أعطى الشعب التونسي بمناسبة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي نموذجا فريدا في القدرة على التنظيم والانتخاب الحر والنزيه والشفّاف ، أصدقاء كثيرون من داخل تونس وخارجها اتّصلوا بي أمس مُعربين عن إكبارهم لهذه التجربة التونسيّة الرائدة في الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي الهادئ والحضاري، الملاحظون والصحافيون الأجانب الّذين تابعوا مجريات الحملة الانتخابيّة ووقائع يوم الاقتراع والتصويت وفرز الأصوات كانوا – ولا يزالون- في حالة من الدهشة والذهول أمام ما رصدوه وعاينوه من تشبّع «تونسي» بقيم ومبادئ الدولة المدنيّة والممارسة الديمقراطيّة والتعدديّة الحضاريّة. «صور الطوابير» وساعات الانتظار و«اللهفة» على دخول مكتب الاقتراع و«الخلوة» ومن ثمّ القيام بالواجب الانتخابي فانتظار النتائج لاحقا كلّها أشياء رسمت وخطّت من جديد وبأحرف من ذهب «عظمة هذا الشعب» وعبقريته وقدرته على أن يكون بإرادة صلبة حاضرا في مثل هذه الأحداث الكُبرى والتاريخيّة. انحاز الشعب التونسي إلى الممارسة الديمقراطيّة بقوّة وإصرار في أوّل تجربة حقيقيّة تُتاح له ، وقدّم درسا في الوعي السياسي والممارسة السياسيّة، وعي وممارسة سيظلاّن مدادا خالدا على مدار القرون المقبلة دليلا على نضج الشعب وأحقيّته الفعليّة بمثل هذه المكتسبات الديمقراطيّة والحداثيّة ، وكان المواطن التونسي العادي جدّا ورجل الشارع بليغا في تلقّف أهميّة اللحظة التاريخيّة الراهنة تجاه «الحسم الانتخابي الديمقراطي» حينما أقبل على مكاتب الاقتراع أفواجا أفواجا راصدا وعل عكس ما يعتقدهُ البعض طبيعة الأشياء المتحرّكة من حوله رافضا الانسياق خلف تجاذبات إيديولوجيّة وفئويّة ضيّقة انحدرت إليها أطياف عديدة من النخب والأحزاب و«الشخصيات الوطنيّة» بعد 14 جانفي ، تجاذبات كثيرا ما هدّدت مسار الانتقال الديمقراطي وبلوغ تطلعات الثورة إلى شاطئ الأمان. أكّد «الشعب التونسي» أنّه من طينة الكبار ، ومثلما خرج أيّام الإطاحة بالنظام السابق خرج الشعب التونسي هذه الأيّام ليصنع حدثا ثانيّا لافتا أدار له أعناق العالم كلّه، ومع هذا «الدرس البليغ» آن للنخب والسياسيين التونسيّين أيّا كان موقعهم أو انتماءاتهم أن يُواكبوا بكلّ جديّة ومصداقيّة الروح الّتي يمتلكُها هذا الشعب وأن يسعوا إلى «استيعاب الدرس» وان يكفّوا عن نهج المزايدات والمُغالطات والمناكفات السلبيّة والرديئة وأن يقطعوا مع سلوك «استنقاص» وعي الشعب التونسي ونضجه السياسي. الشعب واع وناضج ويفهم في السياسة بل ويُحلّلها ويُقدّم فيها الطروحات ،حدّثني زميل في قناة أجنبيّة صباح أمس منبهرا:»كنت في أحد الأحياء الشعبيّة بالعاصمة التقيت شابا أوجد بي بعض الخوف في البداية من خلال مظهره الخارجي ..اضطررتُ اضطرارا لمنحه فرصة الكلام أمام الكاميرا...لقد ذُهلت حقّا : تكلّم ذلك الشاب وحلّل وقدّم رؤية سياسيّة عميقة جدّا لواقع الحياة في تونس والصراعات الحزبيّة والتحالفات والتآلفات والتجاذبات...خلت نفسي أمام خريج أحد الأكاديميات السياسيّة في أوروبا أو أمريكا». وأنا أقول: «ذلك هو المواطن التونسي العادي..وذلك هو الشعب التونسي الحق»..