقيم النضج الإنساني، لتستيقظ فيه براكين الحقد العدمي، وبشاعة الجرم العبثي، وعدم الفصل بين من يحمل بندقية ومن يحمل لعبة يدويّة، لتكون المجزرة تلو المجزرة، وبينهما أطفال أجسادهم تحت الركام مبعثرة، على حدود أنظمة مقوّسة الظهر متفرّجة… ففي الوقت الذي ينعم فيه أطفال العالم بالبحر والعطل الصيفية، تنهمر القنابل العنقودية، لتقصف الطفولة البريئة في " قانا، وصيدا، وبعلبك…" وغيرها من مدن الوجع العربي، في الزمن الانكشاري والجرم الإنساني… أطفال العالم يتمتعون بحرارة شمس الصيف في المصائف والمضائف والغابات والشواطئ، وأطفال لبنان هناك مشرّدون في الحدائق في العراء هائمون، في الشوارع متناثرون، في المدارس مكدّسون، في الملاجئ مبعثرون، في الجوامع في الكنائس في الإدارات في الساحات قابعون، يحلمون بسقف بيت، يحميهم من لسعات القيظ والحرّ، وزاوية ينشرون فيها لعبهم الطفولية، بعيدا عن روائح اللحم البشري المشوي، وغبار البيوت المهدّمة، والجسور المحطمة، والمباني المدمّرة، والأجساد المقطعة، والأحلام المفتتة، ومشاهد الصور المرعبة… أطفال العالم في البحار والمسابح يستجمّون، وأطفال لبنان جياع هناك، لا خبز لا حليب ولا حلوى ولا دواء، وسبات تسكنه كوابيس وبكاء، وعيونهم معلقة في سماء لا تمطر سوى عناقيد الموت والدمار، وأرضا تشتعل تحت سعال القذائف والدبابات… أجساد غضّه أنهكتها أزيز الطائرات، وقصف المدفعيات، وقعقعة الصواريخ العابرة للحدود والممّرات، وحديث الحرب وصفارات الإنذار، وولولة سيارات الإسعاف، والنيران المشتعلة في الأشجار والأحجار والبيوت والأجسام… تلك هي بعض مشاهد واقع الدمار، من حرب مسعورة، تحاول قصف أحلام طفولة لبنان، تريد أن تسطو على براءة الأطفال، لتكون الصورة أطفالا من مختلف الأعمار، يتوسّدون الانتظار، يترقبون انقشاع السماء ليعودوا إلى مواطنهم هناك، ليرسموا على كراساتهم المنهكة بقلم رصاص، بعض النداءات أو بعض البلاغات، أو بعض الكلمات منادين: يا أهالينا في كل المواقع والمهاجر من وراء البحار هناك، يا أحبّابنا وأصدقائنا في كل المواقع والمنابر الشريفة، التي تحترم الرأي والرأي المضاد، وتحاول بناء العقل، وزرع الفعل الحضاري، وبذر قيم الدفاع عن العرض والأرض وتثوير الضمير، يا كل الصحف والجرائد التي تحترم البشر والعباد، وتشترك معنا في نفس المصير، يا كل المستيقظين في زمن السبات وزمن الفتات، وزمن النعاس وزمن السعير، يا كل هؤلاء، يا كل الأقلام الحرّة المنتفضة على الرسوب في المناطق الوسطى، ما بين الفعل والتنظير، ما بين النص والتحرير، ما بين الكلام والتحليل، ليكون الحرف الواعي شاهدا على العصر، محتضنا لهموم ومتاعب الإنسان، بعيدا عن المربّعات الجغرافية والحدود الإقليمية، يا تلك النصوص والكتابات الصاحية التي ترفض أن تكون تكرارا لهزائم العقل العربي، واجترارا للتحنط الإعلامي، ولا تروم الركود في نفس المكان وفي نفس الزمان وفي نفس الخطاب، يا كلّ الصحف والجرائد والمجلات الناضجة المحتضنة لأرض الآباء، من أجل حصد الأعشاب الطفيلية وزرع نبات المعرفة وثقافة الحوار الجاد، من لبنان الكرامة والفداء نحن أطفال صغار خارجون للتو من رحم الركام، نرسم على جبين التاريخ سمفونية الصمود والتحدي ومقاومة الاحتلال… يا أهالينا في كل أرض ومكان، نحن أطفال " صيدا، ومارون الراس، وبنت جبيل، وعيتا الشعب، وقانا المكرّرة، وبيروت، والجنوب، والبقاع، وكل أطفال لبنان… نقول لكم أننا عائدون، عائدون، رغم القصف عائدون، رغم اللهيب عائدون، رغم التدمير عائدون، فما عاد ألامس يشبه اليوم، ولا بقي التاريخ جامدا كما كان منذ سنين، فقد انتفض لبنان الإرادة على العقل العربي المهزوم، ورسم ملامح التغيير وعناوين الصمود وعدم الانحناء…إننا عائدون، وعبركم نقول أن التاريخ لا يصنعه المتخاذلون، وأن التغيير لا ينجزه المترددون.. إننا يا أحبّائنا عائدون، عائدون للبناء والتعمير، والقطع مع عهود القمم الجدباء، والخطب الجوفاء، والحلول الحدباء، وكل المفاوضات العرجاء…إننا عائدون، عائدون… ▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪ نُشِرَ في : ◙ جريدة القدس العربي ←/ 24 – 9 – 6200 ◙ شيكه الأقلام الثقافية ←/ 29- 8 – 2006 ◙ شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ← / 24 – 8 – 2006 ◙ المسيرة العربية ← / 27 – 8 – 2006 ◙ سوريا الحرة ← /27 – 8 – 2006 ◙ موقع تيسير علوني← / 26 – 8 – 2006 ◙ تونس اونلاين ← /28 – 8 – 2006 ◙ بانوراما سورية ← / 27 – 8 – 2006 ◙ تونس نيوز ←/28 – 8 – 2006 ◙ الحوار نت ← / 29 – 8 – 2006 ◙ مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية←/28- 2- 8 – 2006 ◙ نواة ← / 29 – 8 – 2006