نكاد نستمع في هذا القرن الحادي والعشرين ويا لغرابة المشهد لصوت أنتيغون, نكاد نستمع لموسيقى روحها المعذبة وننصت لنبض قلب رقيق أدماه القدرالذي اجتمع مع البشرعلى فتاة صغيرة ليجعل مأساتها مضاعفة وليجعل عذابها أكبر من أن يتحمّله جسدها النحيل وروحها الصافية ونفسها الشفافة. لم يتغير المشهد كثيرا وأنتيغون نكاد نراها بيننا تعيد على أسماعنا تراجيديا فتاة أبت أن تستسلم للقدر حتى وإن كانت تدرك أن صمودها يكلفها حياتها. أنتيغون المعذبة وأنتيغون السجينة التي فضلت الأسوار المغلقة على حياة القصور والملوك, أنتيغون وكما رواها الأديب الإغريقي العملاق سوفيكليس تحولت إلى قصة خالدة تتوارثها الأجيال وتستلهم منها إلى أيّامنا النصوص المسرحية خاصة تلك التي يحتاج أصحابها إلى نفس شعري صادق وإلى موسيقى نابعة من الأعماق ومن شغاف القلب. أنتيغون تأبى صورتها أن تفارقنا ونحن نحتفل بيوم المرأة العالمي. نراها قابعة في سجنها تنتظر اللحظة التي يأمر فيها الحاكم الجباركريّون بتنفيذ حكم الإعدام فيها. نراها قابعة في سجنها ولكنها ليست خائفة. إنها تمضي إلى قدرها قريرة العين مطمئنة البال لأنها لم ترضخ ولم تستسلم لقرار الحاكم. لقد رفضت أنتيغون ترك جثة أخيها مرمية للوحوش في العراء كما أمر الحاكم واستغلت ظلمة الليل لتضع حفنة تراب على جسد أخيها الذي حرمه الحاكم الطاغية من حقه قي قبريحمي سوأته ككل البشرلأنه خالف شريعته وتجاهل أوامره فكان أن صدرت الأوامر أن لا يدفن وأن تبقى جثته عارية تحرقها الشمس وينال منها الغباروتنهشها السباع. حركة بسيطة في شكلها لكنها عميقة في مضمونها ودلالاتها تلك التي قامت بها أنتيغون. لقد رفضت الفتاة الإستسلام لأمر الحاكم لأنها تحمل مبادئ ولأنها مدركة بقوة العقل أنها مطالبة بتلك الحركة الأخيرة لأجل أخيها. أنتيغون فضلت الموت على أن تضرب عرض الحائط بقيمة من القيم التي تؤمن بها وهو حق الأخ العزيز عليها في لمسة أخيرة تكرم بها جسده وكما معروف في كل الشرائع البشرية فإن إكرام الميت دفنه. أنتيغون تمسكت بهذا المبدأ رغم أنها كانت تعلم أن مصيرها الموت وهي بذلك عبرت بوابة الخلود. ما كان لها أن تبقى حية في الذاكرة رغم آلاف السنين التي تفصل بيننا وبينها لو لم تقم بتلك الحركة. كان من الممكن أن تمحى من الذاكرة مثلها مثل آلاف النساء بل ملايين النساء اللواتي مررن بالحياة ولم يحفظ التاريخ أي أثر لهن . لكن أنتيغون وبإرادتها اختارت أن تكون وردة فريدة من نوعها ومختلفة عن بقيّة زهور البستان. لم تنكسر أنتيغون ولم تنتحر لمّا هبطت عليها مأساة والدها الملك أوديب. لم تغادرها قوتها ولم تضع قناعا على وجهها كي يحجب عنها نور الشمس لأنها لم ترتكب خطيئة جتى وإن ولدت من رحم المأساة. امرأة حرة كانت أنتيغون وامرأة طاهرة وعفيفة . لقد تحولت إلى تلك العين التي يرى بها والدها أوديب الملك البصير الذي خلع عينيه بيديه وتلك العصا التي يتوكأ عليها الملك الأعمى. امرأة قوية كانت أنتيغون وامرأة جسورة جعلت من الضعف قوة وتقدمت في طريق مليء بالأشواك بلا خوف وبلا تردد. امرأة محبة كانت أنتيغون وامرأة مستعدة لأي شيء من أجل الثبات على المبدأ. ماذا ترانا نفعل ونحن نحتفل اليوم بعيد المرأة العالمي. هل نرثي أنتيغون شهيدة القيم والأخلاق أم نحتفل بامرأة رمز قامت بما عجز عنه الرجال. امرأة قالت لا للحاكم الطاغية وعصت أوامره كلفها ذلك ما كلّفها ذلك في وقت لا ترد فيها كلمة السلطان. هل نرثي اليوم أنتيغون ونحن نحيي عيد النساء وهل نبكي لحال فتاة بريئة انقلب عليها القدر حتى جف الدمع من مآقيها أم نحتفل بذكرى امرأة تزيدنا على مر العصور إيمانا بأن حق المرأة تفتكه بيدها وبأن المستحيل يصبح ممكنا إذا كانت كل النساء أنتيغون. أنتيغون التي تأبى أن تغادر الذاكرة وأنتيغون التي بقدر ما زادتها لوعتها اصرارا على الحياة نراها اليوم تختال بيننا عابرة للعصور قافزة من بين دفات كتاب سوفوكليس مشيرة إلى أنه هنا يكمن الدّاء وهنا يجب وضع الإصبع على الداء. قد لا تكفي قوانين الدنيا لتحقيق الأهداف المنشودة إذا لم تصحبها إرادة حقيقية. وما نحتاجه اليوم في تونس مثلا أكثر من أي وقت مضى - لأننا في مرحلة انتقالية مهمة في تاريخنا المعاصر- ما نحتاجه اليوم لا يقف عند دسترة حقوق المرأة والتنصيص على المساواة بين الجنسين في دستور البلاد الجديد على أهمية كل ذلك, ما نحتاجه هو زرع ثقافة جديدة تستند على القيم الكونية والمشتركة بين البشر. ما نحتاجه اليوم هو أن نستوعب التاريخ وأن نقرأ جيدا قصصا كتلك التي رواها سوفوكليس فمن رحم المآسي تولد الحياة من جديد أما التاريخ فلا يحتفظ في ذاكرته إلا بمن يقبل التحدي وأنتيغون الخالدة واحدة ممن كتبوا التاريخ.