(اذاعة صفاقس) عام مضى على احتلال بلاد الرافدين واغتصاب عاصمة الرشيد. عام مضى ونحن نصلّي على أرواح الاموات والاحياء الاموات في وطننا من الخليج الى المحيط. عام مضى، بل سنوات، بل قرون ونحن نردّد من الخليج الى المحيط وراء الإمام: يا رب شتّت شمل الكفار واحرق زرعهم وبدّد نسلهم والاحوال هي الاحوال والظروف هي الظروف و»الله يؤتي النصر من يشاء وليس حدّادا يصنع السيوف» نزار قباني وبعبارة أفصح وأبلغ: «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم». لو أحد يمنحني الأمان ويدعني أحلم وأثرثر على ضفاف دجلة لقلت: أن أرضنا المستباحة من الخليج الى المحيط، وحريتنا المنتهكة من الخليج الى المحيط ورجولتنا المهدورة من الخليج الى المحيط أمور لا يمكن ان تثير الدهشة والاستغراب الا في أذهان الحمقى من الخليج الى المحيط. لو أحد يمنحني الأمان (وكم هم قلّة من يمنحون الامان من الخليج الى المحيط) لقلت أن ما يجري في العراق هو نسخة كربونية لما جرى في فلسطين، بفارق بسيط: أننا توهمنا حسب ما أكّده لنا اساتذة التاريخ بأن التاريخ لا يعيد نفسه واذا بالتاريخ يستنسخ نفسه ودوللي الانقليزية لا تختلف في شيء عن دوللي الهوليودية. أنا محبط الى حد الذهول عندما أقرأ وأسمع أو أشاهد الكثير يدينون ما يجري من قصف وتدمير واحتلال، أنا محبط الى حد الغثيان وانا ا راوح بين الفضائيات امام كرنافالات التهديد بما يقترفه اعداء هذه الامة ولا يبقى في ذهن الواحد منا بعد جل الاطروحات الا: يا جماعة، يا جماعة... وأتساءل بأي عقل يقرأ المواطن العربي الاحداث؟ ماذا ينتظر العقل العربي من اعداء هذه الأمة؟ أن تمطر طائرات الاباتشي وردا وعطرا على جنين وغزة ونابلس والفلّوجة والعامرية والنجف؟ هل ننتظر من قاذفات الصواريخ ان تتحول الى أياد ناعمة تطبطب على كتفي عجوز وتكفكف دموع أرملة وتمسح على جبين يتيم؟ هل ننتظر ان تتحول الاف 16 و18 الى صهاريج تضخّ الدولارات لاعادة الاعمار هنا وهنالك تكفيرا عن نصف قرن من التخريب والدمار؟ إنهم اعداء الأمة انهم أسود غاب لا قوة فيها الا لمنطق القوة فمتى نفهم اللعبة بقوة المنطق؟ إنهم اعداء يعتبروننا في افضل الحالات ديكة (وهم محقّون في ذلك بعض الشيء لأن صراخنا اضخم من جثثنا ولأننا إن أفلحنا طيلة أزمنة عديدة ففي نقر عيون بعضنا البعض) ومثلنا الشعبي يجسد في ابهى حلة ما اقول (الفللوس ما ينقر كان عين خوه). إنهم اعداء الامة درسوا تاريخنا جيدا منذ الجاهلية مرورا بالاسلام وحتى صلاح الدين آخر اشراق ضوء... أدركوا ان الواحد منا في عهود خلت كان يقول للغمامة اذا مرت: (هارون الرشيد) «امطري انى شئت فخراجك آت اليّ» إنهم لم يشفعوا لنا قبل ذلك كيف حطّ ابو عبيدة الجراح بجيوشه في قلب فلسطين وكيف سلّم مفاتيح القدس لعمر بن الخطاب انهم لم ينسوا كيف تمرغت الجياد العربية تستحم في مياه اسبانيا وتتشمّس تحت امرة طارق بن زياد... انهم لم يهضموا أبدا ملحمة صلاح الدين الايوبي مع ريتشارد قلب الاسد... وهم في الوقت نفسه يعرفون اكثر منا خيباتنا ونقاط ضعفنا منذ الفتنة الكبرى مرورا الى الانحدار العربي في الاندلس وصولا الى دولة المماليك في مصر... والى دويلات المماليك في العصور الحالية... ولأنهم يعرفون كل ذلك جيدا ناصبونا العداء وخططوا له منذ امد بعيد. انظر كتاب Lصétat voyou لوليام بلوم هذا كتاب لواحد منهم لم يمت ضميره فكتب عن كل هذه المخططات وعن تورط الصهاينة في عدائنا. عما انجزوه وعما مازال ينتظرنا منهم: بالأمس فلسطين، اليوم العراق وغدا من يدري؟ رغم أننا ندري انها لن تكون الا دمشق او طهران في انتظار بعد غد: وفيه قاهرة المعز... ومكة المكرمة. كل الاحداث منذ حقب ليست بالقصيرة كانت تصب في مصب واحد: هذه الامة يجب ان تنقلب فيها كل القيم ويجب ان يمشي فيها الفرد على رأسه عوضا عن رجيله، انذاك لن يكون قادرا على رؤية الاشياء الا بالمقلوب... واطلالة صغيرة على ما يجري تؤكد انهم نجحوا في جل دويلاتنا في تحقيق انجازاتهم... صفحات الجرائد مثلا في وطننا العربي تؤكد اننا مقلوبون على أدمغتنا... جرائم بشعة يقتل فيه المرء والده وبنيه وينتحر فيها الشيطان من فظاعة ابن آدم ومآسيه. انظروا الى الرياضة في وطننا العربي... الرياضة وسيلة التحابب اصبحت وسيلة للتفرقة والضغينة بين نوادي البلد الواحد وبين البلدان الشقيقة... انظروا الى المعلم الذي كاد يكون رسولا والمربي عموما كيف ا صبح مغشيا عليه من تطاول الناشئة... أما عن الاقتصاد «فهات شاشيتك هات صباطك» الثقافة، اية ثقافة هذه التي تتحدث عنها؟ ثقافة «الربوخ والكلوخ»؟ ثقافة تفريخ الاصوات التي لا تملك شيئا من الاصوات وعزاؤها في ذلك امكانياتها الجسدية المغرية... تصوروا فقط ان الشباب العربي يرسم نفسه في طابور قوامه عشرات الالاف بل مئات الالاف للمشاركة في سوبر ستار. أية حاجة للوطن العربي بهذا الكم الهائل من الغربان. تصوروا فقط ان ستار أكاديمي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس يطلع علينا في خاتمته بمهرّج لا صلة له بالغناء بتاتا... أليس هو العالم بالمقلوب... وطن عربي وظّف كامل وقته لقناة الستار ملاحقا خلاوي او بشار وبقية القائمة من اشباه النجوم بينما العراقيون والفلسطينيون هناك «يرون النجوم في القائلة». ثم ما هذا الكم الهائل من فضائيات الكليبات وفضائيات تلفزة الواقع كما يحلو لهم تسميتها؟ «من لوفت ستاروي»، الى «نايس بيوبل» الى «بيق براذر» الى «باشلور» الى «كوليكاتار» الى «علهوى سوى» هل هذا هو واقعنا؟ هل واقعنا يعني: «انس الدنيا وريّح بالك وما تفكرشي في الاحزان» و»اضحك للدنيا يا سلام على الدنيا»؟ أليست هي عملية تهجين وتدجين وتعقيم للعقل العربي؟ هل قٌضي الامر وحُكم على العقل العربي بالسجن المؤبد في ثلاجة وأن نفسح المجال لأنصافنا السفلية تحرك أقدارنا؟... نعم هكذا هم يريدون... يريدون تحويلنا الى بهائم، نعلف وننهق ونركب البعض.... ثم ننام. هم دعاة خير واصلاح يقولون بايجاز وبكل وضوح: لا تتعبوا أنفسكم، سنفكّر بدلا عنكم فقط استهلكوا، استهلكوا... استهلكوا.. أو.. اهلكوا... لنتصارح من الخليج الى المحيط... كم من قمة عربية عقدت منذ عقود؟ كم من قمة افلحت في رأب الصف العربي؟ جلّ الحكام في تلك القمم كان شعارهم: الضحك على ذقون بعضهم البعض وعلى ذقون شعوبهم... وجل الشعوب... إما فرايجية او غوغائية. ان هذه ا لارض العربية من الخليج الى الخليج تسبح فوق مائدة من الخيرات، فماذا فعلت بخيراتها وهي لم تتخلص بعد من مخلفات الفتنة الكبرى؟ نحن في جلّنا قبائل متناطحة تناطح الاكباش ومتنطعة تنطع قطيع من الماعز... رغم الهبة الكبرى: لغتتنا الواحدة وديننا الواحد ان هذه الارض العربية التي انجبت عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وصلاح الدين الايوبي في حاجة الى نظام عربي جديد يؤمن بالانسان وبدين التسامح والعمل وبالأمة الوسط.... نظام عربي جديد يؤسس لقرن آخر قادم نسترد فيه عقولنا وأراضينا وخيراتنا وهذه المرة لا بد للتاريخ ان يعيد نفسه... التاريخ منذ فرعون وهامان وقيصر الروم وكسرى وهرقل وتيمور لنك وهولاكو وهتلر وستالين... أكّد وعلى لسان احد روادهم (جان جاك روسو) أن: Le plus fort nصest jamais assez fort pour être toujours le maître (الاقوى لا يملك دائما من القوة ليبقى السيد) وقالها ابو البقاء الرندي قبله: هي الامور كما شاهدتها دول: من سرّه زمن ساءته أزمان. وجاءت على لسان الحق: «وتلك الايام نداولها بين الناس». الغد لنا حتما شريطة أن نفهم جميعا ان السماء لن تمطر ذهبا وان ليس البر أن نولّي وجوهنا قبل المشرق والمغرب بل البر ان نعمل ونعمل ونعمل. البر ان نسعى لمشروع ثقافي، اعلامي، اقتصادي، واجتماعي واحد وعلى مدى بعيد، مشروع من المحيط الى الخليج يحرر العقل العربي من الاستعمار الداخلي ويعيد له توازنه فنضجه ففعاليته لن يكون ذلك بالامر الهيّن فالاعداء بالداخل والخارج والمتربصون بنا دوما سيسعون ودفاعا عن وجودهم الى عرقلة كل مساعينا ولكن اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.