بشكل متأخر نسبيا، ظهرت الفلسطينية "رائدة طه" ممثلة على خشبة المسرح، والمصادفة وحدها هي التي نظمت لقاء عفويا مع المخرجة اللبنانية "لينا أبيض" فانطلقت المسيرة بينهما بنص "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني... لم تكن "لينا" ترى غيرها في دور "صفية"، ومن هناك اكتشف الجمهور اللبناني والفلسطيني والعربي الممثلة في "رائدة طه" التي كشفت فيما بعد أن المسرح والتمثيل هما حلما الطفولة، وأنها أحبت دائما أن تحمل قضيتها على خشبات المسارح. في سيرة "رائدة طه" الكثير من المحطات المهمة، فهي ابنة الشهيد الفلسطيني "علي طه" الذي استشهد سنة 1972 في مطار اللد إثر عملية خطفه طائرة "سابينا البلجيكية" التي كانت متجهة إلى المطار المذكور... علاقة "رائدة" بوالدها استثنائية جدا، هي شديدة التعلق به، تتفاخر به، استطاعت أن تخلده بحديثها الدائم عنه، بكتاباتها عنه، وبمواقف شديدة الحساسية اتخذتها في حياتها كرفضها الإنجاب من زوجها الراحل خوفا على تجربة اليتم التي يمكن أن يعيشها أطفالها المفترضون كما عاشتها هي واكتشفت مدى مرارتها... عاشت "رائدة طه" جزء من حياتها في تونس عندما شغلت منصب سكرتيرة صحافية للشهيد الراحل "ياسر عرفات"، وإلى تونس تعود لتقترح آخر أعمالها المسرحية "ألاقي زيك فين يا علي؟" مع المخرجة اللبنانية "لينا أبيض"، وكان في انتظارهما ليلة العرض في فضاء التياترو جمهور كبير العدد بعضه من الوجوه الفنية والسياسية، وأغلبه جمهور عاشق للمسرح، سمعة هذا العمل المسرحي سبقته إليه فلم يرغب في تفويت فرصة مشاهدته، لكن "التياترو" لم يتسع لنصف العدد. "ألاقي زيك فين يا علي؟" ميلودراما مؤثرة مستوحاة من تفاصيل واقعية عاشتها عمة "رائدة طه" "سهيلة" المرأة الفلسطينية التي لا تحسن القراءة والكتابة، ولكنها ناضلت بصلابة من أجل استرجاع جثة شقيقها الشهيد "علي طه" ودفنه في القدس كما أوصى، وكان الاحتلال الإسرائيلي رافضا للفكرة خوفا من أن يتحول المدفن إلى مزار. الطريف في القصة وفي المسرحية هو لقاء "سهيلة" بكسنجر... توجهت إليه ببساطة أمام دهشة محيطها ومحيطه هو وتحدثت إليه بمنتهى الشجاعة والإيمان بما تفعل عن رغبتها في دفن شقيقها... "أنتيغون القدس" كما وصفتها "رائدة"، تقرع باب كيسنجر بجرأة، تطلب منه "اليوم قبل بكرا" أن يفك الحصار عن جثمان الفدائي علي طه القابع في الثلاجة منذ سنتين: "الأموات عندنا يدفنون يا كيسنجر". هذه المرأة كما ترويها رائدة، مستحضرة ومقلدة كلماتها وتعابير وجهها، نذرت ألا تنام وألا يهنأ لها عيش، ما دام أخوها في ثلاجة إسرائيلية... ويساعدها "كسنجر"في استرجاع جثته بعد سنتين من "النضال اليومي". الجميل في المسرحية أن "رائدة طه" التي ملأت الركح سردا وتمثيلا وأضحكت الحاضرين وأبكتهم في الوقت نفسه، تناولت الجانب الإنساني في قضية وطنها، بعرضها ليوميات عائلة الشهيد بعد رحيله، وانفضاض الكل من حولهم... وفي حياة "علي طه" الكثير من النساء: الزوجة والبنات والأخت (العمة) اللاتي عشن بذاكرة ممتلئة به، وبحرص متناه على صورته وعلى حضوره الطاغي في حياتهن وفي ذاكرة الوطن "ألاقي زيك فين يا علي؟" مسرحية تجعلك تحب المسرح من جديد... تضحك بعينين دامعتين و"رائدة طه" تعترف بأنها ليست سعيدة بعد استشهاد والدها وتسائله "هل القدس أهم مني؟"