٭ تونس «الشروق»: كتب نور الدين بالطيب كم يحتاج العالم العربي من مسرحية مثل «ابن رشد.. اليوم» لضخّ روح الحداثة والتنوير في جسد الثقافة العربية التي تعاني من هيمنة التقليد والفتاوى وثقافة القبور والمراثي؟ هذا السؤال ألحّ عليّ وأنا أغادر مسرح الحمامات مساء أمس على إيقاع تصفيق الجمهور المتواصل لفريق مسرحية «ابن رشد.. اليوم» التي اشترك في اعدادها ثلاثي من أبرز المسرحيين التونسيين عز الدين المدني ومحمد كوكة ومنصف السويسي قائد الفريق ومنتج العمل. مسرحية «ابن رشد.. اليوم» التي اختارها المسرحي الأسعد بن عبد اللّه مدير مهرجان الحمامات الدولي لافتتاح الدورة أوفت بكل وعودها وكانت عملا متكاملا جمع بين روعة أداء الممثلين وأغلبهم من الشباب وجمالية السينوغرافيا التي كانت متناسقة مع خصوصيات ركح الحمامات وشعرية النص وحداثته. تقدّم المسرحية سيرة الفيلسوف ابن رشد المعروف في اللغة الاسبانية ب «Averroes». عاش بين (1126 و1198م). ويعتبر ابن رشد من أهم فلاسفة الأندلس والمسلمين تفرّغ للدفاع عن الفلسفة وترجم وشرح أرسطو وصحّح نظريات سابقيه كابن سينا والفارابي في فهمهم لنظريات أفلاطون وأرسطو. درس الكلام والفقه والشعر والطب والرياضيات والفلك والفلسفة، تعرف على أبي يعقوب خليفة الموحدين عام 1182م عن طريق أستاذه ابن طفيل وعيّنه طبيبا له ثم قاضيا في قرطبة التي تولى فيها أيضا منصب قاضي القضاة في قرطبة ثم التحق ببلاط الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور (1184 1198) وعانى فيه من دسائس الفلاسفة والمحيطين بالمنصور الذين أوغروا صدره عليه ولفّقوا له تهمة الإلحاد والكفر مما أشعره بالاحباط فيحرق كتبه وجميع مؤلفاته الفلسفية، ومنع ابنته والمقربين منه من الاهتمام بالفلسفة وفي الوقت الذي يعاني فيه ابن رشد من المطاردة والتكفير تستقبل الأوساط المسيحية فكره فتتولى ترجمته ونشره لإشاعة حرية الفكر والتشجيع على التفكير الحر. المسرحية حوالي ساعة و40 دقيقة قدّم محمد كوكة ومنصف السويسي عملا مسرحيا متكاملا اعتمد فيه على ركح خال تقريبا من الاكسسوارات المسرحية باستثناء الأعمدة وكانت المسرحية مراوحة بين الحاضر والتاريخ من خلال شخصية الراوي (قاسم الشرميطي) الذي يتنقل بين الأندلس ومرّاكش بحثا عن بقايا ابن رشد في مظهر السائح ويطرح السؤال الكبير المؤلم لماذا تقدّم الغرب وتأخّرنا نحن وهو ما تجيب عنه سيرة ابن رشد (منصف السويسي) الذي يعاني من دسائس المقربين من البلاد الموحدي مثل الوزير ابن عطية وأعوانه فيضطر مرة للتخفي ومرة للهجرة لكن الأعوان دائما وراءه. أسئلة ان هذه المسرحية موجعة ففيها طرح كبير لسؤال عن غياب العقلانية المطاردة الآن في العالم العربي وفضح للفهم الخاطئ والغريب للإسلام الذي شوّهت المجموعات المتسترّة به صورته السمحة ولعلّ في صرخة ابن رشد التي تتردّد على لسان منصف السويسي «ويل للإسلام من الفقهاء» و«ويل للإسلام من المسلمين» أكبر تلخيص لهذه المسرحية الرائعة التي تحمل رؤية لواقع الفلسفة في العالم العربي اليوم وواقع التفكير الحرّ والعقلاني فقد عاد المنطق الذي عانى منه ابن رشد منطق التكفير ومنع الفلسفة والجدل إلى الظهور مع مجموعات التطرف وهو سرّ تراجع العرب عن التأثير في الثقافة الانسانية. مسرحية «ابن رشد.. اليوم» صرخة مسرحية من أجل حرية التفكير والاختلاف برع مجموعة من الممثلين الشبان بقيادة محمد كوكة ومنصف السويسي في تقديمها وكم نودّ أن نشاهد في كل موسم مسرحي أكثر من عمل مسرحي في هذا اللون الذي يكاد يندثر .