…خاب أملُنا مرة أخرى في ذلك اليوم،السبت 02 ديسمبر 1995،في الذهاب إلى السجن،بعد أن اقتصرت جلسة الاستماع لدى عميد قضاة التحقيق،للاستماع لي شخصيا ثلاث ساعات ونيف،وأذِن بإعادتنا إلى بوشوشة مرة أخرى، إلى غاية الاثنين الرابع من ديسمبر. وسنقضي اثنين وسبعين ساعة،هي أطول من اثنين وسبعين يوما،في انتظار استكمال “التحقيق”.اقتصر عمل العميد في ذلك اليوم على “التحقيق” معي،وسوف يذهب إلى عطلة نهاية الأسبوع بين أهله أو أحبته،فيما سوف نذهب نحن،جُناة العصر،وأعداء الوطن،الذين تُغيضنا نجاحات البلاد،إلى نهاية أسبوع من يَحْموم في بوشوشة.وإذا كان بوشوشة هذا جحيما في كل يوم،فهو في نهاية الأسبوع “الدرك الأسفل من “الجحيم”..؟”… …. وقُبَيل المغرب بقليل،تُفتح أبواب غرف الإيقاف وزنازينه أمام الموقوفين،فيهرعون جريا وتدافعا للساحة العامة،حيث سيجدون في بابها إناء ضخما [الباكية] تتدافع فيها بِركٌ من الماء المُحمّر،تتراقص فيه حُبيْبات من الجلبانة اليابسة تفوح منها رائحة كريهة قديمة،وآثار من كُويْرات زيت مقليّ متباعدة متنافرة،فيَغْرِف “الكبران” لكل موقوف غَرفةً ويمد له قطعة واحدة من خبز شبه يابس،ويتفرق الموقوفون هنا وهناك في الساحة يتناولون قطعة الخبز بيد والإناء البلاستيكي البائس بيد أخرى،يعبّون منه عبّا بدون ملاعق،و”يتعشّون” تحت صراخ “كبران” آخر في وسط الساحة،أن أسرِعوا في الأكل،وأعيدوا الأواني،”فأصدقاؤكم ينتظرون”؟. لم أر أحدا من أصدقائي و”أولاد قضيّتي”،فانتحيْتُ جانبا في إحدى زوايا تلك الساحة ذات الجدران الشاهقة،والتي تعلوها طبقات بعضها فوق بعض من الأسلاك الشائكة،ونظرت في ذلك “العشاء”،فرأيت قطعا من الدود اليابس،الذي أفرزَتْه حبَيْبات “الجلبانة الجافة إذْ طُهِيتْ،تطفو على سطح “المَرق،وفجأة هاجمتني نوبة عاتية من القيء العنيف،كنت أحس كما لو أن أمعائي ستنقذف دفعة واحدة من بطني الخاوي،وضعت “عشائي” أرضا،ورفعتُ رأسي “للسماء”،أردّ القيء من حيث أتى…وأمعائي حيث كانت،وذهبت إلى فناء الساحة حيث توجد حنفية يندفع منها ماء قوي في حوض واسع تحتها،حيث صببتُ ذلك “المَرقَ”،وأعدتُ الإناء إلى “الكبران” ليتناول فيه موقوف آخر “عشاءه”،ومضيتُ أجري،ناسيا جوعي،وقد خبّأتُ قطعة الخبز في جيب سترتي التي كانت أنيقة،لأنهم كانوا يمنعوننا من اصطحاب الخبز إلى الغرفة،حفاظا على “النظافة”.؟ وفي أول الممر المؤدي لغرفة الإيقاف الكبرى في بوشوشة [الغرفة 7]،يتراصّ الموقوفون في صفّ،ليأخذ كل واحد منهم “لِحافَيْن” [زاوْرة]،واحدة يتخذها فراشا والثانية غطاء،في عز الشتاء….ثم نندفع مسرعين إلى الغرفة ل”نختار” مكانا مناسبا فيها،وهي إحدى الزوايا الأربع لتلافي ما أمكن من الزحام…ويحاول كل موقوف أن يَحوز مساحة أوسع،وما تفتأ تلك المساحة تضيق بقدر ما يتزايد عدد الموقوفين،وتبدأ رحلة الصراع المرير ما بين البرد والنوم،فلا يُسلّم أحدهما للآخر،تزداد الرغبة للنوم في جوف الليل،فيزداد البرد انغراسا في اللحم والعظم،حتى إذا أصبح لا يُطاق،ننقلب على الجنب الآخر،ليأخذ نصيبه من سمّ البرد…وهكذا…. وبعد منتصف الليل،تعود سيارات شرطة الليل إلى “قواعدها” ببوشوشة مُحمّلة بأفواج من من الموقوفين السكارى،فيوم السبت هذا هو يوم السكر “الأجمل” للتونسيين،احتفالا واحتفاء بعطلة نهاية الأسبوع…وتيمّنا بقوم آخرين،ثم يزداد الاكتظاظ الذي لا يُطاق أصلا،حتى يصبح النوم أمرا مستحيلا…مستحيلا،إلا للسكارى،الذين يُسعِفهم ذهاب شعورهم وفقدان البعض من وعيهم بفعل الخمر،فيرتمون كيفما اتفق،على “زملائهم” النائمين،بأحذيتهم،وبروائحهم الكريهة،وببذاءاتهم،فإذا احتججتَ على أحدهم،يقول لك “دعني آخذ مكانك على الأرض،وارتمِ فوقي إن شئتَ،وإلاّ فاصمتْ…أنت موقوف ولستَ في نَزلٍ…”،أما أعوان “الأمن”،فينتهي دورهم إذ يدفعون بهؤلاء داخل باب الغرفة،وينصرفون إلى “أمنهم” ؟… … في أقصى الغرفة إلى اليسار،توجد بيت الخلاء،وهي عبارة عن جدار لا يتجاوز علوّه المتر الواحد،وبدون باب،وعلى يسار الداخل إليها،ينسكب ماء بلا انقطاع من قناة حديدية مُثبّتة في الجدار،تُستعمل للوضوء،وللشراب…؟ وكلما دخل داخل للخلاء إلا وخرج مبلّلا،وهو لا يستطيع أن يحول دون ذلك،لأن الماء المنسكب إذ يرتطم بالقاعة ينعكس على حذاء وثياب “المُختلي”، خاصة إذا “طال به المُقام” رغما عنه…ثم يشق ذلك الخارج من خَلائِه،بحذائه المبلل بالماء،وبِسِواه،صفوف الموقوفين الذين يصارعون النوم والبرد،فيصرعهم،فلا يأتي الصباح إلا وقد تبللت تلك الفُرش،بأحذية الذاهبين والآيبين من المرحاض اللعين. وعند الفجر،يهجم على الغرفة رجال الشرطة،بضجيجهم،وصراخهم وأحذيتهم ومفاتيحهم الثقيلة،يوقظون الموقوفين،محمرّي العيون مُنْهكي القوى من شدة البرد وقلة النوم،فيصطف هؤلاء متدافعين قريبا من الباب،ليذهب بعضهم القليل للمحاكم،ويخرج البقية للساحة العامة،ليقضّوا كامل النهار هناك،فيما ينادي البوليس “أين فلان؟”،فإذا أجبتُهُ،قال “أنت لا تخرجْ،والبقية جميعا يخرجون”؟…لقد اتخذوا قرارا بعزلنا،أولاد قضيتي وأنا،لذلك يظل كل واحد منا في غرفته لا يبرحها،ويندفع الموقوفون “العاديون” جريا خارج الغرفة التي اختنقت بالدخان والفضلات والروائح الكريهة الخانقة،وتنغلق عليّ وحدي،وقد أُخْرِجت كل الفُرش،فلا أستطيع الجلوس على الأرض.
وأشرع في جَوْبِ الغرفة ذهابا وإيابا،أسترجع ما أحفظ من القرآن الكريم،مرات ومرات…فإذا مللت من تلاوة ما معي من قرآن قليل،أو أدعية أو مأثورات،أشرع في حساب أعقاب السجائر لتمضية ما أمكن من الوقت،فإذا طال الحساب قليلا،وتجاوز المائتَيْ عقب سيجارة،أشعر أنني أخطأتُه،فأعيد الكرّة مرّة بعد مرّة…ثم أدخل في عملية “نوعية” أخرى،فتراني أحسب تلك الأعقاب بحسب نوعها: ذات اللون الأحمر أو ذات اللون الأبيض،فأفلح في قتل بعض الوقت الثقيل… وسوف يأتي بُعَيْد الثامنة صباحا من سوف يقطع علي “لعبتي” لأتلهى ب”لعبة” أخرى؟. ثم يأتي مسجونان أو ثلاثة ممّن شارفَتْ عقوبتهم على النهاية من أحد السجون الصغيرة المجاورة،وممّن “يُؤْمَنُ” جانبهم،ليقوما بغسل الغرفة،مُسلّحَيْن بخرطوم مياه مربوط إلى حنفية ذات ضخّ قويّ،ويبدؤون بدفع أعقاب السجائر ورمادها وبقايا علب التبغ والوقيد وقيء السكارى ومخاط المرضى والمزكومين بمفعول الماء القوي،وتراني أهرب من هذه الناحية في الغرفة إلى تلك،ولكن ما هي إلا دقائق حتى تتبلل القاعة بأكملها،ورغم محاولة هؤلاء دفع بقايا المياه إلى الخارج،فإنّ بِرَكا كثيرة تستعصي عليهم لأن أرضية الغرفة غبر مبلّطة بالجليز،ويذهب أولئك إلى غرفة أخرى،فيما أبقى وحيدا بعدما “آنَسَانِي” تلك الدقائق،وأستمر وحيدا،فلا يحين منتصف النهار إلا وقد تسمّمت ساقيّ بالبرد و”شبِعَ” حذائي البنّي الجديد وجواربي بالبلل. …………. وبعد أيام على تلك الحال،تمكن مني المرض،واحترق صدري ورئتيّ نتيجة نزلة برد حادة قاسية،ورغم محاولاتي العديدة لطلب الفحص الطبي،أو حتى بعض الدواء العرضي،فإن الجواب كان دوما يتراوح بين:”الطبيب خرج قبل حين….أو…سيعود بعد حين” ولكنني لم أره على كل حال،واصطحبْتُ مرضي حتى زال “بمحض إرادته”؟…وظللتُ أمنّي النفس دوما أن السجن أفضل من الإيقاف،ولو كنت هناك لأُخِذتُ للطبيب كما كان يقول لي “الراسخون في السجن”…. وانقضى إيقافنا،ونحن نحلم بالسجن…ولا نحلم بالحرية… فهل كان السجن حلما؟ أم إنه تمخّض عن أحلام أخرى ؟؟؟؟ صالح مطيراوي 26 12 2011