((وكن من أنت حيث تكون، واحمل عبء قلبك وحدك)) محمود درويش. ((من كان لديه سبب للحياة، فبإمكانه أن يتحمل كلّ أحوالها)) فريدريك نيتشه. يا لهذه المضغة العظيمة! عظيمة بما تخفي من أسرار مدهشة وتحمل من متناقضات غامضة وتحوي من تفاصيل سحريّة. كم يقدّس هذا القلب الصغير الحجم في محرابه. كم يرزح تحت شطط لُهاثه ويستمر في الخفقان. كم يتجرع ويحوي دون أن ينضح بما فيه، أو يشتكي لأحجار القاع وصخور الأودية، أو أن يثور في طلاسم الكون الغادرة. أو أن يتوقف في دهاليز معتمة ليلتقط الأنفاس، مناديا: رحمة بي أيتها السماوات القديرة. كم يزدحم ويعج دون أن يفيض تأسيا. بضع قطرات قد تخفف من ضغطه الغاشم وحمله الطاغية. كل ما يشعر به ويسعده ويرضيه ويقبل عليه ويرّف له ويتلهف لديمومته، جاء في الوقت الخطأ. بل عليه أن يكتمه ويخبئه بين شراغيفه وطياته. يطالبه بتوقيع التزام مقدس وميثاق غليظ بتجاهله وعدم التعامل معه ثانية. أو يقبع في الجمود والتحجر متظاهرا بعكسه تماما. منسلخا من بذخ يقينه. منتفخ الأوداج، متفاخرا بالصبر والجلد ومهارة التخفي. هل هذه مزحة الوجود الدائمة؟! أم فتنة العيش الحياتي اللعينة؟! أم تحدي فردي في قوة التظاهر والتمثيل وإجادة التقمص أمام لجنة تحكيم غير مرئية تجلس عن اليمين والشمال كالملائكة ناكر ونكير؟ ! جلست تتفرس في تفاصيل الوجه المتجهمة في بلور النافذة المشوّب بالغبار والأتربة. لم تتبينها جيدا من بين طيات الأخاديد والبؤر المنتشرة به. هل كانت من جرّاء ظلال البلّور المتسخ، أم من الأحزان والإحباطات العجيبة المتراكمة. أخذت تتذكر في سهوم وشحوب كل شخص تورط معها في شفرة حياة، وترك لديها أثرا ولو ضئيلا بين ثنايا الجلد. أما آثاره في شقوق الروح، فمن ضراوة الوجود ألا تبين ولا تتفجر. والعجيب أنه لا يوجد أثر يشبه أثر. ولا يوجد شعور يشبه شعور. بل لا يوجد شعور مماثل مطابق يتشكل ثابتا مع نفس الشخص ونفس المكان. سعلت فجأة. انكمشت فوق مقعدها مخافة المنعرجات المتعاظمة. تحسست موضعه في صدرها. انتظمت الأعضاء جميعها الآن في العمل بتوافق جديّ -دون تناحر-لإصدار انقباضات عاجلة متزامنة بشكل هارموني، كأوركسترا مباشر يعزف أمام جمهوره في كونشيرتو خاص على شرف وجوده. شرف تلك المضغة العظيمة. يا للمأساة العجيبة القدر، من نفس ذات الشخص، ينبعث ذاك الشعور كردة فعل تجاهه، بسرعة مدهشة. يتفاقم وينتشر في تلك المضغة العجيبة. لوكان مبهجا ألقا، عرج بالقلب آفاق الأكوان الرحيبة. سما صوب الأنجم الشمسية يمدها بالطاقة والضياء. وإن كان مؤلما حزينا، أفلت له الأقمار والمجرات، وعتمت له الممالك والأفلاك وتكدست له الأوزار والمنايا والخطوب الجليلة. حطّمت ذراته وشوّهت جيناته لأجيال عديدة قادمة. في نفس المكان؛ بدون أن يجتهد أو يتفاعل أو يتغير، يعتريه مشاعر متناقضة متداخلة بدون تأهيل زمني أو ترشيح مضني. أما الزمان فله مواصفات معجزة لا تليق إلا له. الزمن قاسي، قاطع، لا يهادن قط. يفتنك ويغدر بك. يتحرك ولا يبطئ. لا يتهادى ولا يتعجل. لا يلتفت إليك ولا يتوقف أبدا عنك وحولك وإليك ونحوك. مهما اجتاحتك من مصاعب واعتلجت صدرك مصائب تبدو كطعنات قديرة آثمة، إمعانا في عقابك على صبرك وإخلاصك وغفلتك. ألمٌ قويٌ يضرب أسفل الضلوع من ناحية اليسار، أسفل القلب المنفرد، المنطوي على سريرته وأسراره. مدّت يدها تتحسس العطب الذي أصابه، دون أن تحاول الضغط عليه من الخارج. لا تعلم ما الذي دهاها لإعمال التفكير والتحليل في تلك اللحظات الحيرى والمشاعر العاتية. فالكل يمرون بتلك اللحظات من التيه بكل جلد. ويتعاملون معها ببساطة وتلقائية دون معاناة أو مبالغة أو انتهاك لمسيرة الحياة المتعجرفة. تنفجر بداخلها تخوم تلك الحياة وتتشظى لحظاتها اليانعة. "لن تمرّ هكذا. لن تمرّ. كل تلك الآلام الموغلة والطعنات الموجعة وتأثيرها السادي السادر في القلب، تلتهمني من الأعماق. لن تمر بدون ندوب ترف وآثار تثب. القدر ليس عادلا أبدا. والرّبُ يبدو غير مسؤول عني في بعض الأحيان. يتركني كي ينظر لي كيف أتصرف حينئذ. كالأب الذي يريد لابنه أن يعتمد على نفسه قليلا في مشاكله الحياتيّة، بينما ينمو وينضج، قبل أن يهرم ولا يتمكن من توجيهه ونصحه. أو أن ينقضي عمره ويتركه وحيدا ضالا حائرا في الحياة. لكن الرّبَ لا يموت، تركني فقط لعبثية لعوب متبلّدة. لم تحدد أيّ مسار منطقي منضبط في التعامل تجاهي. عبثيٌّة مباغتة تحترم ذاتي وتثمّن خصوصيّة خلقي وفحوى وجودي بهذا الكون. تستلذ بجعلي ضجرة مختلة، مختلفة عن كل من حولي من أشخاص." لطمت جبينها بكفها وأنّت في حسرة مكتومة والدموع تنساب في خط لؤلؤيّ متواصل ذاعنا للجاذبيّة الوعرة نحو براثن الأسطر الكثيفة. "سخريّة القدر الكبرى أن يكون هذا هو مسار حياة كلّ شخص. ودهاليز مضغة كلّ فرد يعيش حولي. الكلٌ في كامل التسليم لتلك السيرورة. ولا يستطيع أحد منهم التفكير أو الاعتراض على ما يحدث له". هل هي فقط التي تكلمت واعترضت متسربلة بالسخط، واعترفت وأمسكت القلم وأحبّرت ما أحبّرت بدموع عينيها؟!. تنظر خلفها في غضب متيقظة الحواس: "كلٌ من عرفت من أشخاص، نحتوا مسارهم العميق في مشاعري. وجدتُ لهم محطات ملهمة دامغة وأغراض وادعة مبهجة. تركوها حينما غادروا بلمح البصر قلبي، بعد أن لفظتهم الظروف، جاءوا في الزمن الخطأ. هل عليّ أن أتوقف عن منح أجزاء من روحي لأولئك العابرين المتلألئين؟!." آلامٌ فظيعةٌ تنهش في زوايا رأسها وحناياه. تقيم جدرا خرسانيّة شاهقة ما بين التلافيف والأفضية ثم ما تلبث المعاول الإخلاص في الهدم والتكسير. أنقاضٌ جمّةٌ زحفت بين تجاويف عقلها الغاضب هادرة. دقاتٌ موقعةٌ متتابعةٌ في الشرايين الموصلة للدماء المحملة بالأكسجين إلى المخ ينخلع لها الفؤاد. صفعاتٌ من الخيبة وصدماتٌ من الخذلان ولطماتٌ من الوهم، تهدّ هذا الجسد الفيزيائي العجيب. كأنها اصطدامات مدويّة لعربات قطار سريع توقف فجأة، فافترست العربات اللاحقة العربات الأولى -الواحدة تلو الأخرى-بشهوة فاجرة. ودّت لو عانقته بشبق، ولثمت شفاه أوردته وباغتّت شريانه الأبهر؛ الذي تخلى عن شروده وشروره وعداوته ولجاجه وجحوده وشقائه ونفاقه، محافظا على رقصته الجزلى في الإقبال اللطيف والإعراض الخفيف. تناولت أقراص دوائها: قرص لدقات القلب المتسارعة الكارثية، وقرص لدمها العالي الضغط العنيد. وقرص ثالث مسكن أقوى لتخفيف بعض آلامها الصادمة وأوجاعها المتأججة. مدها يا رب الأرباب بمدد التسليم. ارسل لها وحيّك اليقين. ارسله إلى هاته المضغة العظيمة. ((الوحيّ الحيّ في طويّة الإنسان، وليس في طوايا الكتب والأوراق)) كما قال المسيح للحواريين وهو يشجعهم على استكشاف وتطهير أعماق ما تحويه هاته المضغة. لم تجد بفمها قطرات رضاب نديّة. تناولت كأس الماء على مهل. تجرعت بعض رشفات. لم تعاونها العضلات المتشنّجة على البلع. التصقت الأقراص الحجريّة الهشة بجدر الفم الجافة وأعلى البلعوم. مصدرة تجمعات كيماويّة ثوريّة من الداخل تنادي بالولوج والانتشار، كوقفات الاحتجاج المطالبة الحكومة بالتشغيل والانتداب. بعد أن خدعوها بجدوى الثورات. شعرت بها أسفل حلقها من الخارج تدق مسامها بخدر يقظ. تبثُ ذبذبات كهربية ضعيفة الفولت في محيطه. رفعت رأسها على مهل أكثر محاولة تسهيل ولوج رشفات الماء. لمحت ملامحها مرة أخرى في الزجاج البلوريّ للنافذة. "هل هذه أنا ؟! فعلا؟! شابت رأسي وابيضت شعراتي في لحظات!" كانت جدتها تحذرها حينما يداهمها الحزن والهموم: "أبدا لا تلمسي رأسك عندما تغتمّين. سينتفض شعرك أولا من الهوان، قبل احتراق خلايا دمك وبصيلات أعصابك يا عزيزتي." عاودت تنشيط عضلات البلع مرّة ثم مرّة. ريثما انطلقت الأقراص الذائبة كشلال أبيّ يستسلم للجاذبية. يغمر أطراف الفم والحلق نحو المعدة. في أقل من لحظة ترتصف الأحداث والمواقف في ذاكرتها تلقائيا. فيلم كامل من المشاهد واللقطات وحيوية الأحداث والأشخاص. يصيب المضغة بالكآبة والحسرة فتفيض على كامل الأعضاء وتغرق المخ في إظلام تام. فلا يظهر له سوى السواد البهيم الذي يلف قاعة السينما بعد انتهاء تترات الفيلم النهائية وسط ذهول الجمهور من النهايّة المفجعة غير المتوقعة. رفت المضغة العظيمة نبضات غير منتظمة. لم يعد يأمل في حياته سوى الانسحاب الكلي من ذلك العيش العادي الرتيب. لو ملك المصير وحده دون مشيئة رب الأرباب لسلّم في تلك الأيام الباقية له بكل رحابة وطيب خاطر. وفي أقل من لحظة أخرى، مختلفة تماما عن تلك اللحظة الكئيبة. تلك التي نجا منها بأعجوبة. يمرّ عليها فيلم كامل آخر مختلف عن الفيلم الأول. مليء بالمشاهد واللقطات وحيوية الأحداث المختلفة. باحتماليّة أن يكون الأبطال، أبطال الفيلم الأول، هم أنفسهم ذات الأبطال في الفيلم الثاني. لقدرتهم على إدارة التنوع وتجويد التقمص وإجادة العديد من الأدوار المختلفة في جل المواقف والأفلام والحيوات. فتمرح تلك المضغة في محيط من الأهازيج والجنون ومتعة حب الحياة واللذّة المفعمة بالأمل. تتبتل إلى رب الأرباب مأخوذة، الإمعان في لوثة الغرق الاستثنائيّة. والتمسك بتلابيب هاته اللحظة المتوجة المدهشة المتوهجة. تدعوه أن يجعل الحياة سرمد أبد. إلى أن ترتب معه مراسم حدوث الآزفة وتواكب معه قيام آخرته المنتظرة. ويا للعجب، يبقى الرّبُ شاهدا صامتا هادئا قديرا جبارا ينظرها من حيث لا تعلم. مازالت الضربات الموحشة مستمرة في التوغل والتعاظم بين تلافيف المخ، تدكّ الذاكرة بإتقان وانتظام وصلافة. غير مكترثة بسيل الأقراص الدوائيّة الذائبة في الماء التي مازالت تشق طريقها الجاف للمعدة. باستثناء بعض اللزوجة والرطوبة التي أحاطت بالمجاري المائيّة الخرقاء بعد التشقق والجفاف. ما تفعله بنا تلك المشاعر البسيطة العمر الزمني، التي لا يلقي لها الشخص الفاعل البطل أيّ بال، مذهلا وصارخا ومتفردا وعميقا في وجيب القلب. تهاجر به حيث يعتقد أنها المهجر الاستثنائي المفضل ولا رجعة. أو هي "سقر" التي أصرّ أن يأوينها ذاك القرصان المثير الخادع بين عذابات محيطاته السبعة. حينما رفضنا أن نعلمه خريطة الكنز. هي تُرّهات ثملة تحيط بالنفس تزعزع سلامها. تؤنبها على وداعة تلك اللحظات المنكسرة التي تمرّ على المضغة. ثم تقلها مباشرة صوب تقاطعات خطرة من السأم والاحتياج والريّبة. هل التبست عليها نزعات الانسانيّة وباغتتها دفقات القنوط الزلق. ليست مزحة ولا شك هذه المرّة. "من يعرفني؟! هل تعرفني!؟ من أين تعرفني!؟ ومنذ متى وأنت تزعم أنك تعرفني!؟ تعرفني جيدا!؟ من يعرفني جيّدا يرأف بي ويعتني لحالي ويهتم لأمري. ينصت جيدا لما أبوح وأهذي. ثم يربت على خدي. قد يخطفني في عناق نافذ." جثت على أقدامها أمام عرش المضغة تتوسل لها أن تكف عن التحديق. أن تتوقف عن الانتباه عما يصدره الآخرون من أفعال أو أقوال. أن تهجر الطواف بالحاضر والاستغراق في ضفر الماضي والآتي معا. رجتّها أن تعمل على تغيير قبلتها، وأن تمضي في نهج الخفقان ولا تبصر موقع خطوها أبدا. تتلمظ موجات من الملح المعدني اللاذع. تحيلها إلى لزوجة كثيفة صعبة البلع. تحاول التخلص منها بالبصق على الأحرف فوق أسطر البوح على أوراق الدفتر. تأبى إلا أن تعتني برسم الحرف في الكلمات والأسطر. تماما كما تعتني المضغة بكلّ احساس يصل إليها وتسجل كلّ شعور يصدر عنها. ارتجافاتُ صاخبةُ طافحةٌ بالكارثيّة تتوسل الراحة لكامل الجسد. يخيّل إليها أنّ المضغة على أعتاب الدخول في كآبة من المستوى الثالث عشر. ذاك المستوى الذي يجعل من الشخص ضعيفا مترددا غافلا هشا موحشا، يودّ التخلص من حياته مرات عديدة خلال نهار اليوم الواحد ويجبن في كلّ مرّة. يسقط في آخر الليل مغشيّا عليه من تعب المحاولات الذهنيّة. يستيقظ فجرا مخاطبا رب الأرباب بصدق ووحدانية، آملا في تغيير ما، من لدنه هو. لن يعلم أنّ رب الأرباب قد قدّر عليه تلك الكآبة، تسير معه متشبثة بمسار قطار حياته المُضل. وأن ذاك الأمل المرجو الذي ينتظره في كل فجر وينادي به، سيبقى موازيا لأيامه كقضيبي سكة القطار اللذين لا يلتقيان أبدا. ولكنهما ضروريان لمسير القطار. "من يكترث بك حقا، كما يجب؟! بل كما تحب أنت وتشتهي. هل من أحد، يكترث بك؟! فقط، يستمع إليك. ينصت جيدا لما تقول وتهذي. قد لا يفهم ما يتراكم في مضغة قلبك الفقير أو ما يتساقط من أوراق حياتك الذابلة. ولا يدري حينئذ ماذا يفعل بك وبهم؛ تلكم الكلمات المتقاطعة العدائية والمشاعر المنثورة العرجاء والأوراق الصفراء الهشة. لكنك لا تستحي أن تُريه إيّاها وتُسمعه حروفها. ترنو إليه في ذات اللحظة ويرنو إليك. قد يُومئ إليك حينها بأنه ممتن لأنه قد اشترك معك في عيش تلك اللحظة الثمينة من التشظي والبوح ومخاض الغرابة والجنون. وقد تُومئ إليه أنت تشكر له وجوده في مقاسمتك اللحظة وأكسجين الغرفة الملوث بالآهات. ليس هناك من أحد. ترد عليك أصداء الصدى". هبطت الآلام الفائقة بذكاء وخفة نحو العينين الجاحظتين. رفعت أناملها لتمسيد المناطق المتاخمة لهما في محاولة للتخفيف والرأب. بذلت محاولات مخلصة كي تصمدا مفتوحتين. انتصرت الآلام على هشاشة أعصاب تلك المنطقة الحساسة، في النهاية. سارعت بإغماض عينيها برهة، لحظة، دقيقة. تفصّدت عرقا باردا نقيا. تيقنت أنها لن تقدر على استكمال البوح وإفراغ التشظي، وهما على هذه الحال من المعاناة والإلحاح. اضطرت إلى انتزاعها من محجريهما مرتبكة. وضعتهما أمامها فوق الطاولة. تسمّرت ممتقعة الوجه، لتجد العينين تحدجانها بنظرات رافضة متحدية: "يا لك من نرسيسة عنيدة. لا ترى إلا ذاتها المبهمة ولا تعيش إلا لكيانها الآسن." حتى أعضاءها الخاصة تقذفها بما ليس فيها وتحجر عليها تعاطي المقاومة وممارسة الاعتصام. استمرت في الكتابة متأففة منسلخة البصر لا البصيرة، مُحبّرة الأسطر بالدماء النازفة من محجر العينين. إلى أن أسدلت الجفون أهدابها مستسلمة في هدوء إلى حين. تأنقت تانيك الشفتان بالترنم والتمتمة الهامسة. "لكلماتك شذى غريب معقد التصنيف، يتجاوز ثورات التعبيريّة والرمزيّة والميتاسورد. أعبري إلى ضفاف روحك. قاومي النمطيّة البالية للنضج. تولد معك الأحلام". التفتت إلى الزجاج البلوريّ للنافذة، تاقت أن تنظر للشفتين وهما تنيران عتمة لحظاتها، وتتغزلان بما تخطط. كان الوقت يميل للشحوب، تماما كروحها. لم تتمكن من رؤية الشفتين جيّدا. لا تستطيع أن تحدد بالضبط هل هو مجيء صباح أم ميلاد مساء. الرياحُ توقفت الآن. السماءُ رماديّةٌ متجعدة بغصات وشهقة. أصوات العصافير المتفائلة والطيور المزقزقة العاشقة لم يعد لها وجود. هل تنتبه الطبيعة لما تكتب؟!. لم تعتد الطبيعة أن يبوح أمامها الأشخاص بثقل ما في المضغة من هموم. لم تعد ترى العالم من حولها بعد أن اختارت أن تريح عيناها فوق طاولة المشاركات الواقعية المفقودة. لم تعد ترى ما تكتب. لكنها تكتب. تعانق ما تكتب من أوراق. شوقها الدائم إلى رسم الكلمات كحبل من حنين يلتف حول المضغة؛ كلما خفقت خفقة؛ اشتد حبل الحنين على المضغة وضاق عليه. تأوّهت وأنّت زافرة. ضمت كلماتها بشدة إلى صدرها، علّها تضمد جراح المضغة العظيمة، المريضة، الواهنة، المصابة بالاكتناز القهري. تلك التي تصرّ أن تجمع فيها المواقف والأحداث رافضة التخلص منها بالنسيان أو الإهمال أو التعالي. تعشق أن تبقيها حيّة تعيش بين جنباتها، مهما كانت بالية أو تافهة أو موجعة. لا أهمية لقراءة ما تكتب. في لحظات الاكتئاب لا يهم السمع أو القراءة. لا يهم تتبع إصدارات الحواس أو رغبات الجسد. جلّ ما يهمها كان تفريغ بعض من المخزون الهائل، المضغوط في المضغة العظيمة. التي ما تلبث أن تمتلئ وتمتلئ وتمتلئ. ولا تكف عن الامتلاء. عشرات الملايين من اللحظات وتلال المشاعر تلو المشاعر. تباغتنا وتنهشنا وتحتال علينا. نسلم لها حينا. ونلفظها حينا وحينا. لكنها أبدا لا ترحل. تعود لتتغول وتتوحش وتفترسنا. تستعمر لحظاتنا الحالية والقادمة معا. الأسطرُ تفتك مكانها فوق بعضها مطلسمة المعاني. الكلماتُ تندمج فوق الكلمات في تماهي مخادع. الحروفُ تعانق الحروف بوجاهة الترميز. المعاني مجندلة بالغموض متخفية، تغالب دوامة الشفرات المحتومة. أوراقُ الدفتر لم تنته، والكلام أيضا لم ينته. قلبها يحدثها بذلك. مازال نزيف التطهّر يجري. تشعر بذلك بقوة. نزيف يداهم خبايا في روحها كانت مبهمة. إن كانت لا ترى الآن، فرّب الأرباب يرى ويوافق ولا يتدخل. ينظرها وينتظر حذقها ومفاوضاتها مع رعايا جسدها. يناظر توافقها مع المخلوقات التي تنبض تحت جلدها. تلك الأعضاء المتشظيّة التي تتقارب وتتسامح وتندمج حين تلامس اهتماما من مضغة عجيبة لغريب عابر متلألئ. استمر نزيف محجر العينين في بطء يتساقط لزجا دافئا فوق أصابعها. تعكف على ترجمة الضباب الموغل في روحها بنرسيسيّة فريدة. في انتظار أن يعطي التأثير الدوائي مفعوله في جسدها وأعضاءها وأعصابها. مازال الكلام مسترسلا دفّاقا. يزيد تدفقه مع أوجاع المضغة العظيمة وألام عظام المنطقة المحيطة بها. دامت الآلام الأخرى أم خبت، لا يهُم. كلٌّ في شأنه يسعى. تسعى الآلام لاحتلال مساحات أعظم. تسعى العينان للإغماض والراحة. تسعى المضغة للاستيعاب والاحتواء. تسعى أقراص المسكن لبث الفاعلية والتأثير على كامل الجسد. ومازالت أناملها تسعى لاستفراغ التشظي وتفكيك شفرات الضباب المتكاثف بسماوات المضغة العظيمة. قبل أن يسري مفعول أدوية تسكين التطهر وموات البوح واغتيال اليقظة التي لا تدوم طويلا. د. أنديرا راضي