سبعة رؤساء حكومات تعاقبوا على قصر القصبة منذ يوم 14 جانفي 2011 ، تاريخ الثورة المشهود، منهم من لم تتجاوز عهدته الأسابيع، ومنهم من تجاوز السنة بشقّ الأنفس .. وحده يوسف الشّاهد أحكم تمسّكه بتموقعه على رأس الحكومة وظلّ متمركزا أكثر من سنتين بالقصبة ، رغم ما تعرّض إليه من ضغوط ومحاولات تركيعٍ خلال الأشهر الأخيرة عقِب اتّقاد الأزمة بينه وبين نجل رئيس الجمهورية والرئيس التنفيذي لحزب نداء تونس حافظ قائد السبسي. فمن أين يستمدّ ساكن القصبة قوّته؟ الدّاعمون الدّوليون والشّاهد لا يختلف اثنان حول الدّعم الذي يحظى به يوسف الشاهد، الذي روّج لنفسه صورة رئيس الحكومة الشّاب الطموح المتحمّس والشجاع، من المقرضين الدوليين ونجاحه إلى حدّ ما في الحفاظ على توازن علاقات تونس بداعميها، طيلة فترة حكمه التي لا تزال مستمرة بعد، على الرّغم من تعثّرها النسبيّ في تحقيق الإصلاحات التي في عهدتها لسبب أو لآخر.. نجح الشّاهد في كسب ودّ المقرضين والمانحين الدوليين ، بغضّ النظر عن الفوائد التي عاد بها على خزينة الدولة ممّا أنعش احتياطي البلاد من العملة الصعبة بعد أن تجاوز مستواه الخطوط الحمراء، مَنَحَهُ ورقةً رابحةً داعمةً له. ولعلّ المكانة الجيّدة التي يحظى بها الشّاهد دوليّا حظي بها بفضل الحرب على الفساد التي أطلقها في الرّبع الأخير من شهر ماي من سنة 2017 ، انطلقت بإعلانه قرارا بإيقاف عدد من كبار رجال الأعمال ومهربين ومسؤولين جمركيين بتهم المساس بالأمن القومي، معلنا حربا شاملة على كبار الفاسدين في البلاد استنادا إلى أحكام قانون الطوارئ، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ تونس. وجاءت حملة الإيقافات التي طالت شخصيات نافذة في عالم المال والأعمال بعد ورود تحذيرات محلية ودولية من ارتفاع غير مسبوق لمنسوب الفساد في البلاد، فضلا عن كشف مصادر أمنية عن معطيات حول ضلوع رجال أعمال ومهربين في تأجيج الأوضاع بالجنوب ودفع المعتصمين في المناطق النفطية إلى الانتقال من الحراك السلمي إلى قطع الطرق وتخريب معدات الشركات النفطية.. الحرب على الفساد ورقةُ الشّاهد الرّابحة حرب الشّاهد على الفساد مثّلت المنعطف الأوّل وليس الأخير في صفو علاقته ب”السّبسي الابن” ، والسّببَ الرئيسيَّ في مساعي هذا الأخير للإطاحة بحكومة غريمه. فمنذ تصدرت الواجهة دعوات “ندائيّة” لإسقاط الحكومة بدءًا برأسها، تصاعدت عديد التساؤلات حول الأسباب الرئيسية التي تجثم خلف هذه الدعوات المفاجئة والمصرّة على إقصاء الشاهد . وتعددت الروايات حول ذلك، ورجحت بعضها أن الحملة التي شنّها الشاهد على الفساد واعتقاله لرجل أعمال مقرب من حافظ قايد السبسي أبرز الأسباب خلف المساعي لإبعاد رئيس الحكومة. هذه الرواية دعمها النائب الصحبي بن فرج بعد استقالته من كتلة الحرة التابعة لمشروع تونس وقبيل انضمامه إلى كتلة الوفاق الوطني (القريبة من يوسف الشاهد) ، الذي قال في تدوينة نشرها على حسابه الخاص بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك بتاريخ 26 أوت 2018: " جريمة يوسف الشاهد أنه تجرّأ يومًا وفقأ عين الأخطبوط فتحركت الأذرع في كل الاتجاهات . ربما لم يكن الشاهد يعلم يوم 23 ماي 2017 أنه بضرب رأس الشبكة (مهما كانت الأسباب أو الآليات أو المنهجية أو المسار وحتى المشروعية القانونية) قد أصبح عمليًا العدوّ الوجودي لكامل الشبكة" . و اضاف النائب بالبرلمان، في نص تدوينته، "دعكم من مسائل الفشل والنمو والدينار والتضخم وانقطاع الماء والدواء وتأخر الجرايات، وكلها مواضيع مهمة وجدية وخطيرة تُناقش موضوعيًا في إطارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وسياقها الزمني وليس بإسقاطها حصريًّا وبطريقة مبتذلة على رأس يوسف الشاهد دون أي اعتبار لأمراض النظام السياسي، وعِلل الأحزاب الحاكمة، ونقائص مجلس النوّاب، وكارثية الوضع السابق لتسلم الحكومة مقاليد الحكم" . الانتصار على الإرهاب حافزٌ إضافيّ شكّلت النّجاحات التي حقّقتها المؤسستان الأمنية والعسكرية منذ تسلّم الشّاهد مقاليد الحكم، نقطة إضافية في رصيده، إذ تمكنت المؤسستان في السنتين الماضيتين من إفشال عمليات إرهابية بالجملة وحققتا نجاحات لافتة في تفكيك خلايا إرهابية كانت تخطط لزعزعة الأمن و الاستقرار . النجاحات الأمنية قادت إلى رفع ثقة التونسيين في المؤسسة العسكرية والأمنية، وفق أكثر من عملية سبر للآراء أجرتها مؤسسات متخصصة، ما رأى فيه الخبراء مؤشرا قويا على أن اتجاهات الرأي العام تراهن على المؤسستين لا فقط لضمان الأمن والاستقرار وإنّما أيضا لحماية مدنية الدولة ومسار الانتقال الديمقراطي. وفي خضم هذا الشأن، كان مدير مؤسسة “أمرود كونسيلتينغ” لاستطلاع الرأي نبيل بالعم قد أكّد ، في تصريح إعلامي عقب نشر مؤسسته بالشراكة مع جريدة الصباح لسبر آراء حول ثقة التونسيين في المؤسستين الأمنية والعسكرية في تونس ( للفترة من 29 ماي إلى 1 جوان 2018 ) ، أن مؤشر “الخطر الإرهابي” شهد تراجعا ليصل إلى مستوى متدن جدا. مؤسسة سبر الاراء كشفت، في تقريرها، أن 84 في المائة من التونسيين يرون أن خطر الإرهاب تراجع، و أن “التونسي يبدو مطمئنا من حيث السيطرة على الإرهاب”. هذه الإنجازات على المستوى الأمني للبلاد، مثّلت ورقة رابحة إضافية في رصيد يوسف الشّاهد ونقطة قوّة له لدى الحاضنة الشّعبية. دعم برلماني واسع غير متوقّع أزمة الشاهد مع المدير التنفيذي لحزبه انطلقت بادئ الأمر خلف أسوار “قلعة البحيرة”، و بدأ غسيلها ينشر للعيان رويدا رويدا إلى أن خرجت مقاليدها عن السيطرة بالمرّة مع انطلاق موجة الاستقالات واتساع دائرتها حدّ انهيار أعمدة الحزب. ولم يدرك السبسي الابن، بادئ الأمر، حجم الدعم الذي يلقاه الشاهد من نسبة هامة من الندائيين ، لكنه خرج من “منطقة الرّاحة” منذ خسارته ما عُرف باسم “المعركة الصّغيرة” المتعلقة بجلسة التصويت على وزير الداخلية هشام الفوراتي تحت قبة باردو ، لاسيما وقد أحرز الأغلبية الساحقة من أصوات نواب الشعب، مما جعل الكفة ترجح لصالح يوسف الشاهد الذي دخل البرلمان من بابه الكبير طالبا منح الثقة في وزير الداخلية شكلا و كسب الثقة في حكومته مضمونا. و بفوز الشاهد فيما وصفه متابعو الشأن السياسي ب”المعركة الصغيرة” ، قد أحرز هدفه الأوّل في مرمى المدير التنفيذي لنداء تونس الذي بدا في حلة “السياسي المبتدئ والغرّ” وفق ما وصفه به محللون لاسيما وأنه قد عمد إلى تغيير موقفه من رفض منح الثقة إلى قبولها في ظرف سويعات معدودة إثر اجتماعين متتالين مع نواب كتلة نداء تونس. ومنذ تلك الجلسة، تسارعت الأحداث على السّاحة السياسية لعلّ أبرزها تكوّن كتلة برلمانية جديدة مساندة للشّاهد تحت مسمّى “الائتلاف الوطني” برئاسة النائب مصطفى بن أحمد أُعلن عنها يوم 27 أوت 2018 ، ضمّت في بدايتها 34 نائبا فقط واتّسعت دائرة المنضمّين إليها، وتكون بذلك الكتلة البرلمانية الثانية من حيث عدد النوّاب ، بعد حركة النّهضة التي تضمّ 68 نائبا برلمانيّا، وتقهقرت كتلة نداء تونس بذلك إلى الترتيب الثالث وهي مهدّدة بمزيد التّقهقر في حال استمرّت موجة الاستقالات على ما هي عليه. لوبيّات ضاغطة تضيّق خناق الحكومة ضرب الاقتصاد سلاحٌ ذو حدّين عنوانُ نجاحِ الدّول نهوضُ اقتصادها ، وتركيع دولة ما يمرُّ غالبا عبر ضرب اقتصادها بضغوط مختلف اللوبيات. ولعلّ من البديهيّ استنتاج أنّ ما يجدّ من أزمات متواترة مرتبطة بالخصوص بقطاع الأدوية وبالمواد الأساسية خلال الفترات الأخيرة خيرُ دليلٍ على وجود “إنّ” في المسألة، لاسيّما وأنّ هذه الأزمات انطلقت مع بداية التجاذب بين الشاهد وحافظ. أزمة الزّيت النّباتي ، تلتها أزمة سُكّر الطّعام ، عقبتها أزمة الحليب، ثمّ أزمة البيض.. جلّها كبواتٌ مفتعلة ، في غالبها ، من أجل تعثير الحكومة وحشرها في الزاوية. فعلى الرّغم من اتّخاذ الحكومة قرار الرّفع في سعر الحليب عند الانتاج والمحافظة على نفس تسعيرة البيع للمستهلك في مسعى لإرضاء الفلاحين الذين كانوا قد تسببوا في انقطاع مادة الحليب عن الأسواق بادئ الأمر، إلا أن مادة الحليب ظلّت مفقودة في الأسواق ما أرجعه مراقبون إلى احتمال تورّط كبار المصنّعين في مساعٍ لافتعال أزمة. أزمة البيض أيضا خلقت جدلا واسعا وردود أفعال مختلفة، خاصة وأن الدولة قد حدّدت تسعيرة معينة ، في حين سارعت اللوبيّات إلى الاحتكار قصد السَّيطرة على الأسواق والتحكم في الأسعار على هواها. سوق التّجارة ليس وحده المتضرّر من أخطبوط اللّوبيات، فمرفق الصّحة بدوره قد مسّه هذا “السرطان” ، ألم يتحدث ناجي جلول المدير العام للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية والقيادي في النداء، عن تهويل كبير لأزمة نقص الأدوية وأن "بعض اللوبيات تريد تضخيم الأزمة للدفع نحو التفريط في الصيدلية المركزية للخواص"؟ هذه الأمثلة تحيل ، دون أدنى شكّ، إلى المساعي الحثيثة واللّامُتناهية لدفع حالة التذمّر بين المواطنين وخلق “احتقان شعبيّ” ضدّ الحكومة. الإعلام ودوره في التأليب ليست لوبيّات الاقتصاد وحدها التي لعبت دور الضّغط على مؤسسات الدولة قصد إرباكها، إذ نجد لوبيات الإعلام التي تساهم إلى حدّ ما في توجيه الرأي العام والعمل على التأثير عليه ، سواء من خلال تضخيم واقع الأزمات أو عن طريق تقزيم دور الحكومة في عملها على السّيطرة على الوضع العام. ويكمن دور وسائل الإعلام في تأجيج الرأي العام والتحريض، وخير دليل على ذلك ما حدث في احتجاجات جانفي 2018 وما رافقها من أحداث عنف وشغب، بسبب اتّخاذ عدد من السياسيين المنابرَ الإعلاميّة وسائل لمزيد التحريض وبعث رسائل طمأنة لمن هم في الشارع بأنّ لهم غطاء سياسي.
بشكلٍ أو بآخر، مثل الاتحاد العام التونسي للشّغل، على الرّغم من مشاركته في حكومة الوحدة الوطنية طيلة سنة كاملة منذ التوقيع على وثيقة قرطاج 1 ، أحد أبرز أذرع الضّغط على الحكومة منذ مطلع 2018 ، بيد أنّ الشّاهد فكّ شفرات اللعبة وتمكّن إلى حدٍّ ما من تحييد الاتّحاد والتوجه إلى تهدئة الأوضاع ( مثال: التوصّل إلى اتّفاق في 21 أكتوبر 2018 على إلغاء الإضراب العام المزمع تنفيذه في 24 أكتوبر 2018 بعد إقرار زيادات في اجور اعوان القطاع العام لسنوات 2017 و 2018 و 2019 والتزام الحكومة بمراقبة الاسعار عبر التحكم في مسالك التوزيع، وتعهّدها بعدم التفويت في المؤسسات العمومية ودراسة وضعياتها حالة بحالة بالشراكة مع الاتحاد العام التونسي للشغل). وفي كلّ الأحوال ، معركة يوسف الشّاهد مع اللوبيات لا تعدّ معركة شخصيّة، بقدر ماهي معركة الدّولة مع هذه اللّوبيات وتتجاوز الشّاهد في شخصه. وقد عوّل الشّاهد في خوض هذه المعركة على عامل ربح الوقت ليتمكّن من تحقيق مكاسب من خلال اختراق لوبيات الضّغط والبحث عن الهدنة.. لكن ، طالما أن الرؤية لا تزال ضبابية بعد بخصوص مشروع يوسف الشاهد السياسي أو الحزبي أو الانتخابي، فإن الباب يظلّ مواربا أمام كلّ التوقّعات وبالتالي يضحي تموقعه غير ثابتٍ وقابلا للزحزحة في أيّ لحظة…