لئن انفجرت بعد الثورة ظاهرة تشكيل الاحزاب الى درجة ان تجاوز عددها المائتين، في حين أن الفاعلين يعدون على الاصابع، فإن المتابعين للشأن التونسي يؤكدون ان هذه الظاهرة في طريقها الى المحاصرة بمجرد صدور نتائج الانتخابات المقبلة، خاصة جل الاحزاب التي حصلت على تأشيرة العمل القانوني بقيت مجرّد رقم على ورق ولن تكون قادرة على مجاراة نسق التسارع في المشهد السياسي. وأنهك تعب التجربة السياسية القصيرة التي عاشتها تونس بعد الثورة، ومتلازمة الفشل أغلب هذه الأحزاب، خاصة الحديثة منها التي ما انفكت تقع فيه خلال العدد القليل من المحطات الانتخابية التي خاضتها، ولم تقدم خلالها لتونس كثيرا، سوى أمجاد وهمية، وبرامج شعبوية، عجزت عن الاقناع بها. وظل المشهد السياسي التونسي يعيش صراعا بين الأطياف السياسية وحتى بين قيادات الحزب الواحد، ادى في أغلب الاحيان الى انفصالها وبروز أحزاب سياسية جديدة لم تستطع بعد الاهتداء الى طريق الاستقرار والتوحد رغم رصيدها النضالي. تسبب ذلك في فقدان بعض الأحزاب امتدادها الجماهيري بسبب لعنة الانشقاقات المتلاحقة والتي أفضت إلى تحولها إلى كيانات صغيرة أقل نفوذاً وتأثيراً وهو أمر يمكن ملاحظته بوضوح في أحزاب متعددة أثبتت أن لعنة التشتت الحزبي تتجاوز الهزيمة الانتخابية أو الفوز بها. ويؤكد أساتذة في الاجتماع السياسي أن واقع التشظي الذي تعيشه الكثير من الأحزاب السياسية التي كانت تنظيمات قبل الثورة وحصلت على التأشيرة القانونية بعدها أو كأحزاب شاركت في النضال ضدّ بن علي، فهذه القوى التي تضررت كثيرا من النظام السابق، وجهت صراعاتها إلى داخلها على المناصب والمراتب الاولى للزعامة فتشظى بعضها وأُفرغ البعض الآخر من قواه الحقيقية، مع الإشارة إلى أنّ هذا لا ينسحب على كل الأحزاب وإنما على بعضها وهي التي كان الناس ينتظرون منها أداء أفضل سواء خارج الائتلاف الحاكم أو داخله. و تواجه الأحزاب عموما، عائقين كبيرين، في خوض غمار الانتخابات، أو حتى الاستمرار في التواجد على الساحة، يتمثل الأول في مؤشرات عزوف التونسيين عن المشاركة في الحياة السياسية عامة، ويتمثل الثاني في قدرات الأحزاب على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، مع الكم الهائل من الصراعات التي خاضتها، فقط من أجل الحفاظ على استمراريتها. و يؤكد المحلل السياسي عبد الله العبيدي في تصريح لل"شاهد" أن الشرذمة التي تعيش على وقعها الساحة السياسية التونسية ونخبها لم تحصل حتى على الصعيد العالمي، وتشتتت النخب التونسية، إن وجدت، يمنعها من التفكير في مشاكل المجموعة والبلاد، على حد تعبيره. ويشير مراقبون الى أن النشاط الحزبي في تونس بقي منغلقا على نفسه ويرزح تحت وطأة مشاكله الداخلية ويبحث الفاعلون فيه عن المصالح الضيقة والمنافع الشخصية، ويُعتبر تغيب قواعده من القرارات التي تتخذها مركزيته، أبرز نقاط ضعفه، واهم أسباب الوهن السياسي الذي تعيشه أغلب الأحزاب. يشار الى ان أغلب الاحزاب في تونس باستثناء حزبين أو ثلاث، فقدت الكثير من قواعدها الشعبية وأضاعت بوصلتها باعتبارها محورا رئيسيا في خلق التوازن بالمشهد السياسي، وانعكس ضعف أدائها على تعاطي عموم التونسيين معها، باعتبار أن قواعدها في الجهات الاكثر اهتماما بمشاغل المواطنين بعيدا عن المركز والمصالح الحزبية. وعموما تغلب على الاحزاب السياسية في تونس نزعة الزعامة، ما جعل من أغلب الاعضاء الذين تولوا مناصب في الحكومات المتتالية ثم غادروها يلجؤون الى تكوين أحزاب سياسية يقودونها، أغلبها تكونت على بقايا أحزاب أخرى، او ضمت اعضاء انشقوا من احزاب تكونت اغلبها بعد الثورة. وأشار المحلل السياسي والمؤرخ عبد اللطيف الحناشي في تصريح لل"شاهد"، الى أن المقموعين قبل الثورة سعوا بعد المرحلة التي تلت فترة النظام السياسي الى تكوين احزاب سياسية وأحزاب داخل الاحزاب، ما أدى الى تناثر هذه القيادات وتعارضها في كثير من المواقف السياسية، لأن سلوكها متناقش ولا يلبي بعض الرغبات. ويؤكد مراقبون أن الراهن السياسي في تونس يقوم أساسا على أحزاب انتخابية، لافتين الى أنها أن تنعم بسباتها الفكري والمعجمي والاتصالي إلى حين قرب الاستحقاقات التمثيلية، بعد أن أنهكتها السياحة الحزبية، والصراع حول الكراسي، ما قد يحيلنا من عزوف الناخبين الى عزوف الاحزاب عن المشاركة في العملية السياسية.