كان صاحبي الذي يقاسمني “الغرفة” رجلا شرها أكولا،ما إن يُؤتى بالطبق حتى يهرع إليه فيأتي على ما فيه،وكان الطعام جيدا متكاملا في الجملة،فلا تخلو وجبة من قطعة لحم بقري ومن علبة ياغرط من نوع “ستيل”،صناعة شركة وطنية،وكان الحليب متوفرا ،ولكنني لم أستطع الأكل أياما طوالا،ولم أكن أحس بالجوع أصلا،بل إنني أحس بنوع من “القرف” من صاحبي لكثرة أكله،وأستغرب كيف يجد في الأكل لذة في ذلك المكان…؟ وبمرور الأيام بدأت أشعر بانهيار بدني وبارتخاء في مفاصلي،ودوار في رأسي،وأصبحت أجد صعوبة في ارتداء سروالي،لأنني لا أستطيع أن أستقيم واقفا على ساق واحدة أثناء اللباس. وفي الصلاة كان يشق علي الركوع،فلا أستطيع أن أوفيه حقه،شكوت ذلك إلى صاحبي،فأعلمني أن “الطبيب” يزورنا كل يوم وعليّ أن أستشيره. ولكنني لم أر الطبيب ولا يوما واحدا،قلت له،فأجابني بأن ذلك الرجل الذي يطل علينا عبر تلك الثقبة الصغيرة في أعلى الباب كل صباح ويسألنا “لا باس؟” ثم يغلق تلك الثقبة ويمضي في سبيل حاله هو “الطبيب”……. لم أكن أعلم بذلك قبل اليوم،ولم أفهم كيف يفحصنا “الطبيب” عن بعد عبر تلك الفتحة الصغيرة وذلك السؤال القصير الجاف “لا باس” فيجيبه صاحبي “لا باس”…ولكنني قررت أن أقول له في الغد “لا موش لا باس”…وكان الأمر كذلك،وانتظرته من الغد صباحا،ولما جاء وفتح تلك الثقبة من الخارج وسأل “لا باس؟” قلت له “أنا مريض يا دكتور”،فنادى الحارس ليفتح له الباب ودخل عم سالم “الطبيب” وقال لي مابك يا بنيّ،ما يؤلمك؟”،قلت له “رأسي يا دكتور…أحس بدوار في رأسي،وبضعف شديد…أنا لا أستطيع الوقوف يا دكتور…” كان “عم سالم الطبيب” رجلا متواضعا في هيأته ولباسه وكلامه،لم يبدُ لي أنه دكتور،ولكن لا يهم،عليّ “التعاون” معه هو الآخر لعلّي أجد دواء لحالتي.. سألني عم سالم “هل عندك سكّر؟”،وهو يقصد مرض السكر،فقلت له لا أدري،أنا لا أعرف مرض السكر ماذا يعني؟ فقال لي “لعلك ناقص سكر”،والتفت إلى ركن الغرفة فرأى ” كسكروتي ” وقارورة الحليب كما جيء بهما إليّ فقال “أنت لم تفطر يا ابني،أنت لم تأكل “دواءك”،هذا هو دواؤك،هو الطعام،انهض يا ابني وكل ” كسكروتك ” واشرب الحليب وستصبح صحيحا كالحصان… كان كلام “الطبيب” يؤكد عندي انطباعي أن الرجل ليس طبيبا،ولكنني اقتنعت…. خرج عم سالم وأطبق الباب وراءه وهو يقول “لا باس عليك…افطر أنت لا بأس عليك”،ونهضت إلى “فطوري” وشرعت آكل،تناولت قطعة الخبز ولكنّ الريق في حلقي جفّ واستعصى،أين ذهب ريقي؟ حاولت وأعدت المحاولة ولكن الخبز ظل يابسا في فمي فكنت أستعيض عن الريق بالحليب،فأسكبه في فمي بغزارة،كانت رائحة الحليب كريهة،ولكن لم يكن من ذلك بد…فهذا هو “دوائي” ، وقد اقتنعت بذلك… وبدأت أستعيد صحتي شيئا فشيئا،والتصالح مع الطعام،وبدأت الحاجة تزداد لبيت الخلاء……… كان المرحاض منتصبا داخل الغرفة في ركنها الأيمن من جهة الباب،وكان عبارة عن حائط قصير لا يبلغ المتر الواحد فيما أذكر،حتى أن الواحد منا عليه أن يتوطّأ قليلا قبل أن ينزع ثيابه لقضاء حاجته،وأن يشرع في اللباس قبل أن يستوي واقفا إذا قضاها…كان ذلك تدريبا ضروريا على التأقلم مع وضع يصبح فيه الحياء والكرامة والرجولة أمرا غير ذي معنى،وقد “يفيد” ذلك أكثر مما يفيد السجن والضرب ومشتقاتهما،فالهدف الرئيس في آخر المطاف هو النزول بالموقوف إلى أدنى دركات الآدمية…..؟ ولم يكن في المرحاض حنفية ماء،قيل لنا إنها معطّبة،ومن أراد منا الماء فعليه أن يدق الباب طالبا الماء،فيفتح لنا البوليس ونذهب إلى حنفية تقع في فناء ساحة الأقبية فنملأ ما تيسّر من قوارير الحليب الفارغة ونضعها في المرحاض…وكنا نقتصد فيها أشد اقتصاد لأن الحرّاس كانوا يتباطؤون في الاستجابة لطلبنا بجلب الماء… وظللنا على تلك الحال أياما،حتى ذهب صاحبي إلى حيث ذهب،وجيء إليّ ب”ساكن” آخر…إنه صديقي وزميلي السابق في الدراسة و”ولد قضيتي”،وهو خصوصا من دلّ البوليس على اسمي وعلى هويتي… وسوف أقضي مع صاحبي القديم الجديد بضعة أيام ما بين الأقبية وما بين بناية 18 جانفي….ثم يفرّقنا السجن نحوا من الثلاث سنوات،لنعيد اللقاء من جديد يوم 14 أكتوبر 1998،حيث سيتمّ نقلنا معا،من سجن 09 أفريل [ذكرى عيد الشهداااااااااااااء] ،حيث كنا نقيم في جناحين مختلفين، إلى سجن القصرين ،حيث سنسكن غرفة واحدة، إلى يوم 28 نوفمبر من نفس السنة…”تاريخ إطلاق سراحنا”…وتلك قصة أخرى. يتبع صالح مطيراوي 10 10 2011